الأربعاء ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

رحلة بلاد الأنصاف

حدثني أبو ضياء؛ قال:
أغرب الكائنات التي صادفتها في أثناء رحلاتي، كائنات بلاد الأنصاف المحكومة من طرف الحاكم «نص بْلاصة» المُهاب؛ القزم الذي ـ كما جاء في الحكي والشائعات ـ بنى مُلكـَه على المال الذي جمَّعه بالتقتير والشحِّ والربا والخادع والاحتكار والتضييق على الناس وأهله ونفسه. فاستغل ضعف الدولة، واشترى كلّ ما كانت تملك، فسهل عليه أن يقلب الحاكم الأصلي عن كرسيه وأن يُنيِّبَ نفسَه إمبراطورا، وأن يفرض فلسفته الخرقاء على البلاد والعباد.

وليس هو من أسمى البلاد باسم «الأنصاف» وإنما معارضوه. وكان اسمه«الأنصاف» لعموم العدل فيه وحرية التعبير وتحرير أسواق التجارة. وقد زارنا منهم رجلٌ مكتمل اسمه «إصلاح» وحكى لنا في منزل أستاذي أبي جنان عن ظلم الحاكم القزم لشعبه. وكُنّا في ليلٍ ربيعيٍّ في ضوء الشموع والقناديل، وأرائج الياسمين والأزير والحَبَق المستنبتة في حديقة الأستاذ. وكان معنا الرجل الذي فقد وجهه؛ القادم من «تيفيزيا»، والصديقة «وفاء» والطفل «الناجي» الذي جلبتُه من «هِلَّوْفِسْتان» حول مائدة من مرق قديد وخبز بيت وماء بئر وقليل من العنب. فسألته عن موقعهم(؟) فقال: بلدنا على حدود من «رشواياما» وبلاد «جبانكولوبان» وبلاد «الخلاء والقفار» و«سريبلانكا» والبحر الثاني، على بعد عقد بحرية من «أشباحلاند». وقال الأستاذ:«الذي رأى ليس كالذي سمع». ففهمتُ أنَّ عليَّ السفر. ولم تشأ «وفاء» مرافقتي لأنها بصدد إتمام كتاب آخر، ولأنها كانت ضاحكة في تلك الأيام.

فتركتهم في الحين إلى سحر الليل وضياء الشموع، وانصرفتُ لمغامرتي. وحيدا كما في جل الأحيان، راكبا الموج العتّي، مُقاتلا الخوفَ والقلق لعدة نُهُر وليالي عبر البحر الأول؛ إلى أن استقرّ مركبي بشط البلد المرام. وقد صرت ـ كما العادة ـ كتلة من العظم والتعب. وكان أن استقبلني نصف جمركي (بكلام نصف فارغ) عن هويتي وغرضي من الزيارة. ثم جاء نصف طاكسي، فاستقللته إلى العاصمة «نسطاط» فنقدتُ النصف أجرة كاملة، ثم توجّهتُ لمقهى أمامه جميل، وخلفه خراب. فجاءني نصف نادل بنصف «كوميرة» ونصف زلافة بيصارة معلُوَّة بنصف أوقية من الزيت. فاسترجعتُ الروح بذلك الفطور النصفي. فانتبهتُ إلى نصفِ مثقف كان يقرأ صحيفة نصفها مكتوب ونصفها الآخر ممحو. وخلت أنّه سيكلمني ويستفسرني عن زيارتي لبلده؛ ولكنّه جمع متاعه وانساب يزحف على البلاط بنصف جسد علوي.

فسمعتُ ضحكا خلف ظهري كان لِنصف رجل سفلي (أو نصف امرأة) يكركر من هدية الزواج المحمولة بنصف عربة يجرها نصف بغل وكثير من أنصاف النساء. وقالت لي الرجلان النصفيتان: إنها هدية عرس أحد أبناء الأعيان، وأنا كنت على علاقة بخطيبته، ولسوف يجدها نصف عذراء، نصف حبلى. وكانت هي الأخرى محمولة على عربة ال«جهاز»: مجرد «نص». فسألتُ النصف المقتهي:«بالله عليك؛ اشرح لي كيف سيفعل معها الزوج في ليلة الدخلة؟». وبدأت تمطر مطرا متقطعا. فقال لي النصف:سوف تعطيه النصف، وسوف يعطيها النصف، وسوف تسعد البلاد بمولود هما «النص ـ نص». ثم انصرف يجرُّ رجليه من دون باقي جسده.

ورحتُ أتجول في الشوارع؛ فرأيتُ نصف مدرسة يدخلها أنصاف تلاميذ ليتخرجوا منها أنصاف مواطنين؛ وفي الغد كانت حملة انتخابية بأقزام أكْرشين يقدمون للناس أنصاف برامج سياسية، ليقنعوهم بالتصويت عليهم. وفي منعطف مظلم من شارع غير معروف، رأيتُ رجلا ذا لحية وسِخة يُحدث شتاتاً من الناس المجرّد عن جنات النعيم في سماء يعتقدها هو(لا غيره) قائلا لهم: هناك في الأعلى، ثلاث جنّات ونصف؛ يدخل الأولى طائعوا الحاكم «نص بلاصة»، والثانية يدخلها المخلصون لخدمته، والثالثة تُفتح للصابرين على حكمه والمتفهمين لقرراته. فنطقت امرأة غير نِصفية:«والنصف الباقي؛ من يدخله؟» فاستخرج من جنبه هراوة كاملة، ورمى بها لواحد من الشتات، وقال له: «هَرْوي تلك الفاسقة!» فتمَّتْ «الهرْوَوَة» على مرأى ومسمع «الأنْصاف» ولم يقدر ولا واحد منهم على الدفاع عن تلك المرأة المُهرووة. وكان ذاك المُدَّعي النصّاب مُنصَّباً على الناس (من طرف الحاكم اللازم المتعدي) بغير حقٍّ .

فاستنكرتُ الأمر في نفسي، وسِرت في الشارع الرئيس لأرى أنصاف البنيات والإدارات والحدائق. وكان أن توقّفتُ طويلا أمام قصر العدالة، محاولا فهم التمثال المنقوش على مدخله: امرأة تخفي عينا بعصابة وتُطِلُّ بالأخرى على ميزان بكفة واحدة. وأمّا بناية مجلس الشعب، فكانت مُقسَّمةً إلى ثلاثة أنصاف؛ نصف مدعوم، ونصف محظوظ، ونصف مجلوب لاتقاء شر العين. المُهِمُّ أنك لا تجد شيئا تامّاً في ذاك البلد، اللهم القليل من الناس؛ وهم فئة منبوذة من طرف الحكومة والشعب على حدِّ السواء، ومُعرَّضة دوما للتّهميشِ والاضطهاد؛ ذلك لأنّها تقول ما ترى، وتفعل ما تقول، ولا تخدعُها الأرجل الكاذبة التي يطيل بها القزم نفسه. ومنهم «إصلاح» الذي «حَرَگ» إلى بلدنا غرباتيا.

وجاء ليلٌ بأشكال غريبة في شوارع العاصمة وأزقتها الخلفية؛ فهذه ساقٌ تُزكزك، وهذه يدٌ خارجة من حائط تستكدي الناس، وأصابع صغيرة وكبيرة النقود، وشبحٌ يَسُفُّ الحشيش، وساطورٌ يهوي - في زاوية موحشة - على أحد. والجَوُّ كُلُّه رهبة في رهبة، أمشي فيه حذرا من كل شيء، فما استكانت نفسي إلا عندما وجدتُ فندقاً بالقرب من الشط بألوان باهتة لكن دافئة؛ فولجتُ. وكانت عليه امرأة جميلة في الخمسين من عمرها ذات عينين زرقاوين، وجلد مجعد أبيض ناعم، وتتكلم بلسان غير لسان «الأنصافيين». كانت رقيقة للغاية، فأكلتُ ونِمْتُ عندها. ولمّا نقدتُها أجْرتَها رفضت، وقالت لي:« لقد سرّني أنك آنستني».

وإني أصدقك القول؛ فما من رحلة أنهكتني كهذه. وبقيتُ أفكر بالقرب من مركبي؛ في طريق البحر المُهول الذي عليَّ ركوبُه إلى بلدي:

ــ غرباتيا! وطني الحبيب، أنا قادم إليك من جديد.
ــ وأنت أيها القارئ المتحرر، هل تفكر في زيارة بلدي ؟
ــ نعم!
ــ إذن مرحبا بك!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى