دراسة بنيوية نقدية
يعترف (لوتمان) في كتابه تحليل النص الشعري أن مطلبه الأساسي تحدد في (استكناه البنية الداخلية للقصيدة) لأنه معني بتحليل النص الأدبي من أول كلماته وحتى آخره وعبر مستوياته الأدائية المختلفة ومال (لوتمان) إلى المنهج البنائي فلسفة وممارسة إذ يفهم البنية فهماً سكونياً جامداً ويطبق عليها المقياس الذي طبقه (ليفي شتراوس)
حين ركز من البنية على خاصيتها العضوية لأن علاقة العناصر المكونة لها تقتضي أن يكون أي تغير لعنصر يقتضي تغير بقية العناصر، فيقول: إن عالم الاجتماع الذي يواجه كثرة من الظواهر الاجتماعية من طقوس
وعقائد وأساطير....ألخ سرعان ما يحقق من أن كل هذه الظواهر تعبر بلغة خاصة عن شيء مشترك بينها جميعا
وليس هذا الشيء المشترك على وجه التحديد سوى البنية، وفي مجال الأدب فإن كثرة التجارب الشعرية وتعددها في الأدب يحكمها في النهاية نظام واحد هو النظام التناظري المكتفي عروضياً وتركيبياً ودلالياً.(1)
وظهرت البنيوية مع بداية الستينات بعد أن غرقت أوروبا في الاربيعينيات والخمسينيات في تيارات عديدة أهمها
التيار الوجودي إذ ترسخ في الفكر والثقافة والسلوك الاجتماعي والوجداني حتى تحول مظهره إلى (موضة عامة أو (مرض العصر) حتى قيل أن البنيوية هي فلسفة ما بعد سارتر.
حتى يكون للظاهرة أو الشيء بنية لابد أن يكون له نظام أو شكل، وبمعنى آخر فإن موضوعه يكون منتظماً في صورته الخاصة، ووحدته الذاتية أو هيكله العام، أو مظاهر شكله ونسقه.
من هذا الفهم يرى كثير ٌ من الباحثين تقارب بين مفهوم البنية والصورة والهيولي والنسق، ويبدو واضحاً أن لفظ (البنية العربية) هو ترجمة للكلمة الانجليزية""أو(الفرنسية) مرة بلفظ (البنية) وأخرى بلفظ (الهيكلية)و تارة بلفظ (التركيبية).
في النهابة سارت كلمة البنية في المفاهيم النقدية على غيرها من الألفاظ لأن فعل (بَنَي، يَبْنِي، بناء وبناية
وبنية) إذ بنية الشيء تعني في العربية تكوينه و تعني أيضاً الكيفية التي شيد بها على نحو ٍ مخصوص)، لذا أصبح من الشائع الكلام عن (بنية المجتمع) أو (بنية الشخصية) أو (بنية اللغة) أو (بنية النص الأدبي).
لا شك أن لفظ المبني الذي استخدمه اللغويون والنقاد القدامى للتفريق بينه وبين المعني يعنون به أحياناً ما تعنيه كلمة(بنية) عند علماء اللغة والنقاد المحدثين.
إذا تجاوزنا الدلالة اللغوية إلى الدلالة الاصطلاحية فإننا نلقي مفهوم البنية تعرفه المعاجم الحديثة تعريفات متفاوتة
وأقدمها معجم " لالاند " الذي يقول عنها بأنها نسق أو كل مؤلف من ظواهر متضافرة بحيث تكون ظاهرة فيها تابعة للظواهر الأخرى ولا يمكن أن تكون ما هي عليه إلا في علاقتها بتلك الظواهر.
بهذا المعني تكون البنية نسق متكامل من الظواهر التي ترتبط فيما بينها بعلاقات محددة، فهذه العلاقات تعطي لهذا النسق وحدته و توضح وظيفته، ولا يمكن فهم آية ظاهرة بمعزل عن الظواهر الأخرى داخل النسق إذ لا قيمة للعناصر المكونة للبنية إلا بالنظر إلى العلاقات القائمة بينها والتي تربط هذه العناصر بعضها إلى بعض
وتؤلف بينها نسقاً محدداً أو منظومة محددة (2).
وبهذا تصل إلى أن مفهوم (البنية) هو نسق أم نظام من المعقولية وليست مجرد صورة الشيء أو هيكله أو وحدته المادية أو التصميم الكلي الذي يربط أجزاؤه فحسب، بل هو أيضاً (القانون) الذي يفسر تكوين الشيء ومعقوليته.
بعبارة أخرى يمكننا أن نقول إن البنيويين حتى يبحثون عن بنية هذا الشيء أو ذاك فإنهم لا يتوقفون عند المعنى التجريدي الذي يضعه الواقع بين أيدينا على نحو ٍ مباشر , وكأن كل ما يهمهم هو الوصول إلى إدراك العلاقات المادية الظاهرية التي تحقق الترابط بين عناصر المجموعة الواحدة، بل إنهم يهدفون أولاً , وقبل كل شيء إلى الكشف عن النسق العقلي الذي يزودنا بتفسير للعمليات الجارية في نطاق مجموعة بعينها.
الصوفية:
اختلف الباحثون في تحديد نسبة الصوفية، فبعضهم لا يري لهذا الاسم اشتقاق في العربية ولا قياس و الأصل أنه لقب، ومنهم من أرجع مصطلح الصوفية إلى أصل فيقول الكلاباذي أن أصل الصوفية (الصفاء) وسموا بهذا الاسم لصفاء وضياء قلوبهم وأسرارهم ويقول آخرون تنسب الصوفية إلى أهل الصفة وهم جماعة من الصحابة نزلت بمكان في المسجد النبوي الشريف، وقيل إن الصوفية من الاتصاف بالصفات الحميدة وهجر الصفات الذميمة، ونسبت الصوفية إلى نبتة قصيرة في الصحراء لاكتفائهم بقليل من الطعام، وأرجعت الصوفية إلى الصفوة، والصفوة هم نخبة مصطفاة من الأمة، وقال قوم أن الصوفية نسبة إلى الصوف و الصوف لباس الأنبياء والصحابة، ولبس الصوف سمة التواضع و يرجح ابن خلدون هذا النسب فيقول " إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف وهم في الغالب يختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف "(3).
تعدد معني التصوف فجاء بمعني الزهد " فالزهد أساس التصوف وممهد له تمهيداً حسناً وأدب الزهد وبخاصة الشعر منه كان مقدمة حسنة سبقت ظهور الشعر الصوفي ثم لازمته بعد ظهوره على صور مختلفة "(4).
ومن مميزات الشعر الصوفي إذ" لا تخلو بعض نصوصه من عناصر زهديه للارتباط الوثيق بين الزهد والتصوف، وبدا هذا الشعر بمرور الزمن أكثر إخلاصا و أصدق عاطفة لأنه صدر من أناس حققوا التصوف عملياً وعاشوا تجاربه في حياتهم "(5).
جاء الأدب الصوفي حاملاً رسالة الأخلاق " فأخلاق الصوفية مما لهجت به الألسنة وعمرت به الدواوين والكتب الأدبية "(6).
وتميز الأدب الصوفي باستخدام الرمز، فقراءة أدب الصوفية تجعلك في رموز غريبة و أنماط عجيبة، فالاعتماد على الإشارة والعلاقات الخفية يظهر بوضوح عند الذين يريدون الاتصال بالله عن طريق التجرد الحسي، فالرموز وقاء بين الأعين والحقيقة.
أكثر الصوفيون من استعمال الرمز والغموض في التعبير لأن العصر العباسي تميز بالقلق السياسي فأدي إلى ظهور كثير من الطوائف مثل (الشعوبية، الشيعة، الخوارج....إلخ) فاحتدم الصراع واضطهد الخلفاء كل مفكر حر فأصبح الرمز الأداة المألوفة عند كثير من الشعراء.
كشف ابن عربي سبب استعمال الصوفية الرمز " لأنها أسرار لا تلحقها الخواطر والأفكار، إن هي إلا مواهب من الجبار جلَّت أن تنال إلا ذوقاً ولا تصل إلا لمن هام بها عشقاً وشوقاً وهي منعاً للدخيل "(7).
وأوضح ابن عطاء سر استعمال الصوفية الرموز فقال " لما كان هذا العلم قد شرف بنا ظنناً على غير الصوفية، ولما لم نستعمل لغة الناس وضعنا له لغة خاصة بنا "(8).
تقول رابعة العدوية:
أَحبك حبين حب ُالهوى | |
وحباً لأنكَ أهلٌ لذاكَ | |
فَأَما الذي هو حبُ الهوى | |
فَشُغلي بذِكرك َعَمَّن سِواك َ | |
وأما الذي أنتَ أهلٌ له | |
فَكَشفُكَ للحُجْبِ حتى أراكَ | |
فما الحمدُ في ذا وفي ذاْكَ لي | |
ولكنْ لكَ الحمدُ في ذا وذاكَ (9). |
إن الشعر الصوفي مبني على النسق الثنائي والرباعي، فالمستوي العروضي لهذه الأبيات من بحر" المتقارب" وهو من أكثر البحور مناسبة لمثل هذه الانفعالات الذاتية لتناسب وتساوي كميات أصواته المتكررة المشكلة من الناحية الشعورية توازناً نفسياً يسمح بالتدفق العاطفي بإيقاع هادئ.
إضافة إلى بنيته المكانية ذات الشكل التناظري الثنائي.
أما على مستوي بنية القصيدة الداخلية فإن هناك مجموعة من الأدلة موجودة بشكل ثنائي أو رباعي إما في البيت الثاني وإما في البيت الثالث:
أحبك / حبين في الشطر الأول من البيت الأول ــــــــــــــــــــــــــ شكل ثنائي.حب الهوى /حباً في الشطر الأول والثاني من البيت الأول ـــــــــــ شكل ثنائي.في ذا / وفي ذاك في الشطر الأول من البيت الرابع ــــــــــــــــــــ شكل ثنائي.في ذا / وذاك في الشطر الثاني من البيت الرابع ــــــــــــــــــــــ شكل ثنائي.حب الهوى /شغلي بذكراك، أنت أهل له/ حتى أراك من البيتين الثاني والثالث ــــــــــــــ شكل رباعي.فما الحمد في ذا /وفي ذاك لي، لكن لك الحمد / في ذا وذاك من البيت الرابع ــــــــــــــــ شكل رباعي.أما على المستوي التركيبي للجمل فإنه لم يخرج أيضاً عن الثنائية و الرباعية في نظامه وتوالي وحداته:أحبك حبين / حب الهوى وحباً ــــــــــ جملتان فعلية واسمية في البيت الأول.أحبك حبين / لأنك أهل لذاك ــــــــــــــ جملتان فعلية و اسمية في البيت الأول.الذي هو حب الهوى / شغلي بذكرك ـــــــــــ جملتان اسمية وفعلية في البيت الثاني.الذي أنت أهل له / فكشفك للحجب ـــــــــــــ جملتان اسمية وفعلية في البيت الثالث.الحمد في ذا / وذاك لي / لك الحمد / ذا و ذاك ـــــــــــــــــ أربع جمل اسمية في البيت الرابع.
يقول ابن العربي:
حقيقتي همتْ بها | |
وما رآها بصري | |
ولو رآها لغدا | |
قتيلُ ذاك َالحورِ | |
فعندما أبصرتُها | |
صرتُ بحكم ِالنظرِ | |
أبيت ُمسحوراً بِها | |
أهيمُ حتى السحرِ | |
يا حِذَري من حِذَري | |
لو كان يغني حِذَري | |
والله ما هَيمني | |
جمالُ ذاكَ الخفرِ | |
في حُسنِها من ظبيةٍ | |
ترى بذاتِ الحمر ِ | |
إذا رنتْ أو عطفتْ | |
تَسْبي عقولَ البشرِ | |
كأنَّما أنفاسُها | |
أعرافُ مسكٍ عَطرِ | |
كأنها شمسُ الضحى | |
في النورِ أو كالقمرِ | |
إن أسفرتْ أبرِزُها | |
نورُ صباحٍ مسفرِ | |
أو سدلتْ غيبَها | |
سوادُ ذاك َالشَّعر ِ | |
يا قمراً تحتَ دُجَى | |
خُذِي فؤادي و ذَرِي | |
بَيْنِي لكي أبصُرِك ِ | |
إذ كانَ حظي نظري (10). |
نظمت هذه الأنشودة على النسق الثنائي والرباعي وعلى المستوى العروضي من مجزوء" الرجز" هو من أكثر البحور ملائمة لهذه الانفعالات للكميات المتناسبة والمتساوية والأصوات المتكررة بخيط شعوري متناسب للتدفق العاطفي (الغزل الإلهي) الممزوج بوحدة الوجود المسيطرة على المنشد.
حقيقتي همت / رآها بصري في البيت الأول ـــــــــــــــــــ شكل ثنائي.لو رآها / لغدا هو/ قتيل ذاك/ هو الحور في البيت الثاني ــــــــــــــــــ شكل رباعي.عندما أبصرت / هي الذات / صرت أنا / بحكم النظر في البيت الثالث ـــــــــ شكل رباعي.أبيت مسحور / أهيم حتى في البيت الرابع ــــــــــــــ شكل ثنائي.يا حذري / من هو حذري / لو كان هو / يغني حذري في البيت الخامس ــــــــــــــ شكل رباعي.والله / هيمني هو/ هو جمال / ذاك الخفر في البيت السادس ـــــــــــــــ شكل رباعي.حسنها/ هي من ظبية / تري أنت / بذات الحمر في البيت السابع ـــــــــــــــــ شكل رباعي.إذا رنت هي / أو عطفت هي/ تسبي أنت أو(هي)/ عقول البشر في البيت الثامن ــــــــــــ شكل رباعي.رائحة أنفاسها / أعراف مسك في البيت التاسع ـــــــــــــــــــشكل ثنائي.هي شمس الضحى / هي النور أو كالقمر في البيت العاشرـــــــــــــــ شكل ثنائي.يكون البيتان الحادي عشر والثاني عشر شكلاً رباعياً:أسفرت هي / أبرزها نور / هو صباح / هو مسفر.سدلت هي / غيبها سواد / هو ذاك / هو الشعر.هي قمرٌ / تحت الدجى / هي خذي/ هي فؤادي في البيت الثالث عشرــــــــــــــــــــــ شكل رباعي.بيني لي / أبصرك أنت/ إذا كان لي حظ / حظي هو نظري ـــــــــــــــ شكل رباعي.وأما على المستوى الداخلي للقصيدة في تركيب الجمل فإن القصيدة لم تخرج في بنائها عن الشكل الثنائي والرباعي:حقيقتي همت بها / رآها بصري ــــــــــــــــــــ جملتان فعلية واسمية في البيت الأول.رآها بصري / لغدا بصري/ هو قتيل / ذاك الحور ـــــــــــ أربع جمل فعلية و اسمية في البيت الثاني.أبيت مسحوراً / أهيم حتى السحر ـــــــــــــــ جملتان فعليتان في البيت الرابع.يا حذري / من حذري لها / لو كان حظي / يغني حذري ـــــــــــ أربع جمل فعلية واسمية في البيت الخامس.رنت لي/ عطفت لي/ تسبي أنت/ عقول البشر ــــــــــــ أربع جمل فعلية واسمية في البيت الثامن.أنما أنفاسها / أعراف مسك ــــــــــــــــــــــــ جملتان اسميتان في البيت التاسع.أسفرت أنت / أنت نور صباح ـــــــــــــــــــ جملتان فعلية واسمية في البيت الحادي عشر.سدلت غيبها / سواد ذاك الشعر ـــــــــــــ جملتان فعلية واسمية في البيت الثاني عشر.يا قمراً/ أنت تحت دجى / خذي فؤادي / ذري لي ـــــــــــــــ أربع جمل فعلية واسمية في البيت الثالث عشر.بيني لي / أبصرك / إذ كان لي/نظري حظي ـــــــــــــــــــ أربع جمل فعلية واسمية في البيت الرابع عشر.
ويقول أبو العتاهية:
يا نفسُ قد أزفَ الرحيلْ | |
وأظلَّك الخطْبُ الجليلْ | |
فتأهبي يا نفسُ لا يلعب ْ | |
بكِ الأملُ الطويلْ | |
فلتنزلنَّ بمنزلٍ يَنْسى | |
الخليلُ به الخليلْ | |
وليركبًنََّ عليكِ فيــــــــــه | |
من الثرى ثِقلٌ ثقيلْ(11) |
نظمت هذه الأنشودة على النسق الثنائي والرباعي وعلى المستوى العروضي من مجزوء" الكامل " هو من أكثر البحور ملائمة لهذه الانفعالات للكميات المتناسبة والمتساوية والأصوات المتكررة بخيط شعوري متناسب للتدفق العاطفي، في هذه القصيدة يمتزج الموت في روح الشاعر، فيذكرها بوقت الرحيل، والاستعداد بلقائه، والابتعاد عن اللهو في الدنيا والاهتمام بالعبادة والعمل الصالح، فعلى مستوي بنية القصيدة الداخلية فإن هناك مجموعة من الأدلة موجودة بشكل ثنائي أو رباعي:يا نفس /أزف الرحيل /أظلك أنت / الخطب الجليل في البيت الأولـــــــــــــــــــ شكل رباعي.تأهبي / يا نفس/ لا يلعب بك / الأمل الطويل في البيت الثانيــــــــــــــــ شكل رباعي.تنزلن بمنزل/ ينسى الخليل في البيت الثالثـــــــــــــــ شكل ثنائي.ليركبن / من الثرى ثقل في البيت في لبيت الرابعـــــــــــــ شكل ثنائي.
وأما على المستوى الداخلي للقصيدة في تركيب الجمل فإن القصيدة لم تخرج في بنائها عن الشكل الثنائي والرباعي:
يا نفس / أزف الرحيل في الشطر الأول من البيت الأول جملتان فعلية واسمية.أظلك أنت / الخطب الجليل في الشطر الثاني من البيت الأول جملتان فعلية واسمية.تأهبي أنت / يا نفس في الشطر الأول من البيت الثاني جملتان فعلية واسمية.لا يلعب بك / الأمل الطويل في الشطر الثاني من البيت الثاني جملتان اسمية وفعلية.تنزلن بمنزل/ ينس الخليل في الشطر الأول من البيت الثالث جملتان فعليتان.ليركبن عليك/ الثرى ثقل في البيت الرابع جملتان فعلية واسمية.
القصيدة الصوفية في العصر الحديث:
لم تخرج القصيدة الصوفية في العصر الحديث عن الإطار القديم، فلقد تأثر الشعراء بالنزعة الصوفية بوصفها استبطاناً منظماً لتجربة روحية ومحاولة للكشف عن الحقيقة و التجاوز عن الوجود الفعلي للأشياء، واهتم بعض الشعراء المعاصرين بإيجاد رابطة عضوية بين الشعر والتصوف بعيدة الارتباط عن المذاهب الأدبية المختلفة،
وقد يكون لبعض المذاهب فلسفات خاصة تدعم وجود النزعة الصوفية في الشعر، ففلسفة الرومانسية تقوي الوجود الصوفي، لأن الشاعر الرومانسي يحلم بالارتفاع إلى الكمال الإنساني الذي لا يوجد في دنيا الحقيقة، فالرومانسي يتعذب من الصراع المتمثل في هذه الثنائية التي تتجسد في صور كثيرة (الخير والشر، العدل والظلم، الروح والجسد، الجمال والقبح، الكمال والنقص)، ولكن بعض الرومانسيين كان تصورهم لعالم المثل أرفع من كل جمال تحتويه طبيعة الوجود (12).
يقول الشاعر محمد محمد على:
سَكرتُ بعزلتي وهجرتُ راحي | |
فَمن ذاتي غَبوقِي واصطحابي | |
وفجرُ الله أشرقَ في فؤْادي | |
رضي الضوءُ براقُ النواحي | |
فما للشك ِ ظلٌ في وجودي | |
وما للغي خطوٌ في سِراحي | |
جمالُ اللهِ رفرفَ في حياتي | |
جمالُ اللهِ ألمسهُ براحي | |
أنا فوقَ الزمانِ وفوقَ نفسي | |
وفوقَ الوهم ِوالحقُ الصِّراح | |
صَعدتُ مع الصلاةِ إلى ذِراها | |
هنالكَ عالمي وهناكَ ساحي | |
صحبتُ بخاطري الآبادِ حتى | |
فقدتُ على مجاهلِها جنَاحي | |
ومازجتُ الوجودَ فكل شيءٍ | |
يناجيني بما يرضي طَماحي | |
بحسبي من حياة ِالناس ِ نُسكِى | |
وأنسى بالطبيعةِ وارتياحي | |
نشيدُ الله جلجلَ في دمائي | |
وصوتُ الله أرعدَ في نواحي (13). |
نظمت هذه الأنشودة على النسق الثنائي والرباعي وعلى المستوى العروضي من مجزوء" الوافر" هو من أكثر البحور ملائمة لهذه الانفعالات للكميات المتناسبة والمتساوية والأصوات المتكررة بخيط شعوري متناسب للتدفق
فالشاعر يتحد مع الوجود والفناء في الله وطي الزمان بماضيه وحاضره وغيبه، فعلى مستوي بنية القصيدة الداخلية فإن هناك مجموعة من الأدلة موجودة بشكل ثنائي أو رباعي:
سكرت بعزلتي/ هجوت راحي/ فمن ذاتي / غبوقي وهو اصطحابي في البيت الأولــــــــــــــــــــ شكل رباعي.أشرق فجر الله / هو في فؤادي/ رضي الضوء / براق في البيت الثانيــــــــــــــــــــــ شكل رباعي.فما للشك ظل/ في وجودي / وما للغي خطو / في سراحي في البيت الثالثــــ ـــــــــــــــ شكل رباعي.رفرف جمال الله / هو في حياتي/ لي جمال الله / ألمسه براحي في البيت الرابعــــــــــــــــــ شكل رباعي.أنا فوق الزمان / أنا فوق نفسي/ أنا فوق الوهم / الحق الصراح في البيت الخامســـــــــــــــــ شكل رباعي.أصعد مع الصلاة/ إلي الذرى /يوجد عالمي / يوجد ساحي في البيت السادســـــــــــــــــــــــ شكل رباعي.اصطحاب الآباد / حتى الفقدان في البيت السابعـــــــــــــــــــ شكل ثنائي.امتزاج الوجود /المناجاة بالرضي في البيت الثامنـــــــــــــــ شكل ثنائي.القناعة بالنسك / الارتياح في البيت التاسعــــــــــــــــــــــ شكل ثنائي.التعظيم بالله / والتضرع بصوت الله في البيت العاشرــــــ شكل ثنائي.
وأما على المستوى الداخلي للقصيدة في تركيب الجمل فإن القصيدة لم تخرج في بنائها عن الشكل الثنائي والرباعي:
فجر الله أشرق / رضي الضوء براق في البيت الثانيـــــــــــ جملتان اسمية وفعلية.فما للشك ظل /وما للغي خطو في البيت الثالثـــــــــــــــــــــ جملتان اسميتان.جمال الله رفرف/ جمال الله ألمسه في البيت الرابعــــــــــــ جملتان اسميتان.أنا فوق الزمان/ أنا فوق نفسي/ أنا فوق الوهم/ وأنا الحق الصراح في البيت الخامســـــــــــــ أربع جمل أسمية.صعدت مع الصلاة /هنالك عالمي وساحي في البيت السادســـــــــــــ جملتان فعلية واسمية.صحبت بخاطري الآباد/ فقدت على مجاهلها في البيت السابعـــــــــــ جملتان فعليتان.مازجت الوجود /كل شيء يناجيني/بالذي هو / يرضي طماحي في البيت الثامن أربع جمل فعلية واسمية.بحسبي من حياة / أنسي بالطبيعة في البيت التاسعــــــــــــــــ جملتان اسميتان.نشيد الله / جلجل في دمائي /صوت الله / أرعد في نواحي في البيت العاشرـــــــــــــ أربع جمل فعلية واسمية.
وهكذا نلاحظ أن النص الصوفي على بساطته يتضمن نظاماً عجيباً من البنيات و المستويات المتضافرة المتكاملة التي تخلق نسيجاً حقيقياً من الدلالات الشعرية الموحية بتجربة المبدع الشاعرة ومعاناتها الحقيقية.
إن نظام الأثينية والرباعية الغالبة على النصوص الشعرية السابقة في مستوياته الأسلوبية يمثل في منطق (نحو النصوص) التوليدي التحويلي البنية السطحية التي تكشف بدورها عن المكون الدلالي الأعمق في البنية العميقة المولدة لنصوص الشعر العربي والسياسي و الصوفي والتي يخضع لهذه الأثينية (المحبوبان) في مقابل قوة تحاول التفريق بينهما وأخرى تحاول الجمع بينهما.
قائمة المراجع:
1- انظر يوري لوتمان، تحليل النص الشعري، ترجمة د. محمد فتوح، دار المعارف 1995، ص28.2- لمزيد من التفصيل انظر د. يوسف خالد، في النقد الأدبي، المؤسسة الجامعية ط/1، 1987، ص22 وما بعدها.3- ابن خلدون، المقدمة، دار القلم ط/ 5، 1984 ص468.4- د. عبد الستار متولي، أدب الزهد في العصر العباسي،الهيئة المصرية 1984، ص204.5- نفسه، ص204.6- نفسه، ص231.7- د. درويش الجندي، الرمزية في الأدب العربي، نهضة مصر/ بدون، ص305.8- القشري، الرسالة، مطبعة بولاق 1274/ ه، ص33.9- أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء ج/9، السعادة 1932، ص348.10- ابن عربي، الديوان نفح الطيب، تحقيق محي الين، السعادة ج/2، 1949، ص366.11- أبو العتاهية، الديوان، بيروت /1886، ص222.12- محمد هدارة، النزعة الصوفية، مجلة فصول، م/1 العدد /4، 1981 ص107 وما بعدها.13- محمد محمد على، الديوان، الاعتماد 1960، مجلة فصول، مرجع سابق، ص111.