الجمعة ١٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
قصة
بقلم محمود البدوي

ساعة المحطة

كان عبد الغنى فراشا فى محطة .. متوسطة على شريط الصعيد ومنذ أربعين سنة وهو يعمل فى المحطات .. رأى الخط الحديدى يمتد أمامه ويزدوج .. ورأى أسلاك البرق .. ترفع على الأعمدة الخشبية وتهتز مع زئير الريح .. ورأى القاطرات الضخمة التى تتغذى بالفحم وتثير زوبعة من الدخان .. ثم رأى الديزل السريع الذى يمضى كالسهم من غير دخان ..

وكان عبد الغنى رغم كبر سنه يقوم بكل الأعمال .. حتى النوباتجية إلى الصباح .. فقد كان بادى الصحة لايشكو من أى علة ..

وكان للمحطة استراحة صغيرة .. وضعت فيها كنبة عتيقة ممزقة ومتسخة وثلاثة كراسى من القش علاها التراب ..

وكان لايدخل هذه الاستراحة أحد إلا السيدات اللواتى ينتظرن الاكسبريس فى ليالى الشتاء ..

ومكتب للتليفون والتلغراف .. تهزه الريح فى الشتاء ويتساقط من سقفه المطر .. ثم مخزن للعفش .. ولكن العفش كان يترك أبدا على الرصيف ..!

كانت القذارة فى كل مكان .. داخل المحطة .. وخارجها ..

وكان كل شىء يتحرك .. فى كآبة مملة .. الموظفون يتثاءبون فى الساعات الأولى من الصباح .. والخفراء والعمال والحمالون يعملون كأنهم مسخرون ..

كان الموظفون يشكون من جمهور الركاب ومن المصلحة ومن الغبار والذباب والحر اللافح فى الصيف .. ومن المطر والبرد والوحل فى الشتاء ومن الكآبة المظلمة التى تحيط بالمكان ..

وكانت لافتة المحطة منصوبة على عمود خشبى فى الشمال .. وطمس من اسمها حرفان تماما .. فأصبح يتعذر على أى إنسان أن يقرأها ..

وكانت هناك شجرة واحدة .. كان من الممكن لو ازدهرت أن تكون منبع الظل والجمال .. ولكن تركت للمقادير .. ولريح الخماسين .. ولم يكن هناك شىء مضبوط فى المحطة سوى الساعة .. وتحتها كان يجلس عبد الغنى .. ومنذ انشئت المحطة .. وعلق عبد الغنى بيده الساعة على واجهتها وهى تسـير بدقة .. كانت لاتتأخر ولا تتقدم ثانية واحدة .. كانت تسير بانتظام عجيب ..

وكان الناس يضبطون عليها ساعاتهم .. كأنها " بج بن " ..

وكانت هذه الساعة تتحرك وتحتها يتحرك عبد الغنى ينظر إليها .. ويقرع جرس القطار .. وينظر إليها .. ويفتح مكتب الناظر .. وينظر إليها .. ويتسلم الوردية من شعبان ..

وكان كل شىء حسنا فى نظر عبد الغنى .. كان قانعا بالحياة .. راضيا وكانت أمنيته العزيزة الباقية أن يزور الأسياد فى القاهرة ..

***

وذات مساء .. استدعاه الناظر وقال له :
ـ يا عم عبد الغنى .. مدتك .. قربت ..

ولم يفهم الرجل فقد كان بكامل صحته .. كأنه ابن العشرين .. وفتح فمه فى استغراب .. ومد رأسه يستوضح .. فقال الناظر :
ـ وصلنا جواب .. من المصلحة .. علشانك ..
ـ فيه ايه ..؟
ـ مدة خدمتك تنتهى فى أكتوبر ..

وكأنما سمع الرجل الحكم عليه بالاعدام .. فرغم الكآبة وقلة الأجر طوال هذه السنوات .. فإنه كان يعمل ويتحرك .. ويشعر بالأمان .. أما الآن .. فقد القى به بعيدا .. عن معترك الحياة ..

وأحس الرجل الذى كان يسير فى المحطة كابن العشرين .. أحس لأول مرة فى حياته بالشيخوخة الحقة تدب فى جسمه .. فسحب رجليه سحبا .. وجلس على دكة هناك .. بعيدا .. ينظر إلى المحطة الصغيرة التى عاش فيها .. أربعين سنة من عمره .. والتى أقامها على عاتقه .. أن كل الموظفين الذين جاءوا إليها وعاشوا فيها .. خدمهم باخلاص .. كان لهم نعم الأب .. الصغار والكبار منهم وكل شىء فى المحطة يتصل به ويمتزج .. الاكشاك .. وأسلاك البرق .. والمكاتب والتليفون .. وآلة التلغراف .. وحتى التراب .. فكيف يقطع هذا منه وينفصل عنه فى لحظة .. فى اكتوبر سيخلع بدلة المصلحة .. وماذا يلبس .. وفى أكتوبر سيتسلم المكافأة وماذا يفعل بها بعد أربعين سنة .. قضاها فى هذا القطاع الضيق من الحياة .. ماذا يفعل ..؟

واستدار بعنقه وهو جالس .. إلى الخلف .. شعر بشىء يحط على كتفيه .. وود لو يراه .. ويلمسه .. وتثاءب .. وأحس بالنعاس وشعر بثقل تام فى جسمه كله ..فاسترخى وراح فى دوامة من الهموم ..

ولما انتهى من عمله فى المحطة .. انحدر منها إلى بيته .. وفى الطريق وقف أمام دكان حمدان يشترى علبة سجائر .. وكان يود أن يقول له :
ـ استوفيت المدة .. يا حمدان .. الناظر .. قال لى كده ..

وعجب أهل بلدته لمنظره وهو يمشى متثاقلا .. حزينا .. حسبوه راجعا من جنازة ولده ..

وعندما دخل بيته ورأت زوجته الكآبة على وجهه ، سألته :
ـ مالك .. يا عبد الغنى .. قطعوا منك يوم ..؟
ـ قطعوا عيشى .. على طول ..
ـ كيف ..؟
وخنقتها العبرات ..
ـ استوفيت المدة ..

ولم تفهم نبوية شيئا .. ولكن بعد دقيقة فهمت .. وخيم الحزن على البيت وناما من غير عشاء ..

***

وفى اليوم التالى .. استيقظ عبد الغنى لأول مرة متأخرا .. وشعر بكآبة الحياة وثقلها .. وخرج من بيته إلى المحطة .. وكان يسمع صفير القطارات ودخانها .. وحركة السيمافورات .. وهو يشعر بغشاوة على بصره وسمعه ..

رأى كل شىء قد التف فى سواد .. ماتت فى نظره كل المباهج والمتع واسود وجه الأرض فى لحظة ..

وكان كل من فى المحطـة قـد عرف أن عبد الغنى سيحال إلى المعاش .. فتألموا لفراقه ، فقد كان يغمرهم جميعا بأبوته الكريمة ..

ورآه ذات ليلة أحد الموظفين يشترى شيئا من السوق لموظف التلغراف .. وابتدره عبد الغنى بقوله :
ـ سمعت يا فكرى أفندى .. أنا استوفيت المدة .. امبارح ندهلى الناظر .. وقال لى كده ..
وكانت عيناه .. تسبحان فى الدمع ..
ـ وما كلمتش حد ..؟
ـ مين ..؟
ـ الدكتور عرفان مسافر فى قطر تسعة هو والست بتعته .. اجرى كلمه .. يكلملك حسن بيه ..
ـ يعمل إيه ..؟
ـ يشوفلك حل .. يمدوا لك المدة .. يعينوك عتال ..!! أنت بصحتك ..
ـ مسافر فى تسعة ..؟
ـ أيوه .. الحق ..

وعندما صعد عبد الغنى جسر المحطة .. كان قطر تسعة يدخل كالزوبعة وكان الوصول إلى المحطة عدوا .. لايمكن أن يتم فى أقل من خمس دقائق .. والقطار .. يقف دقيقة واحدة .. ومع هذا فإن العجوز المسكين جرى بكل سرعته .. وكل قوته ..!!

وعندما دوى حذاؤه على أرض المحطة كان القطار قد تحرك .. ورمى مارجا من الدخان والنار ..

وصاح عبد الغنى .. وهو يجرى وراء آخر عربة :
ـ يا عرفان بيه .. شوفلى حكايتى فى مصر .. وحياة السيدة زينب ياعرفان بيه .. كلم حسن بيه وحياة أولادك حيرفتونى ..

وأخذ الرجل يزعق .. كالمجنون ويختلط صراخه .. مع الصفير .. وبعد أن غاب القطار فى جوف الليل عاد عبد الغنى يلهث على الرصيف ثم جلس تحت الساعة .. وكان التعب قد نال منه وقلبه يدق بشدة فقد بذل مجهودا عنيفا ..

وعندما دخل قطار نصف الليل المحطة خرج الناظر من حجرته يستقبله .. ورأى عبد الغنى من بعيد جالسا تحت الساعة وحيا الناظر الكمسارى والسائق .. ثم قال :
ـ دق الجرس .. يا عبد الغنى ..

ولكن الجرس لم يدق ، لأن عبد الغنى أصبح لايسمع أى صوت ..
وأشار الناظر بيده للسائق .. فتحرك القطار من غير صفير ..

كان كل من يراه يتصوره نائما .. وكان وجهه يتجه إلى السيمافور المفتوح .. على خط القاهرة .. وإلى هذا السيمافور كان ينظر من أربعين سنة وعلى وجهه الرضا والقناعة ..

وكانت الساعة قد توقفت على العاشرة والدقيقة الخمسين وهى اللحظة التى توقف فيها قلب الرجل .. توقفت تماما .. وهو شىء لم يحدث لها منذ تحركت عقاربها فى هذه المحطة ..

نشرت القصة بمجلة الجيل 30/4/1956 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح " وفى مجموعة " قصص من القرية " ـ مكتبة مصر ط 2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى