خَلِّيـك بالبيْـت
برنامجٌ، زاهٍ كالشِّعر، راقٍ كالأدب، ممتعٌ كصورة فريدة، صادقٌ كبراءة الأطفال، مثقِّفٌ ككتاب خلَّدتْه الفِكَر. أعلمُ قيمته المكرَّسة، ولكني أستبقيه بما أملك من كلمات؛ لأن هاجسَهُ الجمالُ، وهمَّه الذائقةُ المرهفةُ. من البرامج القليلة التي تستحق المشاهدة، إذا شئنا التخفف من هموم السياسة، وكذب الساسة، قيمته السَنِيَّة تنبع ممن يعزم عليك البقاء في البيت؛ ليأتيك بما لا يأتيك من سواه، ليأتيك بأمسيات كأمسيات البيادر، أو سَمَرِ كرذاذ مطر يداعبه النسيمُ الأنثوي، يجني لك من بساتين الكلام حديثا مشتهى، ورطبا جنيا...، اختياراتُه تشفُّ عن روح باسمة، وضيوف يتجلى جمالُهم، ويتوهجون بحضور مُقدِّمه الحاضر، كيف لا؛ وهو الشاعر؟! مما يتميز به زاهي زهبي أنه لا يدع المجاملة تعوقه عن الاعتراض الجريء، مع روح محبة، وإنسانية سامقة؛ إنه يستنبط من الضيف تفاصيله المخبوءة، ويمعن النظر في مواطن الإنسانية فيه.
إنك بهذا الفعل تبرهن على خيرٍ في الحياة باق، ومعنى لها لا يمَّحي بغثاء السيل، أو بالزبد الطاغي، إنك باقترابك من حدود الشعر، تسلُّ نورا منه، وسيرورة وتفردا، وعزوبة، وعذوبة؛ طباقا لما قاله الشاعر الكبير بول شاؤول، إن الشعر بهذا البعد، أو تلك العزلة، إنما يحفظ نفسه من تلوثات العولمة، وأوضار التصنع، والتَّشيؤ المقيت. إن الشعر بهذا المعنى هو ألصق السلاح بيد هذه الإنسانية المستلبة المهددة، وإذا كان الشعر والأدب لا يسلس القياد إلا لشاعر، أو أديب، فإنه كذلك، لا يُمَكَّن من الحديث عنه، أو تناوله إلا شاعر بالقوة، أو شاعر بالفعل. كيف لا نحتفل ببيرنامج "خليك بالبيت"، وهو المؤدِّب بالصورة والصوت؟! لأن الأمم الحية، أو التي تبغي الحياة، أو تحاولها، لا تعدل بالأدب والفنون من منتجات البشر شيئا، نعم، وليس في الأمر مبالغة، ولا هو محتاج إلى تأكيد؛ فآداب الأمم هي روحها، وهي كلمتها، وهي توقيعها على جدار الزمن، إنه طاقتها الدافعة، وديمومة تألقها، وأمارة اتقادها.
إذا تحطم، فقد تحطمت حقا، وإذا تهشم أنذر أبناءَها الأحياءَ بنفير وانتباه. هو للعرب اليوم، مؤنسُهم من وَحْشَة الاغتراب، ومن حُمَّى التشظي، وتصدعات التحلل والتنازع. فليبق صوت الشعر والأدب، ولْيكن ماءَنا، ومتَّكأنا، وليبق هذا الـ " خَلِّيـك بِالبَيْــت" ويكفيه فخرا أنه ما تأثر يوما بصراعات السياسة في لبنان، ولا أعلى مرة صوت الطائفية على صوت الأدب، وقد عصفت بلبنان عواصف عاتية؛ فما نسي في حُميَّاها شخصيتَه الأصيلة، أو ضيَّع تحت وطأتها رسالتَه؛ وكيف يفعل؟! وهو يعلم أن ثمة عشرات البرامج تنتفض لتلك الغايات، حتى التخمة، والابتذال، وأما رسالته فلا يكاد يشركه فيها سواه. وليكن، بمضامينه الإنسانية التي تهذب الطباع، وترتقي بالذوق، لحظاتِ استمتاعٍ، ومناطقَ ضَوْء؛ يؤول الناس إليه، وإليها، كلما أفرغتْهم إفرازاتُ التسليع، فلا مفر من أن يبقى للملاذ، البديل، صوتا داعيا لا يصمت، وللجسلة الرائقة سنديانةً تجمع إلى الجبروت وداعة ونسيما عليلا.