حين تساوينا
قبل سنوات، كنا نتوجّه جميعا، نحن النازلين المحشورين في الطائرة- سجن لا جغرافيا له، إلى صالة الانتظار. نلبس الكمامات وصامتون. كنا من لغاتٍ وأماكنَ وخلفياتٍ متشابكةٍ متصارعة. جمعتنا رحلة سيقدّر لها أن لا تتمكن من العودة، وألا تهبط بشكل اعتيادي. كان ذلك في لحظة ارتفاع الإنذار الأقصى من منظمة الصحة العالمية، ونحن في الجو.
طافت الطائرة عدة دورات حول المطار الأقدم في أوروبا، ثم سمحوا لنا أخيرا بالهبوط، معدين الترتيبات. نزلنا يتلقف كل واحد منا، في بداية النفق الذي يشبه في المخيلة نفق الآخرة، كمامة كنا نعرف أنها لا تنفع ولا تدفع شيئاً.
الوباء لا مصل له كما أكّدت المختبرات والأخبار ولا علاج؛ الفيروس ستتفلّت منه طفرات أخرى، لاحقا، لا حصر لها.
وهكذا وجدنا أنفسنا، جميعا، في وضع استثنائي لا شيء معه إجراءات التحقق من الجوازات والمعاملات والجمارك، التي تمت بفوضى وسرعة، مؤجلين استلام الحقائب، لأن الكثير من العاملين رفضوا الخروج من منازلهم.
صالة مجموعتنا، من بين صالات أخرى، كانت تطل على غرفة زجاجية صغيرة معقّمة، فيها يتم أخذ العينات للفحص، الذي لا يعوّل عليه أيضا: مهما كانت النتيجة، إيجابا أو سلبا، فسنذهب إلى العزل.
المقاعد ثلاثية متباعدة، وكل اثنين بينهما مسافة، والكل مكمم. يخترقنا الصمت الجماعي القلِق المتوزّع، بعدالة، كل بحسب شخصه وسريرته، فتراودنا هواجس الموت والحياة، ولا نملك -في نهاية المطاف- إلا التسليم:
– أيّنا سيكون مصابا؟ ومن اين انتقل اليه الفيروس سريع الانتشار والعدوى؟ وإلى من سينقله؟
– ايّنا سيقدر له أن ينجو، أو أن يحمل معه عارضا لفترة طويلة ودائمة؟
– مَن الذي سيتعذّب أكثر من غيره، إذا تفاقمت عنده الأعراض العشوائية، وهو يلفظ انفاسه؟ وكيف سيكون طعم الآلام؟
إزاء الخطر الذي واجهنا كلنا، (ركاب الدرجة الأولى، والمتنطع المتلهّف من قومه -أو جنسه- الذي يرى نفسه أفضل من غيره مستحقا وحده للحياة، وطاقم الطائرة والمضيفات والدرجة الثانية، الجميع دون استثناء)؛ إزاء الخطر والموت المهدد للجميع -وفي لحظة واحدة- تساوينا في المصير..
لم يعد أحد يقلق من أن جاره الاجباري الذي يشيح بوجهه عنه، بعد أن ينزل، قد يعود عدوه في الشارع التالي للمطار، في اللحظة التالية، راغباً في قتله. لا تلتفت المرأة المجروحة إلى مؤامراتها القانونية لإفلاس زوجها الخائن. الشابة شبه العارية تشعر بخوف شديد فتتمنى لو أن والدها -الذي كرهته نصف حياتها- إلى جانبها، في لحظتها الأخيرة.
ذلك العجوز الحزين المعتمد على ذقنه، المتهدّل، قد لا تحتمل رئته وتكون نهايته في كيس أسود لن يقرروا بعقلانية: هل من الأفضل حرقه معه أم دفنه فيه (داخل صندوق خشبي، ضمن صندوق أكبر من تراب عميق)؟.
ربما يكون القبر جماعياً.
القبطان الذي نسي إجراءات الهبوط القياسية، لولا أن ذكّره المراقب العصبي من برجه الالكتروني؛ الطيّار المتلهف بشدة لرؤية الشوارع الملموسة ووجه عشيقته مرة أخرى وأخيرة، قد ينجو ويجدها -هي- قد ماتت في غرفة النوم، لم تجرؤ على طلب مساعدة، غير مجدية، فلا ضمانة ألا يكون المسعف ذاته مصابا!
الأم الهاربة من بلدها مع طفلها الوحيد، إذا عاشت هي ومات طفلها المرافق، فستكون الحياة لها تأنيبا مستمرا. وإذا ماتت سينشأ في بيئة لا يفهم فيها مَن هو وما الذي يحدث ومن المسؤول ولماذا.
و.. و..
هل انتهت مشاكلنا وصراعاتنا؟ هل عاد للمطمع أو شهوة التملّك أو باعث الحق والباطل معنى؟
أبدا، تأجلتا فقط.
إلا عند تجار المعاناة والأوهام، المغضوب عليهم طوال تاريخهم وشركاتهم ومصارفهم القديمة المتخطية للحدود والشعوب، الذين "يديرون" -في الآدميين- المصائب والحاجات والمخاوف ومؤامرات السياسة، المستعدون لبيع الموت نفسه، إذا ما صار سلعة ووجدوا من يشتريه.
الأفقر بين مجموعتنا في الصالة، المعتادون على كل أنواع المخاطر، بعض ركاب الدرجة الثانية (أو الثالثة غير المعلنة)، وجلّهم من (العالم الثالث)، الذين استدانوا ثمن التذكرة أو أخذوا قرضاً على عجل لتوفير التكلفة، كما يبدو من ملامحهم وانكباب ملابسهم على وجهاتها من دون التفات؛ كانوا الأقل اكتراثا، ومنهم الذي قرر رفض العلاج التجريبي إذا حاولوا فرضه عليه،
فمضوا جانبا ليتجمّعوا رغم التحذير ومحاولات الاجبار، مطمئنين منتزعين كمامات الوهم (التي تشبه كمامات الكلاب والماشية)، ليشربوا شيئا مجانيا من المقصف المفتوح أو يأكلونه أو يدخنون، معتمدين على قدر الله وحده.
ومنهم أنا، أحد الذين لم تصبهم، رغم شدّة الانتشار كما بيّنتها النتائج، (العدوى)!
في النهاية، كل آدمي في ظروفه التي لا يعيها غيره أكثر منه، مسؤول عن نفسه أولا وأخيرا. هكذا قال الله.
10/4/2023 رام الله المحتلة