السبت ١ آذار (مارس) ٢٠٢٥
بقلم ماجد عاطف

رغم التواطؤ

رأيته صباحاً في المستشفى، ابن قريتي وأحد وجوه حمولة أخرى، على مقعد انتظار في المستشفى.

قبل ست سنوات، أذكر أن الحديث الشيّق امتد معه ليطال قريبا لي في سورية، لم أره في حياتي ولم أكلمه، لكن النساء - في النسب والمصاهرة والرضاعة- شبكة شديدة التفرّع تجمع البعيدين. محدّثي رجل سبعينيّ وربما ثمانينيّ، تعرّف إليّ من ملامحي في ساحة المسجد. امسكني من كتفي واجبرني على الجلوس فوق الحافة الاسمنتية، جالسا بجواري. وعندما انتهي من الاستفسار التفصيلي عن عائلتي وأولادي وزوجتي ووالديّ، بدأ يستجوبني حمائلياً فردا فردا، بالود الذي يغمس وجها صلبا جافا لقروي اعتاد الأعمال الشاقة، كل قليل يستنشق نفساً قوياً من فوق شاربه الكث، كأنه يتزعّط، ويردّ مبتهجاً كوفيته البيضاء على عقاله.

كنت مستغربا بعض الشيء، هل يريد معرفة مكانتي الاجتماعية أم معرفة شخصي؟

وفكرت: غالبا انتهى دوره الملموس في العائلة والمجتمع، ولم يتبق له إلا الأحاديث والذكريات وطلب الأخبار.

كنت اجيب قدر المستطاع لأنني لم أنشأ إلا قليلاً في القرية.

أتى على ذكر قريبي الذي تمرّد على الجيش الأردني بعد "أيلول الأسود". وفيما بعد، 1982، التحق بتنظيم منشق في سورية.

عندما حصل على العفو الأردني الذي سعى له وجوه أقاربه بالواسطة، لوجود أحكام عسكرية صادرة عليه وأمثاله، رفض دخول الأردن ولم يثق بالعفو المشروط بمقابلة أمنية وربما بتعهد من نوع ما أو ولاء.

حدّثت بما يُقال وأعرف.

ولأن الرجل العجوز الذي فهمت من الحيثيات أنه مقيم في الأردن وعاد أخيراً، بدا لي رفيقا له في فترة ما، غالباً على علاقة غير معلنة بالثورة، كحال بعض الرجال في جيله، سألته:

هل وقف مع الثورة السورية أم النظام؟

لم أخبره طبعاً عن أخبار مصدرها عائليّ وصلتني بخصوصه، وكيف أنه كان يتنقّل بأسماء أخرى بين سورية ولبنان يدّعي أنه يعمل في مشغل محليّ في مدينة أخرى ويعود في فترات متباعدة إلى منزله، وأمام الأقارب العارفين يهوّن دوره أنه مجرد سائق لشاحنة مواد تموينية. عرفت ابنه ذات زيارة للأردن وحدّثني بالكثير الذي دفعه هو نفسه للهرب إلى الأردن، وكان تقديري مختلفاً. وصلني أن الأب في رعب وكان يخشى حتى من التلميذة البعثية الصغيرة، إذا ما احتك لسبب ما بها في الشارع أو السوق، أو من الجار الذي إلى جانبه. لست على اطلاع بامتدادات أسرته التي هناك وقد تتعرّض للتنكيل لسبب أو لآخر.

والخوف موقف مثل العجز يكشفان الحقيقة.

تنظيمه كان يحمل طرحا سياسيا أصوب نظرياً من طروحات أخرى، لكنه، كما قررت بعد دراسة الأدبيات القليلة، مجرد شعار. ارتبط بالنظام تماما وصار موالياً جزءاً منه، مقابل الإقامة والمعيشة والراتب والمعسكر المخصيّ طبعاً. الكثيرون فعلوا ذلك.
من البديهي أن ذلك التنظيم لم يفعل شيئاً للقضية، أكثر من تعيّش أفراده باسمها.

كنت، بعد الثانوية العامة، قادراً على الحصول على منحة جامعية مضمونة في سورية، جامعة حلب؛ لكنّي عندما حسبتها جيداً تخلّيت عنها، لأنني كنت متأكداً أنني عند عودتي سأمضي إلى المعتقل فوراً وسأقضي -بعد تحقيق عنيف- ثلاث سنوات على الأقل، إذا لم يكن اختراقا فتسليما رسمياً للمعلومات.. لم أومن البتة بأي نظام عربي أو سلطة.

لما وصل الربيع العربي إلى سورية، حوّله النظام إلى فصول دموية شديدة العنف. بعض المنتمين إلى التنظيم، انحازوا بإخلاص إلى الثوار السوريين، ودفعوا الثمن مثل غالبية الناس.

كرّرت سؤالي آملاً أن يكون من بينهم:

هل وقف مع الثورة؟

ردّ عليّ بغضب كاشفا تكشيرة لا تخلو من عُصابية:

أي ثورة!

إنه لا يقبل حتى التوصيف. وفهمته فوراً لأن وجوها تشبه وجهه، في نمط موحّد للملامح، جيله كلّه ربما، مرّت عليّ سابقاً: الثورة بالنسبة لهم دولة يتبعونها ومؤسسة وامكانات، غالباً في وظيفة وراتب ومال.

أنا نفسي لو كنت أخذت المنحة الجامعية، لكان مساري قريباً منهم، ولحسن الحظ أنني لم أفعل ذلك ولو بسبب الخوف!!
المضحك المفزع أن التنظيم الأصلي، الذي صارع النظام سياسيا واعلامياً طوال أربعين سنة على كل المنابر المتوقّرة، أيّده فجأة في النهاية ضد الناس وتصالحا، مثلما فعلت، إعلاميا ورسمياً، كل الفصائل الفلسطينية والسلطة، باستثناء حركة إسلامية أو اثنتين!!

الحمدلله على سلامتها.

الله يسلمك.

سعل. كان يدخّن الهيشي، تبغ محلي يابس شديد القوة في النكهة. حديث قصير متقطع. فهمت أنه لم يأت لأنه مريض هو، بل يرافق زوجته التي وقعت فجأة وأدخلت المستشفى. ترك بغلته في الحقل وهرع بها بسرعة في أول سيّارة. كان عليها خطر يهدد حياتها.

ودمّر التواطؤ الرسمي غالبية غزة، وساهم النظام في ذلك، عندما سبق الاحتلال بوقت طويل ودمر مدناً سورية كثيرة كما لم يحدث -على هذا النطاق- من قبل، مانحاً له الأسبقية والتبرير، عدا التهجير والقتل والجرح والاعتقال بمئات الآلاف والملايين.

سقط أخيراً رأس النظام وهرب مذعوراً عندما انشغلت الدول والقوى المتواطئة ضد السوريين بنفسها، فاستغلّ الثوار الفرصة وأسقطوا النظام الهش بهجوم مباغت، لكن بعد أن أفقد الهارب الدولة كل مقدراتها. لعلها كانت خطة دولية مبيّتة: استدراج القوى المستقبلية المحتملة واضعافها كلّها، وفي الوقت نفسه اضعاف النظام الذي شارك. لم تهتم الدول العظمى بالإجرام إنما استغلت الظروف لمصلحتها. لو لم تكن هناك الجولان والحدود المطلّة..، لسقط الطغيان خلال ستة شهور على أبعد تقدير. هذه قناعتي الخاصة.

سألته اذكّره:

ما أخبار الأقارب في سورية بعد الذي صار؟!

نظر إلى وجهي مستفهما. ذكرني بمنظّر أعرفه، من جيله أيضا، رأيته قبل شهور في المكتبة العامة. "مثقف مشتبك وعضوي"، ثوري من الطراز الأول، درس في سورية ونشط بداية هناك. بدأ قومياً عربياً وتمركس ثم عاد -بعد سقوط السوفيات- وتقومج مع "الاسترشاد"، وأخيراً صار يخترع نظرياته الخاصة مع الكثير من الأكاديميا الغربية، طامعاً أن يصبح مفكراً وفيلسوفا.

شاهدت وثائق مسرّبة على الانترنت، أنه من الذين كانوا يتموّلون من المخابرات السورية، الأمر الذي لم يفاجئني لأن فصائل فلسطينية وبعض المؤسسات كانت تفعل ذلك أيضاً. أمّا توقّف اشتباكه الثقافي العضوي الثوري، الفردي، ولم يكن ليخسر أكثر من التمويل الهزيل، ضد الشعب السوري، فلم أستطع استيعابه. "دم بهذا الوضوح، لا يحتاج إلى معجم طبقيّ"، وشاهدته في مقابلات إعلامية كثيرة على فضائيات، ضد الثورة يبرر للقمع والتدمير والذبح، وكان يجعلني امتعض.

انتظرت الرجل ليجيب عن سؤالي، واشاح بوجهه عني. رمى لفافة الهيشي وتَفَلَ اللعاب الحامض المرّ وقلب كوفيته. هل حصل لهم شيء؟ هل يجهل؟ مشغول بزوجته وليس وقته؟ أم أنه مستاء مما حصل؟؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى