ذكريات على هامش اللجوء
في ايار كانت النكبة، قبل سنين غلفها الضباب، فأصبحت شوارع القرية كأنها لمحات من حلم قديم في ثنايا الذاكرة عند من عاشها من آبائنا وأُمهاتنا، أما لنا فهي لا تعدو كونها خيالات قصص رويت لنا في ليالي الصيف، وفي لحظات تجلٍّ اختلسناها من بين شفاه أجدادنا مصحوبة بدمعة خجولة حاولوا جاهدين إخفاءها، ولكنها فرضت نفسها مذكرة إياهم بطفولة على الرغم من قسوتها إلا أن أجمل ما فيها أنها كانت لهم وكان الوطن لهم.
أخبرني جدي -رحمه الله- في إحدى هذه الليالي ونحن جالسين على مصطبة خرسانية أمام غرفة بنيت مكان خيمة، أُعطيت له في مخيم النزوح الذي أصبح فيما بعد ولكثرة ما مر عليه من السنين قرية لها ذاكرتها الخاصة، وكانت سنوات عمري عندها لا تتجاوز كثيرا مقدرتي على عدها، أخبرني عن قريتنا، وكيف كان يتوسطها بيت المختار، الذي تخيلته حينها قصرا منيفا، ثم اكتشفت فيما بعد كما اخبرني أبي أنه لم يتعد الغرفتين مع ساحة واسعة تضيق بساكنيها من الغنم والدجاج بالإضافة إلى البشر، وكان إلى الشمال من هذا البيت بئر القرية التي لم تخلُ حكاياتها من مناوشات طريفة بين الحين والاخر، وإلى الجهة الشرقية من هذه البئر كان هناك مقام لوليٍّ من أولياء الله غاب اسمه عن جدي، ربما لضعف في الذاكرة أو لأنه مُنِع يوما من دخوله لتأخره عن صلاة الفجر في مسجد القرية، وحول هذه المعالم انتشرت بيوت القرية بساكنيها من الإخوة والأعمام فكل ساكني القرية كانوا من الأقارب بالدم أو بالنسب، وجمعتهم بالإضافة إلى ذلك هموم الحياة، وحكايا الحصاد، وأخبار حروب لم يشهدوها، ولكنها أزالت الأتراك، وأحضرت الانتداب، وهيأت لاحتلال اكتشفوا لاحقا أنه أكبر من مخاوفهم، وأقسى من برد شتائهم، وأحلك من لياليهم عندما يخاصمها القمر.
وللحق أقول أن ما قرأته عن النكبة وأيامها يتجاوز كثيرا ما سمعته من عجائزنا، وكأن بينهم اتفاقاً غير معلن على طيِّ هذه الصفحة من الذاكرة، قد يكون السبب لقسوة هذه الأيام على الذاكرة، أو لشعور بالمهانة والخجل من خروج سببه الخوف من أخبار مجزرة ارْتُكِبَتْ في القرية المجاورة، أو ثقة مفرطة بأن هنالك وليمة كبرى ينتظرها سمك البحر عندما يُلقى فيه المحتل، ولكن وعلى جميع الأحوال فإن مسيرة أيام التهجير ما زالت آثارها محفورة في ثنايا الذاكرة، وظاهرة في آثار شوكة يخيل إلي أنها لا تزال مغروزة في أيديهم، وأنهم يرفضون إزالتها فهي جزء مما تبقى من رائحة الوطن، وبقايا جرح غائر كالوشم يرسم رحلة اللجوء على أرجلهم، ناهيك عن أنك تستطيع رؤية مسيرة الهجرة كشريط سينمائي قديم، فكل ما عليك فعله هو أن تنظر بإمعان الى أعينهم عندما تُذكر الهجرة، فسترى مدفونا داخل هذه العيون كل ما تود معرفته، بل إنك سترى في هذه العيون كل ما تتمنى لَوْ أنَّك لَمْ تعرفه.
لم يعد جدِّي مُهْتمّاً بأن يخبرنا بما جرى بعد ذلك، فكلها بالنسبة إليه أمور هامشية لا تستحق الذكر أمام وطن لم يبق منه إلا الحلم، ومفتاح قديم يتحسسه في جيبه بين الحين والآخر حرصاً عليه، فعسى أن يعود يوما إلى بيته الذي أحكم إغلاق بابه؛ خوفا عليه من اللصوص، وكأن ذاكرته توقفت عند تلك الأيام، أو أنه آمن بأن ذكراها ستُرسِّخ البعد عن الوطن، وتمحو ما بقي عالقا في ثنايا الذاكرة من صور القرية، وبيت المختار والبئر، والمقام الذي لا زال اسم الوليِّ غائبا عن ذاكرته.
أخبرتني أمي، التي مشت على قدميها درب الهجرة وعمرها يقارب السنوات الثمان، عن تلك الأيام التى قضتها تحمل على يديها أحد إخوتها الصغار تارة، أو بعض متاع البيت الذي لم يكثروا منه على اعتبار أنهم عائدون قريبا، أخبرتني عن مخيم اللجوء الأول، وعن الخيمة الأولى التي حاول جدي لأمي جاهدا أن يبنيها، فلم يستطع لقلة الخبرة، فجاءته المعونة من جيران قدموا من قرى لم يعرفوها من قبل، ولكنهم عرفوا لاحقا أن فيها بيتا للمختار، وبئرًا ومقاماً لوليٍّ بعضهم لا يزال يذكر اسمه، وتذكر أمي أيضا أنها رأت من بعيد مختار قريتهم يقف حائرًا محاولاً بناء خيمته، وعندما ذهبت لترى وبدافع الفضول شكل خيمة المختار، وجدتها كخيمتهم، ففي مخيم اللجوء أصبح الجميع سواسية كأسنان المشط، فخيمتهم واحدة وخسارتهم وهمومهم واحدة.
في المخيم تغيرت وتطورت مفردات اللغة، فأصبحت وكالة الغوث هي القائد، وكارْت المؤن هويَّةً يحرص الجميع على اقتنائها، ففيه بوابة العودة، وطعام الغد، وغطاء صوفي يحمي من برد الشتاء، بالإضافة إلى صرة مملوءة بملابس تفتقت بسببها عبقرية النساء في فن الخياطة وتغيير المقاسات لتلائم الجميع، واستبدلت بئر القرية بصهريج ماء ضخم وضعته وكالة الغوث في منتصف المخيم، لتحج إليه النساء من كل اتجاه، وأصبحت حكايات مناوشاته تخلو من الطرافة، أما المقام فلم يعد أحد يذكره، واستبدل بساحة واسعة في طرف المخيم أسموها مسجداً اختلف الجميع على تحديد اتجاه القبلة فبوصلتهم لا زالت تشير إلى اتجاه القرية.
في المخيم، اصبح للأحاديث طعم آخر، فلم يعد الجميع أقرباء كما كانوا، بل أصبحوا لاجئين تربطهم خيوط خفية قوامها ذكريات ما قد سلف، وأحلام ما هو قادم، فإذا نظرت إلى وجوههم تكاد تقسم أنهم أقرباء في الهم شركاء في التعب، وأصبحت أحاديث النساء تتمحور حول طابور المياه، واكتشاف وصفات جديدة للطعام أتت من قرى اختُزِلت المسافة بينها بممر ضيق يفصل بين خيمتين، بالإضافة إلى جودة الطحين الذي وزعته وكالة الغوث في أكياس رُسِمَ عليها يدان متصافحتان، اكتشفوا لاحقاً أن هذه المصافحة لا تعدو كونها مصافحة بين فريقين أتموا صفقة بيع سيذكرها التاريخ إلى الأبد، كما لم تخلُ أحاديثهن من مقايضات خفية لاستبدال الملابس التي عجزت أياديهن عن إيجاد حلول لها.
أما الرجال، فحدِّثْ ولا حرج، فما بين مؤمن بنصر قادم من الغرب على يد قومية قويت شوكتها، وأمَّمَتْ قناتها، وبنت سدَِّها، إلى منتظر لوعد إلهي جاء ذكره في القرآن، وما بين هذا وذاك، يخرج صوت صائحا بغضب: ما حكَّ جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك. وعندما تهدأ النفوس، وتدور كاسات الشاي بالنعناع، تتشعب الأحاديث ما بين ذكريات القرى التى لا زالت تنتظر ساكنيها، ومحاولات البحث عن عمل، وأخبار قريب قطع ثلاث حدود والعديد من الصحاري لكي يجد عملا يضمن له ولمن تركهم وراءه في المخيم حياة كريمة، ويتبادلون بين الحين والآخر خبرات اكتسبوها عن أفضل السبل لمنع مياه الأمطار من التسرب إلى الخيمة، كما حدث قبل سنتين عندما داهمتهم الثلوج، فيما تعارف عليه لاحقا بسنة الثلجة الكبيرة، ففي المخيم أصبحت الأيام كلها سواء، وباتت السنوات تعرف بأحداثها والشهور بألوانها.
في تلك الأيام اصبحت علاقات المخيم أكثر حميمية، وتوسعت دائرة الأقارب لتشمل من أصبح المخيم قريته الصغيرة، وبدأت الأمهات يبحثن لأبنائهن عن بنت الحلال، فالوطن بحاجة الى من يسترده، وأذكر عندما أخبرني أبي كيف أن أمه جاءته في يوم من الأيام وكان قد أنهى للتو دراسته الثانوية، وأصبح له عملٌ يدر دخلا، لتخبره عن فتاة تسكن على بعد خيمتين وزقاق، تملك من المواصفات ما يجعلها الشريك المناسب لابنها البكر حامل شهادة الثانوية، فهي متحدرة من قرية تحمل اسم أحد أنبياء الله وقد أتمت الدراسة الإبتدائية قبل زمن كاف، وجمعت ما يكفي من وصفات الطعام من القرى المختلفة، بالإضافة إلى مهارة ملحوظة في التعامل مع ملابس وكالة الغوث، أما عائلتها، فأبوها عُرف عنه حبه الشديد للقراءة، وحفظه لجزء جيد من القرآن، بالإضافة الى ما لا يمكن إحصاؤه من روائع الشعر، ولها أخ يملك موهبة ملحوظة، فهو يرسم كل شيء بأي شيء على أي شيء، وتم الأمر وأصبح للمخيم أفراحه وحكاياته وأيامه، التي فقدت معالمها في انتظار عودة، وإن طالت، فلا يزال الإصرار عليها عاملاً مشتركاً يتفق عليه الجميع حتى قبل أن يحتسوا الشاي بالنعناع.
دارت عجلة الحياة بهذه العائلة التي كبرت مع الأيام، واستقرت بهم الأحوال في بيت صغير، تم بناؤه بأيديهم في أحد الأحياء الشعبية في العاصمة المجاورة للوطن، ضِمن تنقل فرضته ظروف تأمين الحياة لهم ولمن بقي من الأهل في المخيم، و أصبح لأبي أخٌ صارع انعدام الكهرباء، وضيق العيش، و صغر الخيمة وأصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح طبيباً، وخالي الذي كان يرسم كل شيء بأي شيء على أي شيء، استطاع أن ينتزع منحة لدراسة الفنون، في بلد جعلت من اللون الأحمر وسواعد العمال رمزاً لها، وذلك بعد أن أهدى أحد الزعماء صورة رسمها له على قطعة من القماش أكاد أجزم أنه أخذها من أحد أكياس طحين وكالة الغوث.
لَمْ تَدْرِ أمي كيف حدثت الأمور، فيبدو أن الأحداث العظيمة لا يزال في جعبتها الكثير، أخبرتني كيف أنهم استفاقوا ذات يوم على من يخبرهم بأن المحتل أصبح داخل المخيم، وأن الطائرات تحطمت عند الفجر، وأن جبل الشيخ أصبح شرفة للمحتل، وسيناء صارت ملعبه الخلفي، وأن الجرح الغائر في باطن القدم أتاه جرح آخر من جراء رحلة أخرى، قطع أهل المخيم فيها النهر، وانتقلوا من مخيم اللجوء إلى مخيم النزوح، فيما اتفقوا لاحقاً على تسميتها سنة النكسة، وامتلأ البيت الصغير بالأقارب الذين لم يجدوا لهم ملجأً آخر، إلى أن أتت وكالة الغوث بخيم أخرى من ضمنها خيمة للمختار، وصهريج ماء كبير، وساحة أسموها مسجداً، ولكنهم لم يختلفوا حينها على اتجاه القبلة، فبوصلتهم جميعاً أشارت إلى الوطن.
ولدت بعد النكسة بقليل في بيت تمت توسعته لكي يتسع لثمانية أطفال، كنت أنا أصغرهم، ولم يتجاوز عمر أكبرهم بِضْعَ سَنوات، واضطُّرَّ أبي، كما العديد من الأقارب، لمغادرتنا في هجرة أخرى جالت به شرق الأرض ومغاربها، مصارعاً غربة البعد عن الأهل، تعلوها غربة البعد عن الوطن، كظلمات في بحر لجي، بحثاً عن لقمة العيش، وتأمين مستقبل لأطفال لا يملك لهم سوى ما حباه الله به من العقل والجسد، تاركاً إيانا في عهدة أمٍّ صمدت كزيتون بلادنا في وجه متطلبات تربيتنا وتنشئتنا، لكي نكون ذخراً وسنداً لها ولأنفسنا في وجه مستقبل غامض، غموض نشرة أخبار الثامنة، وغموض مصير رجال آمنوا بأن الوطن لن يأتي إلينا، فتلحفوا رداءهم المرقط، وامتشقوا البندقية، وذهبوا بحثا عن طريق يوصلهم إلى الوطن.
اهترأت خيام النزوح لكثرة ما مرَّ عليها من الفصول، ولم يعد قماشها المهتريء يشكل عائقا أمام برد الشتاء وحر الصيف، وأما العودة فهي بحاجة إلى أكثر من مجرد عبور للجسر، فارتأت إحدى الدول الصديقة أن تمُن على أهل المخيم، فأزالت الخيام وبنت مكانها غرفاً صغيرة بسقف من الإسبست ومصطبة خرسانية، وكان جدي الذي تزوج مرة أخرى قبل فترة طويلة، وبعد أن عجزت جدتي عن إعطائه المزيد من الأولاد بحكم السن، محظوظاً بامتلاكه ثلاثة كروت تموين، أهلته للحصول على ثلاث غرف متجاورة لتشكل مجتمعة بيتا أكبر من بيت المختار، الذي رمته الأقدار في مخيم نزوح آخر.
كانت إقامتي في المخيم خلال العطل المدرسية تشكل لي متعة لا يمكن وصفها، ففيه أعمام يقاربونني في العمر، يأخذونني معهم لتناول طعام الإفطار الذي يقدمه مطعم الوكالة، وفيه ساحات لا متناهية للعب على مشارف السهول المحاذية للمخيم، بما فيها من مغامرات لا تحصى في اصطياد العصافير والزواحف، ومتعة الوصول إلى مبنى قديم لسكة حديد هجرها زائروها بعد زوال حكم الأتراك، حتى خيل إلي أن المخيم أصبح هو القرية، على الرغم من تشتت الأقارب وأبناء العم، في مخيمات عرفنا بعضها وجهلنا الكثير منها. وفوق هذا وذاك كانت جلسات ما بعد العصر على المصطبة الخرسانية تجمعنا حول كأس الشاي بالنعناع، لنستمع فيها من جدي إلى حكايات القرية ومغامرات الشباب، وما زل به لسانه من ذكريات اللجوء والنزوح.
عرفت في المخيم أن اسمنا لاجئين أو نازحين، فلم تعد التسمية تشكل ذلك الفرق، وأن لنا وطنا كجنة الخلد، فيه السهل والجبل، وفيه البحر والنهر، وفيه أشجار زيتون زرعت قبل أن يولد التاريخ، وفيه مقامات لأنبياء وأولياء مهما حاولتَ عدها فلن تستطيع إحصاءها، وأن لنا بيتا في قرية تنام في حضن الجبل لا يزال جدي يحتفظ بمفتاحه الحديدي في مكان آمن خوفاً عليه من الضياع، فهو وإن علاه بعض الصدأ، لا يزال يشكل جسراً للوطن وأملا بالعودة، تعلمت في المخيم أن أقرأ قاموس الوطن وتضاريسه وتاريخه مكتوباً على الجدران، وعلى وجوهٍ لم تستطع الأيام أن تخفي آمال قلوبهم وآلامها.
قرأت في تلك الأيام عن رجال في الشمس، أخذتهم رحلة البقاء إلى ما هو أبعد من مخيم النزوح وحدود الوطن، وكانت آمالهم أقوى من آلامهم، فلم يدقوا جدران الخزان، وخسروا أرواحهم قبل أن يخسروا أملهم بما هو قادم، وقرأت أشعاراً عن شعب إذا جاع أكل التراب، وعصر الصخر إذا عطش، تعرفت في تلك الأيام على صديق يملك من العمر عشر سنين، عاقداً يديه وراء ظهره ناظراً إلى ما يحدث في الوطن وخارجه، رافضا أن يكبر داخل المخيم، فهو لا يستطيع أن يكبر إلا داخل الوطن، فهناك بيت المختار، والبئر، ومقام لولي لا يريد أن يكبر وهو يجهل اسمه.
رحل عنا جدي، تاركاً لورثته مفتاحا حديديا، وثلاث غرف بسقف من الاسبست، وما تيسر من الذاكرة، في سنة عجز قاموسنا عن إيجاد اسم لها، فمصطلح السلام مع المحتل لم يكن موجوداً بعد، ولكنها شهدت مصافحة ما بين المحتل و زعيم دولة حملت معنا راية التحرير وأحلام العودة ردحاً من الزمن، وكأن هناك رسالة خفية يخبئها لنا القدر بقاموسٍ جديدٍ للّغة آت ولو بعد حين، لكي تحمله معها الأجيال القادمة، أما ما سبق فسيتم دفنه، كلما انتقلت عهدة المفاتيح الحديدية وغرف المخيم من الآباء الى الأبناء، رحل عنا جدي قبل أن يشهد حفل زفاف أولى شقيقاتي، وولادة شقيقة أخرى أنجبتها أمي في إصرار عجيب على أن سلسلة الأجيال يجب أن تبقى متصلة بلا انقطاع، وعلى الرغم من أن الأمر لم يرق لي في البداية، إلا أنني وجدت فيها لاحقا فرصة سانحة لإبراز مواهبي في رواية القصص، وإخبارها بما غاب عنها من جلسات الصيف في المخيم، وعن مطعم الوكالة، وصهريج الماء، وما علق في الذاكرة من تفاصيل القرية وطرائف بئر الماء، وأذكر أنني لم أجد صعوبة في تعليمها كيف ترسم صديقي الصغير على الرغم من عجزها عن فهم سبب عقده ليديه خلف ظهره ورفضه لأن يكبر كما نكبر نحن.
لم تستطع سنة خروج المقاومة من آخر معاقلهم الملاصقة للوطن، والتي اضطر فيها من ترك المخيم متلحفا رداءه المرقط، إلى الذهاب بعيداً في طريق أصبح فيها الوطن أبعد بكثير من مرمى حجر ومحاولة تسلُلٍ عبر الحدود، وبدأ الضباب يطمس تفاصيل القرية، وأحلام العودة، وآمال الرجوع عند الكثيرين، ولكن لم تستطع هذه الأحداث أن تطفيء شرارة في القلب اتسعت لتشعل ناراً وتلقي حجراً في وجه المحتل، وفي وجه كل من حاول أن يدفن مفتاح البيت العتيق وذكريات القرية مع صاحبها.
امتدت سنوات الإنتفاضة من عمق الوطن، مرسلة لمن أخذته قدماه ورحلة التهجير بعيداً عنه، برسالة لا يمكن طمسها، بأن الارض وما عليها لنا نحن حتى وإن وطأها المحتل، إلا أن سنوات الحصاد تكون متبوعة دوماً بسنوات عجاف، فقد تلاحقت الأحداث بشكل عجز من عاصر النكبات والنكسات وكل ما في قواميس اللغة من مصطلحات عن فهمها وإيجاد أسماء لها، فمن سنة المؤتمر، إلى سنة الإتفاقية، فالصلح، فالمبادره، في محاولة لفرض هدنة قسرية ما بين قلوبنا وواقع مؤلم أُجبرنا على عيشه حتى وإن رفضناه.
خلال تلك السنين، رحل عنا أبي الذي تركنا صغاراً في رحلة همها إنشاء جيل قادر على أن يعيش ليبقى مرفوع الرأس لا ينحني للعاصفة، وعاد وإذ بنا رجالا قادرين على حمل تلك الأمانة، رحل عنا قبل أن يشهد ارتباطي بابنة أخيه الذي صارع انعدام الكهرباء، وضيق العيش، و صغر الخيمة، حتى صار طبيباً، وكانت خارطة ذهبية للوطن أول هدية مني لها لكي أخبرها أن أمامنا معاً ما نحمله من عبء الحياة، وذاكرة الأجداد، وأحلام العودة، بالإضافة إلى مفتاح حديدي قديم ورثناه عن جدنا سنحرص دوماً على ألاّ يعلوه الصدأ.
كَبُرْتُ وتجاوزْتُ الأربعين، ورحل الأجداد والآباء، ولم يبق ممن تملك ذاكرته بعض الصور المرئية لقرى لم يبقِ المحتل فيها بيتاً ولا بئراً ولا مقاماً لولي، إلا أمي وبعض الأقارب ممن خانتهم ذكريات الطفولة، فلم يعودوا يذكرون القرية إلاّ في لحظات انقشاع ضباب النسيان، وحُفرت مكانها ذكريات مخيمات اللجوء والنزوح، وأحداث سنين عجز قاموس اللغة عن إيجاد أسماء لها، وها أنا ذا أجلس ناظراً لأطفالي الثلاثة، الذين يشكلون مع باقي الأحفاد عدداً يزيد بقليل عما كانت عليه قريتنا قبل اللجوء، وفي عقلي هاجس يطرق جدران قلبي بقوة: أما آن لنا أن نعود؟ أما آن لنا أن نحمل أطفالنا ومفتاحاً حديدياً في رحلة نعود فيها الى الوطن؟ مسترشدين بخطوات أمي التى حُفرت على أقدامها طريق العودة، لأريهم أين كان بيت المختار، وبئر الماء، ولنتعرف معاً على مقام لوليٍّ غاب اسمه عن جدي.