الاثنين ١٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٤
بقلم عبد الهادي شلا

خـــَـرجــَـتْ غــَـاضـِـبة

نظــر إلى وجهه في المرأة بينما عيناه المرهقتان تتأملان انتفاخهما وهو يمد يده يتحسس ذقنه التي استطال شعرها قليلا وبدت كقطعة ورق الرمل .. و قبل أن يبرح مكانه تخلل بأصابع كفه شعر رأسه الذي طفح بياضه بعد أن تساقطت كميات كبيرة منه لتفسح المجال لصلعة صغيرة في طريقها للإنتشار والإستيلاء على مزيد من المساحة السوداء التي رافقته مشوار عمره.

تنهد و هو يبتعد عن المرآة يجر قدميه بعد سهر ليلة كاملة دخـَـن فيها نصف علبة سجائره و ما توقف فيها عن التفكير .
ثلاث أيام مضت دون أن يعرف عنها شيئا،منذ تركت البيت غاضبة دون سبب كبير فقد كان شجارا عاديا لا يحتاج إلى أن تغادر ولكن يبدو أنه كان الشعرة التي قصمت ظهر البعير أو أن هناك سببا يجهله .. ويجب التوصل إلى معرفته مهما كلف الأمر ..هكذا خـُـيـِّـلَ إليه!!

تردد أكثر من مرة قبل أن يرفع سماعة الهاتف ليتصل بأمها التي تعيش لوحدها بعد أن مات زوجها واستقل عنها أولادها كل منهم في بيت مع زوجته .

ولكن لا بد من الإتصال حدث نفسه وهو يسحب نفسا عميقا من سيجارته وقبل أن يرشف من فنجان قهوته المــُـرَّة فلا بد أن أعرف أين هي الآن فما اتصلت لتخبرني أنها تحتاج فترة راحة عند أمها أو عند أحد أخوانها الثلاثة فالأمر لا يمكن السكوت عليه وإن كنت قد ضايقتها وضايقتني فلا يجب أن يصل الأمر إلى أن تترك البيت لسبب تكرر مرات كثيرة بيننا ويجب وضع حد لهذه المهزلة فما زلنا بعد أربع سنوات من الزواج لم ننجب أولادا ولا أذكر أنني سألتها سببا لهذا فقد كنت راضيا بما نحن عليه وأن في الوقت متسع لكي نفعل حين نقرر فالأمر بسيط ولا يحتاج لهذا كي تهدأ وأهدأ أنا أيضا .
زاد قلقه حين ردت أمها بالنفي وأنها لم ترها منذ أكثر من أسبوعين وأمطرته بالأسئلة عن سبب مغادرتها بيتها وإلى أين يمكنها أن تتجه في محنتها ولابد من إبلاغ أخوانها كي يبحثوا عنها،وأردفت بأنها ستتصل ببعض صديقاتها لربما لجأت لإحداهن وما كشفت عن تواجدها عندها منذ أن تركت البيت غاضبة.

ظل صامتا حتى أنهت محاضرتها التي ما سمع منها كلمة واحدة وهو سارح بخياله متنقلا بين الأماكن التي ربما لجأت إليها ولكنه ما توصل إلى أي نتيجه فقد طغت حالة من الإرتباك على ذهنه جعلت الصور التي لا يرغب فيها تتراكم وتتزاحم وهو يرفضها واحدة تلو الأخرى .

لا أظن أنها تنتحر..أو أنها..؟؟!! لا يمكن أن تكون على علاقة مع أحد آخر فهذا مستحيل فهي ليست من هذا النوع من النساء و هكذا تصاعد الرفض في داخله حتى كاد يسقط على الأرض فاقدا توازنه بينما افكاره السوداء تتقاذفه كقشة في ريح عاصف .!!

إلى حجرة نومه دلف لإحضار ملابس نظيفة غير تلك التي يرتديها بعد ليلة قضاها نائما على الأريكة فقد تشبعت برائحة السجائر والقهوة التي دخنها ولابد أن يتناول بعض الطعام فقد شعر بأن هناك عمل طويل وشاق قادم ولابد للإستعداد له فما زالت الهواجس تتلقفه يمنة ويسرى دون أن يستقر على قرار أو رأي أو مكان يبدأ منه بحثه عنها ..!!

على مكتبها الصغير في حجرة النوم لفت نظرة مجموعة أوراق مغلفة بشكل حسن فأخذه الفضول ليلقي عليها نظرة وهو يقلبها بفتور ولا مبالاة حتى صدمته صورة رجل بكامل أناقته ؟!

قـَـلـَّبَها بين أصابعه ما وجد فيها ما يدلل على إسم صاحبها، فهو لا يعرفه ولا هو أحد أصدقاء العائلة او من الأقارب ..!!!
تصاعد الغليان حتى وصل قمة رأسه وكاد يُفجــِره وتدفقت الهواجس والتخمينات حتى استعصت كلها فما عاد يجد فسحة للتفكير المنطقي،وهزته صورة هذا الرجل كزلزال مفاجئ تحرك من تحت جبل رمل رخــْو .

هل افـْتـَـعـَلـَتْ هذا الشجار السخيف والعادي من أجل هذا الذي تحتفظ بصورته بين أوراقها ؟

قفز السؤال إلى ذهنه يشتت ما تبقى في عقله من تركيز ويتفجر في داخله بركان آكبر من ذاك الزلزال الذي باغته منذ قليل
أتخونني..لا أصدق وسواس نفسي الذي يملؤني ويكاد يقتلني وعاد يُقـَلـِّب ما تبقى من أوراق بين يديه فوقعت عينه على كلمات بين قوسين بلون أحمر مميز وسط صفحة ليس فيها الكثير من الكلمات تقول:( ما عــَرَف الفن رجـُلا عصاميا مثله،ولا تَحمـَّـل من آلام المرض والفقر اللذان اجتمعا عليه في وقت كان نجمه يسطع في سماء الفن بين كبار المشاهير..إنه(( ؟؟؟ )) .

ضحكة كبيرة انفجرت من بين حطام نفسه ليتناثر الغضب ويختلط ببهجة مكظومة وسط هذه الحالة وهو يحدث نفسه ” هــَذا هــُـو أنت إذاً ؟؟!! ” المطرب الذي يعشقه كل الصبيان و الصبايا وتُـسحرهم كلمات أغنياته.. ما أتعسني فما سبق أن رأيت صورتك !!

لابد أنه موضوع جديد من كتاباتها التي تنشرها في المجلة التي تعمل بها وقد نسيت أن تأخذه معها قبل أن تترك البيت غاضبة .
في خاطــِـرِهِ قفزت فكــرة ....

سآخذ هذه الأوراق إلى المجلة بحـُجة أنها نســتها في البيت ولربما أعرف مكانها .
على عـَجـَلٍ استقل سيارته وأخذ يطوي الطريق التي شـَـعـَر أنها استطالت أضعاف طولها الذي يعرفه رغم أن حركة السير طبيعية ، ووجهه يتهلل فرحــَـــاً بعض الشيء ثم ما يلبث ان تعـُوده حالة من الكآبة حين يتصور أنها ليست في المجلة .
على باب مكتبها المُغلق توقف قليلاً كي يسترد أنفاسه بعد أن صعد أربعة أدوار من مبنى المجلة،ثم طرق الباب وانتظر ردا لم يــَأت !!

كرر طرق الباب مرات عدة حتى انتبه إليه أحدهم وسأله إن كان يريد السيدة ( سوسن ) ؟
 نعم !!

 إنها غادرت للتو لإحضار بعض الأوراق من بيتها .
جرى في الممر الطويل وهو يقفز درجات السلم بأدواره الأربعة في ثوان، وقاد سيارته مسرعا يسابق الريح كي يصل قبلها .
يا إلهي ما هذا الزحام ؟؟ في منتصف الطريق كانت حركة السير بطيئة جداً وليس بإمكانه استطلاع الأمر خاصة أن سيارات الإسعاف والشرطه تملأ المكان وصوت صفاراتها تدوي في كل الأرجاء .

ترجل من سيارته وسأل أحد القادمين من الجهة المعاكسة عن الأمر فعرف أن حادث سير لسيارة صغيرة اصطدمت بشاحنة وقود مما تسبب في انفجار جزء من الشاحنة واشتعال النار في السيارة الصغيرة ويبدو أن إمرأة تقودها .؟!
أخذ رجال الشرطة بتحويل مسار السيارات التي اكتظ بها الطريق إلى جهة موازية فما أن إقترب من مكان الحادث حتى توقف فجأة وترجل تاركا سيارته وجرى نحو السيارة الصغيرة لا يصدق عينيه..إنها سيارة ( سوسن ) ؟!
و اخترق صف الشرطة التي احاطت بالمكان ليتأكد مما ترى عيناه بينما هم يدفعونه بعيدا عن منطقة اشتعال النار و هو يصرخ إنها زوجتي وهذه أوراقها التي نسيتها في البيت وكانت عائدة لأخذها ... لـــَوَّح بها لَهـُـم .
تفقد السيارة فما وجد فيها أحد .

إستبشر فرحا ولكن قلبه انقبض و زاد توجسه من أن تكون قد ماتت أونقلت إلى المستشفى في سيارة إسعاف .
قبل ان يتجه إلى رجل الشرطة القريب منه ليسأله عن صاحبة السيارة كانت هناك يد تربت على كتفه وهمسة تنادية بإسمه (مُطـِيع ) هل تبحث عني ؟

بعينيه المرهقتين أجاب.. وما نطق .
"تمت"


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى