ماهية الأدب
مصطلح الأدب موضع خلاف بين الأدباء منذ القدم، ظاهره بسيط وثناياهه عميقة، فالذين حاولوا تفسير هذه الكلمة لم يصلوا إلى تحديد دقيق لمعنى الأدب، فكلمة أدب من الكلمات التي تطور معناها بتطور الحياة العربية، ففي العصر الجاهلي وجدناها مرتبطة بالمأدبة وكرم الضيافة، وانتقلت إلى المعني الأخلاقي التهذيبي في العصر الإسلامي بقول الرسول (أدبني ربي فأحسن تأدبي) ثم أضيف إليهما معنى تعليمي في العصر الأموي فوجدت طائفة من المعلمين تسمى المؤدبين وإذا انتقلنا إلي العصر العباسي وجدناها تحمل المعنيين التهذيبي والتعليمي وفي القرنين الثاني والثالث للهجرة وما تلاهما من قرون نجد الكلمة تدل علي السنن التي ينبغي أن تراعي عند طبقات خاصة من الكّتاب، ومنذ القرن الماضي بدأت الكلمة تدل علي معنيين، عام يطلق على كل ما يكتب في اللغة مهما يكن موضوعه وأسلوبه وكل ما ينتجه العقل البشري من علم وفلسفة وأدب، ومعني خاص يراد به التعبير الجميل المؤثر في العواطف.(1)
عندما نشر جان بول سارتر كتابه (ما هو الأدب) محور السؤال الدوافع التي تدفع الكاتب إلى مباشرة عملية الكتابة فتساءل لماذا نكتب ولمن نكتب ! فركز الحديث على الهدف والغاية للأدب للإجابة عن السؤال , فأضحت الوظيفة رافعة ظلام الستار عن الأدب فما وظيفة الأدب ؟.
الأدب للإنسان ومن الإنسان، والإنسان كائن حي يشتمل على الروح والمادة والعقل الوجدان، وهو يحتاج إلي ما يشبع احتياجاته المتعددة التي تتعلق بمكوناته المتضافرة المتشابكة، تشابكاً محكماً لا تنفصل إحداهما عن الأخرى بل هي متلاحمة تلاحما ً ديناميكياً في بوتقة تفاعلية، تضمن السير المتوازن بقدر حجم التلقي في كل مجال من تلك المكونات المتنوعة، التي تشكل الإنسان .
ولئن كان العلم يغذي النزعات العقلانية، فأن الأدب يغذي الجوانب والأحاسيس، ولكن ليس على الإطلاق فكما ذكرت فأن مركبات الإنسان متشابكة، وقد يغذي الأدب العقل والعاطفة معاً، وكذلك العلم قد يغذي الوجدان والعقل معاً، فالفصل بين مكونات الإنسان أمرٌ معقدٌ وصعبٌ بتعقيدِ شبكة التفاعل بينهما، ولا يحدث الفصل إلا لأغراض الدراسة، فالعقل يؤثر في الوجدان و يتأثر به، فالوجدان يتأثر بالمدركات و الخبرات العقلية المكتسبة فإحدى وظائف الأدب غذاءٌ للعقل و العاطفة ونقل الخبرات والتجارب البشرية من جيلٍ ومن شخصٍ إلى شخصٍ ويمكن أن نعرف العلم (بأنه نقل التجارب المادية عبر الأجيال لإفادة البشرية، ونعرف الفن بأنه نقل التجارب الروحية عبر الأجيال لإفادة البشرية، وأن هدفهما معاً هو ترقية الحياة الإنسانية وإثراؤها وتعميق فهمنا لها وجعل معيشتنا فيها أكثر راحة ومتعة ومنفعة). (2) الأديبُ إنسانٌ يعيش في العالم حي زاخر بتجارب تنسجم من خلال تفاعلات البشرية ومكتسباتها عبر مسارها الطويل، في البيئة التي تحيط بها تلك التجارب المتشكلة عبر دهاليز العقل والوجدان حباً وبغضاً، عدلاً وظلماً، وكل ما يتبادر إلى أذهاننا من تفاعلات ديناميكية الحركة الإنسانية، والأديب الذي تشكل في بوتقة التجربة الإنسانية و رشح إبداعاً يبدع ليمتع نفسه ويخفف بها شحنات العواطف المختزنة في العقل والوجدان وليمتع غيره ممن يجدون في إبداعه تعبيراً حياً عن خوالجهم المتأججة، وهو يهدف إلي تغير معالم واقعه وتحويره وإعادة صياغة وترتيب أشكاله فتأتي تجربته الإبداعية الإمتاعية النفعية اختزالاً لمعادلة التواصل البشري علي مر العصور (فما لا شك فيه أن الشاعر يستهدف تحقيق المتعة والتسلية وتحويل الاتجاهات ولعّله يشعر بمزيد ٍ من الرضا حين يستوثق من أن المتعة أو التحويل قد يتحققان لأكبر عدد من الناس).(3)
ومن مطلق الكلاسيكية والواقعية والوجودية إلى مطلق البر ناسية و العبثية والسريالية وما بينهما من تيارات واتجاهات على مر العصور لا نجد أن إنساناً مبدعاً إلا تكون تجربته انعكاساً لمكوناتهِ النفسية التي هي في النهاية تعبيرٌ عاطفيٌ وظيفي يهدف إلي غاية ما (ولعل الدليل على أثر الفن في المجتمع أنه يقدم له قيماً جديدةً تساعد كثيراً على تطوير المجتمع بل وعلى تعديل سلوكه فعلى سبيل المثال نجد الشخصيات في المسرحيات في أثناء صراعها وما يؤدي إليه هذا الصراع من نتائج لا تؤدي إلي التطهير فقط بل إلى تعديل السلوك عن طريق التأثر بالنتيجة أو المضمون) (4).
إن الإنسانَ يطمح إلى أن يكون أكثر من كونه فرداً، بل يريد أن يكون أكثر اكتمالاً فهو لا يكتفي بأن يكون فرداً اعتزالياً، بل يهدف ويسعى إلى الخروج من جزئية حياته الفردية إلى حياة كاملة متكاملة يرجوها ويتطلبها إلى كلية تقف فرديته بكل ضيقها حائلاً دونها، إنه يسعى إلى عالم أكثر اعتدالاً وأقرب إلى العقل والمنطق، وهو يثور على اضطراره إلى إفناء عمره داخل حدود حياته وحدها، داخل الحدود العابرة لشخصيته، إنه يهدف أن يحوي العالم المحيط ويجعله ملك يديه، ويتم ذلك عن طريق العلم والتكنولوجيا إذ تمد الأنا إلى أبعد مجرات السماء وأعمق أسرار الذرة و يرتبط عن طريق الأدب بالكيان المشترك للناس و بذلك يجعل فرديته اجتماعية (5).
وعلى هذا يكون للأدب وظيفة قيمية فعّالة إلى جانب منفعة التطهير ألا وهي وظيفة التغير الاجتماعي والتعديل السلوكي لأفراد المجموع..... وأكاد أزعم أن كل تجربة الإبداع الأدبي عبر العصور كانت و مازالت غائية وظيفية على اختلاف وظائفها و أهدافها حتى عند البر ناسيين، وقديماً رأينا أفلاطون يدعو إلى غاية تربوية خلقية للأديب وكذلك أرسطو وإن كان أرسطو لا يقصد سوى شعر المسرحيات والملاحم في دعوته، وقد كانا قريبي عهد بالإنسانية الفطرية حيث كانت الأساطير الشعرية حقائق عامة و كان الشاعر هو معلم الإنسانية شأنه شأن الفيلسوف وقد ظلت النظرة الغائية للشعر حتى العصور الحديثة عند بعض المذاهب الأدبية ولكن في نطاق يتجاوز الجانب الخلقي التقليدي لدى أفلاطون وأرسطو والكلاسيكيين (6).
ويري د. محمود ذهني أن الأدب يسبق العلم في كثير من الاكتشافات ويقدم له الكثير من الخدمات (فألف ليلة ولية ) وغيرها كانت سبباً في محاولة الطيران وقصص(جون فرن) حول الغواصة مكنت من اختراع الغواصة بنفس الكيفية (7).
وفي مجال العلوم الإنسانية فنظرية (فرويد) في التحليل النفسي على أساس مسرحية الملك (السوفنولكس) ومن المفروض أن الحيوات الداخلية التي يعزوها المؤلف لشخصياته قد رسمت بدافع من الاستبطان اليقظ لنفسه وقد يصر المرء على أن الروايات العظيمة هي مرجع لعلماء النفس أو تواريخ لحالات معينة (8).
ومن هنا فإن للأدب دورٌ ريادي في الاكتشافات العلمية في مجالات شتى ويعد ذلك من القيم الجمالية الذوقية.
إن الإنسانَ يستجيب لكل الأشياء القائمة أمام حواسه وسطحها وكتلتها مما ينتج تناسقاً معيناً متعلق بسطح وشكل وكتلة الأشياء، ويظهر في صورة إحساس بالمتعة، إن الافتقار لمثل التناسق يؤدي إلى خلق شعور بعدم الارتياح أو اللامبالاة وعدم الرضا والنفور، فالإحساس بالتناسق الممتع هو الإحساس بالجمال والإحساس المضاد هو الإحساس بالقبح، حتى الجمالين الذين رأوا أن الفنَ غايةٌ في ذاته لم يخرجوا عن هذا الإطار، فالجمال يحقق للبشرية الرقي والتقدم والحضارة والأخلاق والقيم وكل ذلك.
إن الشيء الجميل (ما يرضي الجميع من غير قاعدة) (9)،كما يقول
(كانت) ويتعارض ذلك مع (جان بول سارتر) الذي يرى أن العمل بدون غاية غير منطبق في العمل الأدبي، فالأدب منفعة ومتعة وتطهير ورسم لما ينبغي أن يكون عليه العالم بالأخذ من الماضي للحاضر والمستقبل أو من المستقبل و الماضي للحاضر، أو من الحاضر المؤطّر بتجارب الماضي للمستقبل فالأدب (هو التأثير وكل تأثير يحدث عن طريق اللغة هو أدب وهناك صلة بين الأديب والقارئ فالأديب مؤثر والقارئ متأثر والأدب هو ذلك التأثير الذي ينتقل من الأديب إلى القارئ وقد يختلف هذا التأثير كأن يكون إعجاباً بالكاتب في طريقة عرضه للموضوع أو الأسلوب الذي يستخدمه أو القدرة على الوصف والتحليل أو حتى زعزعة الأفكار الراسخة في ذهن القارئ وتحويله عنها وقد يكون هذا الأثر ممتعاً جديداً لوجهة نظر تؤمن بها فيثبتها ويرسخها في ذهنك أو قد يكون وجهة نظر جديدة مغايرة لما نعتقد....ومن كتب الأدب في هذا المجال ما يكون بعيد التأثير في شخصية القارئ أو سلوكه إذ يضع نفسه بذرة لاتجاه من الاتجاهات.....وكل عمل قوامه اللغة أدى إلى هذا التأثير هو أدب) (10)، وعلى هذا الأساس نلتقي بثلاثة مصطلحات تتشابك وتتداخل في ذهن القارئ، الأدب المقارن، الأدب العام، الأدب العالمي وتجدر الإشارة إلى أن حدود الأدب القومي هو اللغة التي كتب بها دون الأخذ في الاعتبار أي شيء أخر، فالأدب المكتوب باللغة العربية أدب عربي مهما كان جنسه البشرى الذي انحدر منه، وهكذا في الآداب الأخرى مع عدم مراعاة التأثير والتأثر في الأدب القومي بين الأدباء في أعمالهم الأدبية.
الأدب المقارن:
نشأ الأدب المقارن نشأة أروبية ويعتني بالأحداث التاريخية والعلاقات الاجتماعية وأصدائها في آدابهم وهو أمرُ بديهي لأي دراسة تحمل في مظهرها وطياتها بيئته، وعرف (بندوتوكروتشيه) الأدب المقارن بأنه (اسم جديد لنوع جديد من الخبرة، هي موضع التبجيل على مر العصور)(11).
الدراسات المقارنة نوع من الدراسات الإنسانية التي تزدهر وترقي بيقظة الوعي القومي والإنساني، وظهر اسم الأدب المقارن في فرنسا عام 1927 في محاضرات (فيلمان برونتير (وأطلق على منابر وكتب وجدت نفسها مدفوعة في ممارستها لدرس تاريخ الأدب الوطني في الاشتراك لمقارنات فرعية مكملة للآداب الخاصة دون دراية بأنها على باب درس جديد سيخرج من تحت منعطفها من خلال مقابلاتها بين الظواهر والأدب وتقريبها للفضاءات والأزمنة وكانت محاولة برنتير لها أثر كبير في انتشار مصطلح الأدب المقارن بين الأوساط الثقافية بهذا المدلول، وهو أثر عظيم بالرغم أن دراساته لم تتمتع بقدر واف من التركيز فأسهمت في إدراك التأثير المتبادل بين الآداب وفي عام 1832 قام (جان جاك أمبير (بدور كبير من خلال محاضراته التي ألقاها في جامعة السور بون عن الأدب الفرنسي في علاقاته بالآداب الأجنبية وأكد على أهمية هذه الدراسة ثم شاع المصطلح على نحوٍ لم نره من قبل فألفت العديد من الكتب التي تحمل عناوين هذا المصطلح من الأدب وصدرت العديد من المجلات من بينها مجلة بعنوان : [1] في المجر.
تعد المقابلة طريقة من طرائق الأدب المقارن ورأى: (مارسيل باطيون) إن المقارنة ليست سوى طريقة من الطرائق التي تقترن بالأدب والآداب تارة أخرى بتاريخ الأدب مما تتنوع.
إن مجال الأدب المقارن هو الدراسات التي تدخل في مجال (التاريخ العام للآداب) وهو مجال يفترض مقارناً، ومقارناً به، وحصيلة مقارنة، ولتحقيق التوازن يجب رفع الالتباس الناشئ عن تسمية الأدب المقارن ويقترح روني ويليك على البحث عن المعني الدقيق للأدب المقارن في مختلف اللغات على مستوى معجمي وتاريخ سينمائي كمنطلق أولي ويعتبر معجم ( [2](1960 أن كل ما يدرس نسقياً عبر مقارنة الظواهر هو أدب مقارن (12) وعلى هذا فالدراسة في الأدب المقارن تصف انتقالاً من أدب وقد يكون هذا الانتقال في الألفاظ اللغوية أو في الموضوعات أو في الصور التي يعرض فيها الأديب موضوعاته أو الأشكال الفنية التي قد يكون الانتقال في العواطف أو الأحاسيس التي تسري من أديب إلى أديب آخر حول موضوع إنساني واحد أثر في عواطف الأول فتأثر الثاني بنفس هذه العواطف وقد يكون الانتقال في رأي معين رآه أديب من الأدباء فقلده وجرى عليه أدباء آخرون في آداب أخرى والحدود الفاصلة بين أدب وآخر في مجال الدراسة المقارنة هي اللغات، فاختلاف اللغات شرط لقيام الدراسة الأدبية المقارنة والآثار الأدبية التي تكتب بلغة واحدة تخرج عن مجال درس الأدب المقارن وإن تأثر بعضها ببعض فشرط الدراسة المقارنة تأثر الأعمال الأدبية في لغات مختلفة ويثبت بالدليل القاطع على قيام صلة بينهم تتيح القول بأن أحدهم تأثر بالأخر هذا هو مجال الأدب المقارن (13).
الأدب العام:
مصطلح الأدب العام يعني في الأصل فن الشعر أو نظرية الأدب ومبادئه ثم أصبح مفهوماً مضاداً للأدب المقارن، فالأدب العام يدرس الحركات الأدبية التجديدية التي تتخطى المعايير القومية (14).
إن مصطلح الأدب العام استخدم لوسم المقررات والمنشورات المعينة بالآداب الأجنبية من خلال الترجمة الانكليزية.
بشكل أوسع لوسم تلك الكتابات التي يصعب أن تصنف تحت أي عنوان من عناوين الدراسة الأدبية يبدو أن لها عند الدارسين أهمية تتجاوز الأدب القومي........وهي أحياناً تشير إلى الاتجاهات الأدبية أو المشكلات أو النظريات ذات الاهتمام العام أو الجماليات(15).
يحاول الأدب العام دراسة الأعمال الأدبية الكبرى المتميزة بصداها التي تكون التراث الإنساني والنجاح الدولي التي تحرزه بطابع الاستمرارية التي تمثلها (حيث لا تصبح ميزة خاصة بعبقرية الكاتب بل بأصالة عالمية من هنا هي هدف الأدب العام بكل تقنياته الإحصائية والتأويلية بأصالة عالميته فالعالمية نجاح وصدى الأعمال الأدبية علماً أن الأدب العام والأدب العالمي يخفقان في تحقيق مواصفات منهج للتقريب مقارن في الوقت نفسه أن مقررات الأدب تمد الدراسات الأدبية بركيزة فلا تكون بالضرورة داخلة في الأدب المقارن.
ميز (فان تيجم (بين الآداب القومية والأدب المقارن والأدب العام بثلاثة مستويات:
(الأدب القومي يعالج مسائل محصورة من نطاق أدبي قومي، الأدب المقارن يعالج مسائل يتداخل فيها أدبان يختلفان، والأدب العام مخصص لمعالجة تطورات في عدد أكبر من البلدان التي تشكل وحدة عضوية مثل أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية...وباستعارة تعبيرات مصيرية يمكن القول أن الأدب القومي هو دراسة الأدب داخل الجدران والأدب المقارن هو دراسة الأدب عبر الجدران والأدب العام فوق الجدران.
قاصداً بذلك أن الأدب العام يتناول بالدرس والبحث الوقائع المشتركة بين عدد من الآداب سواء في علاقاتها المتبادلة أو في انطباقها على بعضها البعض.
إن الهدف الذي يرمي إليه الأدب العام إحصاء الوقائع الأدبية وتفسيرها التي تمثل وجود مشابهات أكيدة في بلدان مختلفة تشكل وحدة عضوية وعلى هذا يدخل في إطار الأدب العام إلي أدب واحد، فتأثير (فولتير) وغيره من كتّاب المأساة في القرن الثامن عشر (ببراسين)، و(فاليري) و(مالا رميه) كل ذلك ينحصر في أدب واحد هو (الأدب العام الأوروبي) وما يساق من موازنات في داخل الأدب القومي، فالموازنة بين أبي تمام و البحتري وبين حافظ شوقي وتأثر الحريري في مقاماته ببديع الزمان الهمذاني تنحصر في أدب واحد هو (الأدب العام العربي).
الأدب العالمي:
تحدث جوته (1827)عن الأدب العالمي على أنه مجموعة من الآداب الخاصة ينبغي أن نحسن النظر إليها حتى لا نقع فريسة أخطاء قومية، فبعد عالمية المسيحية والفروسية في القرون الوسطى والعالمية الإنسانية....والعالمية الكلاسيكية....ظهرت عالمية رومانطيقية تاريخية تعني أكثر من العالميات التي سبقتها)(16)
يدور في خلد جوته أدب عالمي موحد تختفي فيه الفروق بين أدب وأخر، ولا يتم ذلك إلا بتجاوب الآداب بعضها مع بعض، فينشأ عن هذا التجاوب توحد في أجناسها الأدبية وقواعدها الفنية وغاياتها الإنسانية ، فتختفي الحواجز حينئذ ٍ بين الآداب و لا يبقى ما يميزها إلا اللغة التي كتبت بها والدور الذي يمكن أن تقوم به كل أمة في دائرة النطاق العالمي الشامل.
ويري(فان تيجم ) أن التأثير العالمي لا يعتمد باسم أو ثلاثة من كبار الكتاب علماً أن العبقريات الفذة لا تتفق مع غيرها إلا في جزء بسيط من أنفسها وما تأخذه من التيار العام التي تجعله شيء في ذاتها فاكتشاف العناصر المشتركة تتم بقراءة الكتّاب العاديين ومدهم أكبر منهم إن هذا التنظير للأدب العالم (weltliteratur ) تسلم بريادة(ورسو) و(باريون) كمرحلة أولية تقتضي استخلاص تأثيراتهم الأكيدة في الكتّاب العادين، ودعا د. نجيب العقيقي في كتابه (حول الأدب المقارن لاكتشاف العناصر المشتركة بقراءة الكتّاب العادين وبين من هم أكبر منهم).
الاعتماد على رأي (فان تيجم) يجعل فكرة الأدب العالمي، فكرة خيالية لأنه يحصر الفضاء العالمي في فضاء أرويي محض، بينما لو تقصينا الكثير من الآداب عند أمم متعددة لوجدنا أعمالاً أدبية كتبت من عظماء الكتّاب يجدر الأخذ بها في إطار الأدب العالمي.
فالخلفية الحقيقية للأدب العالمي هي التي تجعل من الأعمال الأدبية أعمالاً متماثلة البناء والقوالب الفنية المتقيدة بالقومية والوطنية.
نقصد بعالمية الأدب خروج الآداب من نطاق اللغة التي كتبت بها إلى لغة أو آداب لغات أخرى في قوالبها العامة لأن الآداب في طبيعتها محلية أو قومية أولاً، لأنها استجابة للحاجات الفكرية والاجتماعية الوطنية والقومية أولاً، ثم تشف من وراء ذلك غايات عالمية وإنسانية.
فخلود الآثار الأدبية لا يأتي من جهة دلالاتها العالمية ولكن من صدقها وتعمقها في الوعي الوطني والتاريخي وأصالتها الفنية في تصوير الآمال والآلام بين الكاتب وجمهوره (17).
مما يحدث توازناً وسيطاً بين الوطني وألما فوق يأخذ في تقيمه للرصيد الثقافي الإنساني فالأدب العالمي الحقيقي لا يكتفي بمجرد تجميع الآداب الكبرى في العالم بل يصير على قراءات الطرف من القراء (وبما أن هناك وجود سوسيولوجية الآداب الوطنية فلماذا لا نتنبأ بوجود سوسيولوجية للأدب العالمي الذي يضع في الصف الأول كتّاباً فرأوا لشكسبير وراسين وجوته.........فقيمة عمل يحتفظ به الأدب العالمي لا يعود فقط إلي العبقرية المبدعة له بل ترتبط بالعالمية المتأصلة فيه، فملازمة أدب لحضارة مهيمنة يساعد اقتحام هذا الأدب لمستوي الأدب العالمي الذي عليه أن يبحث في كل فضاء عن الأعمال التي تتحقق انتشاراً عالمياً ولم تبلغه بعد ((18).
من هنا فإن حقيقة الأدب العالمي تستجيب لعامل الزمن الذي اقترحه (هنري ريماك) كقاعدة تلم شمل الأعمال الأدبية الإنسانية التي توجد بينها تشابهات أكيدة إذ (من الممكن بدون شك تفسير الظواهر المتشابهة والتي تقع في نفس الوقت عبر بلدان مختلفة بفضل البنيات (السوسيو اقتصادية) المشتركة لهذه البلدان إلا أن هذا التفسير سيبقي جزئياً لأن مجموعة من البنيات عليها أن لا تنتهي إلى مجرد ظواهر متشابهة بل إلى ظواهر واحدة ومتطابقة، إلا أن هذه الأخيرة لا توجد على مستوي الأيدلوجيات الفلسفية، الاجتماعية، السياسية، والتوجيهات العامة التي تختزل إلى مفاهيم ثابتة، بينما يفترض المتشابه تعدداً في البنيات السفلى وهو تعدد يأتي نتيجة المناخ الوطني، اللغة، الوعي بالماضي التاريخي الذي يكون صُلب بلدٌ ما) (19).
قائمة المراجع:
1_لمزيد من التفصيل انظر. شوقي ضيف، العصر الجاهلي، دار المعارف ص1.2_د.محمود ذهني، تذوق الأدب طرقه ووسائله، مكتبة الأنجلو المصرية، ص23.3- ت.س إليوت، فائدة الشعر وفائدة النقد، ترجمة د. يوسف عوض، دار القلم 1982 بيروت، ص39.4- د. رجاء عيد، فلسفة الالتزام في النقد الأدبي، منشأة المعارف 1988، ص78.5- إرنست فيشر، ضرورة الفن، ترجمة أسعد حليم، الهيئة العامة للكتاب 1971، ص15.6- د. محمد غنيمى هلال، النقد الأدبي، نهضة مصر، بدون، ص453.7- لمزيد من التفصيل انظر، تذوق الأدب، ص32.8- أوستين واين، نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، 1972، ص37.9- روز غريب، النقد الجمالي، دار الفكر 1993، ص20.10- د. طه ندا، الأدب المقارن، دار النهضة 1991، ص11.11- د. محمد غنيمى هلال، الأدب المقارن، دار العودة، بيروت 1987، ص2.12- لمزيد من التفصيل انظر سعيد علوش، مدارس الأدب المقارن، المركز الثقافي 1987، ص8.13- انظر طه ندا، الأدب المقارن، ص20.14- مدارس الأدب المقارن، ص111.15- نظرية الأدب، ص61.16- نفسه، ص31.17- لمزيد من التفصيل انظر الأدب المقارن، ص104.18- انظر مدارس الأدب المقارن، ص32.19- نفسه، ص36.
مشاركة منتدى
22 أيلول (سبتمبر) 2016, 13:35, بقلم نور
الادب قنديل يضيء اكثر مما هو مرآة تعكس.........