الأحد ٢ شباط (فبراير) ٢٠٢٠
قراءة في
بقلم زكية خيرهم

رواية وادي الدموع للروائي المغربي محمد مكي

الرواية نمط أدبي تعكس الواقع، وبما ان الروائي في المغرب الكبير والعالم الشرقي تتكاثر فيه الهموم وتندلق على طول الساحة من قهر وضيق في الرزق والسكن واستبداد الأنظمة والأعراف البالية معشعشة من الماضي السحيق، ولا تزال تجد طريقها إلى عصرنا. وهو ما تقترحه علينا رواية "وادي الدموع" للكاتب المبدع محمد مكي والصادرة طبعتها عن مطبعة وراقة بلال فاس.

إن عنوان الرواية مفتاحا اجرائيا، يُدخل القارئ الى عالم الحكاية وكشف أسرارها وتكوين فكرة عن ماهيتها، وعن الحدث الذي تدور حوله الرواية. " وادي الدموع" عمل سردي يصف تجارب انسانية حميمة، تتسم بالقلق وتصف العلاقات الدقيقة المتداخلة للانسان، باستخدام الخيال النوعي والخيال الشعبي. تطرّق الكاتب محمد مكي إلى مواضيع مهمة في المجتمع المغربي المليء بتناقضات اجتماعية بسرد أدبي جميل وبوح وتفاصيل واضحة عن واقع ذاتي وموضوعي واجتماعي، وعن خبرة وتجربة حياتية معيشة. تُبرز الرواية هموم ومعاناة المعلمين والأساتذة في المغرب والقهر الذي يتعرضون اليه بكل اشكاله: قهر اجتماعي واقتصادي وسياسي. يسترسل الروائي محمد مكي في احداث متنامية متصاعدة ونماذج دالة بطريقة ابداعية تشدّ المتلقي بقوة، أثراها سرد الرواية القائم على الاستطراد. حيث يُخرجنا من حديث الى آخر بمناسبة بينهما، ثم يرجع ليتمم الحكاية. من بداية الصفحة الرواية تشد القارئ فارضة نفسها بقوة الواقع ومرارة الحياة الصعبة التي يعيشها المعلم في حياته المهنية في قرى نائية بعيدة عن التمدن وعن الحياة الحضرية، حيث قساوة الظروف الطبيعية وغياب اساسيات الحياة اليومية. وحيث يتحول المعلّم من استاذ يدرس التلامذة إلى ممرض وخطيب في المسجد ليساعد السكان ويسد الحاجة. واقع يعيشه القارئ على طول جسد الرواية وامتداد صفحاتها. يقرأها بنهم وبدون كلل. "سنوات من العمل الجاد والدؤوب قضاها المعلم "الطيب" بطل الرواية في الفيافي وأقاصي الجبال من قرية الى قرية ومن بادية الى أخرى. يقول: "..... عرفته صخورها الصمّاء، وكلّمته فيها قممه الشاهقة ، اعتلى صهوات جيادها، وامتطى زهور آتانها وجرّب شتى وسائل النقل لقضاء حاجاته ومآربه المعيشية والوظيفية .."

"سأله يوما زميله عبد العاطي قائلا: اريد ان اعرف سر حب الناس لك من دوني. حينما تسافر وتتركني لوحدي لا احد يسال عني ولا احد يتذكرني حتى بكسرة خبز.

"الناس هنا يا صديقي مرآة لامعة. تنعكس عليها طريقة تعاملنا معهم .....الناس ينتظرون منا النزول الى مستواهم، نعاملهم بلطف نتفهم ونتقبل جهلهم دون خدش او تهكم." الكاتب محمد مكي يختار الزاوية التي ينظر منها إلى كيف يرى الواقع وكيف يعبر عن وجهة نظره، متأثرا بما يراه، يُحسّه داخل المجتمع والطبقة التي ينتمي اليها حيث ان الواقع الاجتماعي هو الذي يحدد حياة الكاتب، طريقة تفكيره واحساسه. " وما هي الا لحظات حتى سمع صوت صديقه يستغيث، ويصيح ويتألم من وقع لذعة عقرب أصفر، صغير الحجم، سريع الحركة، يطلق عليه السكان "تفيغرا"

".... كانت يداه ترتعشان، وهو يبصر زميله يتنفس بعمق، أخذ المشرط وعمد الى مكان اللدغة، جرحها بخفة وبدأ يمتص الدم بفمه، ويبصق على الأرض، مكررا العملية مرات. حزم زميله على ظهره وانطلق به نحو الفيلاج." شخصية شديدة في الحب للناس، في الوفاء، شديد الثورة على الاوضاع المتردية، شديد الرغبة في التحول، وهذا دائما نهج الفن الانساني العظيم.

"هاهما على مشارف الضاحية يقتربان ببطء نحو مستوصف متهالك، بحجرة واحدة، يعود تاريخ تاسيسه الى فترة الستينيات من القرن الماضي. عرف نشاطا منقطع النظير آنذاك، حيث كانت تداوم فيه ممرضة أجنبية، وهبت نفسها لانقاذ المرضى، على أهبة واستعداد لتقديم خدماتها لكل قادم من القرى والأرياف المحيطة البعيدة بالقرية. "مَسُّور" هكذا كانوا ينادونها مرتادو المستشفى .. فرنسية في الستين من العمر، اندمجت في حياة هؤلاء البدو، أحبتهم وأحبوها، ولو وقفوا على دمها لما بخلت به على واحد منهم. حينما ماتت عمّ الحزن كبيرهم وصغيرهم وأكثر من ذلك غسلوها وصلوا عليها صلاة الجنازة ودفنوها في مقابرهم بالرعم من اختلافها معهم في الملة والعقيدة."

" ...... بعد نصف ساعة هاهو الممرض سعيد يحضر متجها غاضبا : ماذا هناك؟ الا تتركون الواحد يرشف كاس شاي بحريته!؟

ماذا تقول يا رجل.. نحن استاذان، وهذا زميلي يشرف على الموت."

مفارقة الموقف في سياق النص، تُكوّن للقارئ صورة في الذهن ثم في الحياة والواقع. رواية وادي الدموع، لوحة أدبية مكتوبة بأسلوب سلس، تغور عميقا في منافي القهر، والأمية والجهل والاستيلاب لمناطق جغرافية لا تزال حتى الآن محرومة من أبسط الحقوق الانسانية. إنهاررواية الكشف من خلال تطويع المكان لغاية الراوي الفكرية والنفسية. إن رواية وادي الدموع لوحة أدبية مكتوبة بأسلوب سلس. تغور عميقا في منافي القهر والأمية والجهل والاستيلاب في مناطق جغرافية لا تزال حتى الآن نائية محرومة من أبسط الحقوق الإنسانية . إنها رواية الكشف من خلال تطويع المكان لغاية الراوي الفكرية والنفسية. رواية عن الحب والآمال والنظال وعن طاعة الوالدين وعن التضحية، عن السحر والجن وعن العنصرية. رواية وادي الدموع من أخلص الروايات وأكثرها وفاء عن معاناة الاستاذ والمعلم في الوطن دون زعيق أو قرع طبول. إنها تصور الواقع المرير كما هو، وتبلغنا رسالة من أقرب سبيل. رواية خفيفة الوقع ثقيلة في آن تجذبنا اليها جذب حلو فنمضي نتابع أحداثها، فإذا نحن أمام نهاية حزينة مليئة بالمفارقات. وفي غمرة ألمنا نود لو كانت النهاية أقل قسوة وايلاما، ولكننا نعلم أن القدر لا يستأذن عواطفنا. إن النهاية الفاجعة التي تنتهي بها " وادي الدموع" تحوي المعنى الأعمق والأكثر احتجاجا على واقع محزن ينبغي أن ينتهي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى