الأحد ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم فيصل سليم التلاوي

ذاكرة المكان يتسهار التي أعرفها

مقدمة لا بد منها: أعلن المستوطنون (الحريديون) المتعصبون سكان مستوطنة (يتسهار) مكافأة مقدارها مئة ألف دولار، لمن يقتل أيا من الأسيرين المحررين خويلد رمضان و نزار رمضان من أبناء قرية تل، التي تقع إلى الشمال من المستوطنة، و اللذين قد أبعد أحدهما إلى غزة و الآخر إلى تركيا، بذريعة أنهما قد قتلا اثنين من ساكني المستوطنة قبل ثلاثة عشر عاما.

يوم كانت تتفتح عينا أحدنا على النور، فيعمد إلى تدريبهما على رؤية الأشياء الأبعد قليلا عما يحيط به في الجهات الأربع، كان أول ما يطالعه إذا صوّب ناظريه جنوبا هو تلك الهامة العالية المهيبة لجبل سلمان الفارسي، و قد عممت قمته أجمة من أشجار عتيقة عملاقة، تلتف حول مقام الصحابي الجليل- سواء صحت نسبة المقام لصاحبه أم لم تصح، فقد شاهدت و سمعت عن مقامات متعددة لهذا الصحابي في بقاع شتى من بلاد المسلمين-، فإذا حدَّ بصرنا و كان النهار أكثر إشراقا و صفاءً، تسابقنا في من يشاهد أولا المعلم الجنوبي الثاني، الذي كان يحتاج منا لتركيز أشد، ونظرة أبعد غورا، حتى يرى(عواميد رام الله) كما كنا نسميها، و لم نكن نعلم يومها شيئا عن ماهيتها، و علمنا لاحقا أنها مرسلات الإذاعة الفلسطينية، والتي اقتلعتها القوات الإسرائيلية من جذورها في اجتياحها لرام الله عام 2002م. فلم يعد الأطفال من أبناء منطقتنا في هذه الأيام يدربون نظرهم، و يتسابقون على من يرى (عواميد رام الله) أولا، مثلما كانت رياضتنا البصرية المفضلة آنذاك.

سلمان الفارسي الذي كان الوصول إلى قمته ذات يوم حلما بعيدا يداعب خيالاتنا، كان معلما بارزا و جبلا مهيبا من أعلى قمم جبال نابلس، تطالع قمته صباح مساء أعين الناظرين في عشرات القرى الفلسطينية الهاجعة على أكتاف الجبال البعيدة عنه قبل القريبة، والمتناثرة على مد البصر شرقا و غربا و شمالا و جنوبا.

لم يكن سلمان الفارسي في سفحه الشمالي المواجه لنا مثل سائر جبال بلادنا، تمتزج تربته بصخوره، و تغطي سفحه غابة من أشجار الزيتون الروماني المعمرة، بل كان هذا السفح المطل علينا خاليا من الأشجار، ذا تربة زراعية خصبة، ليس حاد الانحدار، بل إن سفوحه ذات ميل بسيط، وكانت تستغل في الزراعات الموسمية شتوية و صيفية.

لم يكن ثمة من أشجار سوى الباقة التي تتوج القمة، و تحيط بمقام الولي الكريم.

و سلمان الفارسي الذي تنوء اليوم قمته تحت وطأة مستوطنة (يتسهار)، التي يسكنها عتاة المستوطنين المتطرفين، الذين أوسعوا سكان القرى المحيطة به اعتداءات و اقتلاع أشجار و حرق محصولات و هدم منازل و جرائم شتى، من جرح و قتل و تهجير و هدم منازل ونهب بيوت واستيلاء على أراضٍ. هذا الجبل على عهدي به كان يلم في أحضانه، و على جنباته ستًا من قرى فلسطين.

ففي القاع من سفحه الشمالي المقابل للقمة والمقام، تقع قرية(مادما) الصغيرة الوادعة، التي يشتهر أهلها بين سائر القرى المجاورة بأناتهم و طول بالهم و برودة أعصابهم، و إلى الشرق منها تقع قرية (بورين)، و تتقاسم القريتان ملكية أراضي السفوح الشمالية للجبل، أما أحضانه الجنوبية المتوارية عنا، فتتقاسمها قريتا (عينبوس) من الشرق و جارتها (عوريف) من الغرب، بينما تجلس قرية (حوارة) عند موطئ قدميه من جهة الشرق، و تمد رجليها شرقا باتجاه سهل حوارة، بينما تتمدد أراضيها غربا على طول السفوح الشرقية للجبل حتى تكاد أن تتشبث بهامته، بينما ترتفع إلى مستوى خاصرته من ناحية الغرب قرية (عصيرة القبلية)، والتي تعاني اليوم من اعتداءات المستوطنين أكثر من شقيقاتها الخمس الأخريات، اللاتي يحطن بالجبل و يحضنه من جهاته الأربع، ربما لأنها الأقرب إلى قمته من سائر أخواتها.

لم يكن بعيدا ذلك اليوم الذي أفضى فيه إلينا سلمان الفارسي بأسراره، التي منينا أنفسنا طويلا بالوصول إلى قمته العالية، والتعرف على تلك الأجمة من الأشجار الباسقة و تفيؤ ظلالها، ثم إلقاء نظرة متأملة متمعنة على مد البصر من ذلك المرقب الشاهق.

كنا فتية في الصف الأول الإعدادي، ضمن فرقة الكشافة في مدرسة (تل) الإعدادية للبنين، يوم وافق أستاذنا للتربية الرياضية، والمشرف على فرقة الكشافة تحت إلحاحنا الشديد، بأن تكون جولتنا الكشفية سيرا على الأقدام إلى قمة جبل سلمان الفارسي.

انطلقنا مبكرين سالكين الطريق الترابي الضيق، الذي يشق كروم الزيتون شرقي قريتنا، فإذا ما انتهى الطريق منها انحرف جنوبا عند المنطقة المسماة (المربعة)، حيث تلتقي هناك حدود أراضي أربع قرى هي: تل و بورين و مادما و عراق بورين، وحيث تقيم قوات الاحتلال اليوم هناك حاجزا أمنيا رئيسيا، لمراقبة الحركة والتنقل بين هذه القرى الأربع، و سائر القرى التي تقع إلى الجنوب منها.

من هناك تنحدر بنا الطريق باتجاه قرية مادما في قرارة الوادي، حيث يخترقها الطريق الآتي من جهة الشرق، متفرعا من طريق نابلس – القدس متجها ناحية الغرب مقابل معسكر حوارة، حيث يتفرع منه على يمينه أولا خط يتجه صوب بورين، بينما يواصل الخط سيره مخترقا مادما، ثم مواصلا سيره غربا نحو عصيرة القبلية حيث ينتهي هناك.

عبرنا ذلك الطريق بعد أن اجتزنا قرية مادما، ثم رحنا نسير مصعدين في السفح الشمالي لجبل سلمان الفارسي، الذي بلغنا قمته العالية وقت الضحى. كانت المرة الأولى التي عرفنا فيها أن تلك الأجمة من الأشجار، التي نشاهدها عن بعد تتوج هامة الجبل هي مجموعة من أشجار البلوط العتيقة العملاقة، يتوسطها مقام سيدنا

(سلمان الفارسي)، و قد سألت أخي الذي يقيم هناك و قد زارني قبل مدة قريبة عن تلك البلوطات، التي كانت تزين قمة الجبل و عما فعله بها المستوطنون، فأخبرني أن مستوطني يتسهار قد أبقوا بعضا منها وسط دوار في وسط المستوطنة، التي تتمدد اليوم على القمة بأكملها، و تمد أذرعها الأخطبوطية شمالا و جنوبا و شرقا و غربا، لتبتلع أراضي القرى الست التي تحتضن سلمان الفارسي و مقامه الكريم.

أمضينا سحابة يومنا ذاك على قمة الجبل، و عند العصر هممنا بالعودة، ومثلما شفينا غليلنا من الكشف عن القمة التي لا تطاولها قمة على مد أبصارنا، فقد كنا نتطلع إلى كشف السر الثاني الذي يخبئه سلمان الفارسي في سفحه الشمالي المقابل لقرية مادما، والذي عبره ستكون طريق عودتنا، ذلك السر الذي طالما روعتنا صغارا، و روعت غيرنا من أهالي المنطقة، حكاياته التي تمتزج فيها الحقيقة بالخيال والخرافات، إنه ما يسميه أهالي منطقتنا(خُسفة مادما) والتي طالما سمعنا عن راعٍ قد سقط فيها و معه قطيع أغنامه، أو حراث قد ابتلعته مع بقراته، أو عابرسبيل ضل طريقه فهوى فيها في ظلمة ليل، أو فتاة خاطئة ألقاها ذووها فيها درءا لفضيحة أو غسلا لعار كما يزعمون.

وصلنا (الخُسفة) بعد سيل من التحذيرات و التنبيهات بعد الاقتراب من حافتها، وأن لا نغشاها من جهتها الجنوبية الحادة الميل حتى لا تنزلق قدم أحدنا فيخر في هوة ما لها من قرار، إذ لا بد من الالتفاف و المجيء من جهتها الشمالية بحيث نكون في موضع أخفض من الحافة.

أدركنا (الخسفة) التي تبدت لنا على هيئة هوة رهيبة مفزعة تفغر فاها الدائري، الذي يتجاوز قطره المئة متر. وقفنا حولها ذاهلين مشدوهين لأول وهلة، حتى شجع بعضنا بعضا أن نفعل ما سمعناه من أن كل من يزور الخسفة يفعله، و هو إلقاء حجر كبير ثم إلصاق الأذن بالأرض على الحافة وإرهاف السمع، لسماع صوت ارتطام الحجر بالقاع، فلم نسمع شيئا، مثلما قيل لنا أن أحدا قبلنا لم يسمع صوتا مهما كبر حجره، و هذا دليل على عمقها السحيق.

لقد ظلت (خُسفة مادما) لغزا يحيرنا، مثلما حيرت كل أهالي منطقتنا على مر الأجيال، و هم يتساءلون: من حفرها؟ ولماذا حفرها؟ و بأي أداة حفرها؟ و لا أدري هل بقيت خسفة مادما لغزا يحير مستوطني يتسهار مثلما حيرتنا دهرا، أم أنهم بأجهزتهم الحديثة قد سبروا غورها، و كشفوا عن عمقها، و حقيقة تكوينها، الذي لا أظن إلا أنها قد تكونت بفعل ارتطام نيزك بالأرض، فأحدث في سطحها ذلك الثقب الغائر.

هذه أرض سلمان الفارسي التي أعرف موضعها، والتي ذرعتها بقدمي قبل خمسين عاما، و قبل أن تكون هناك (يتسهار) أو أحد من قاطنيها، وأنا لست واحدا من أبناء القرى الست التي ابتلعت يتسهار أراضيها، واعتدى ساكنوها بالضرب والطرد و قطع الأشجار و حرق المزروعات والاستيلاء على الأراضي عنوة مرات و مرات، فهل يستهجن ساكنو يتسهار بعد ذلك كله أن يهلك اثنان من ساكنيها على يد أسيرين محررين، حتى تطاردهم بعد تحريرهم، وترصد المكافآت لقتلهم؟

فكم مقدار المكافآت التي ينبغي أن يرصدها أهالي (بورين و مادما و عصيرة القبلية و عوريف و عينبوس و حوارة) لمن يخلصهم من (يتسهار)، و يعيد إليهم أراضيهم التي نهبتها هذه المستوطنة، و أبناءهم الذين قتلهم أو شردهم مستوطنوها، و مزروعاتهم التي أحرقوها و أشجارهم التي اقتلعوها؟

وعلى مثل (يتسهار) التي أعرفها و أعرف مكانها، قس عشرات بل مئات المستوطنات التي يعرفها و يعرف مواضعها غيري من أبناء فلسطين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى