الخميس ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
الأدب المصرى فى حرب أكتوبر 1973
بقلم محمود البدوي

الحارس

غادرنا "منفلوط " فى اليوم التاسع من أكتوبر فى جــو مشحـون بالحــرب فى كل مكان. وكانت الأنوار منطفئة فى المحطة، وفى المدينة، ولكن القمر كان طالعا ونوره يفرش على البيوت والمزارع وبساتين النخيل.

وكانت الريح رخاء، والليل صحوا، والرؤية واضحة إلى المدى البعيد، ورغم الإظلام فى المحطة، وفى البيوت، ولكنا لم نسمع صوت قذائف على الإطلاق.

وكان الناس يقومون بأعمالهم العادية فى هدوء كأن الحرب لم تشتعل منذ ثلاثة أيام، ولكن الفرحة كانت بادية على الوجوه، وفى سلوك الأفراد وتعاملهم، فقد هزتهم موجة الانتصار وأطلقت العنان لمشاعرهم المحبوسة.

وكضابط أمن فى المنطقة فإنى أقرر أنه لم تقع منذ ثلاثة أيام حادثة واحدة سجلها دفتر الأحوال فى المركز.. سوى حادثة سقوط "لينا عازر" بين المزارع.. رفيقتى فى هذا السفر الليلى.. فى العربة الخلفية من قطار الركاب رقم 777، فقد فاتنا الاكسبريس لخطأ فى التقدير. فكان لا بد من السفر فى الليل، فى مكان منفرد، وبعيدا عن الركاب.. ووقع الاختيار على ديوان صغير مخصص للسيدات.. ويحتوى على كنبة جلدية واحدة، ويقع فى نهاية صف الدواوين فى آخر عربة فى القطار.

وكانت العربة بأجمل صفاتها متهالكة، ومفصلاتها تزعق، وزجاج نوافذها نصف مكسور.. وعجلاتها تدوى على القضبان كالطاحون القديمة..

ولكن الديوان الصغير الذى أجلست فيه "لينا" كان بابه صالحـا للعمـل.. والزجاج فى النافذة والباب كانا سليمين.

وكحارس لا تفوته ثغرة أخذت على ضوء القمر، وضوء البطارية التى معى، أدور بعينى فى هذا الجزء الخلفى من العربة بعد أن أودعت " لينا " فى داخل الديوان.. وشعرت بالراحة لأنى سأستريح من فضول الناس، إذ لم يكن فى الدواوين الملاصقة لنا مباشرة ركاب على الإطلاق.. وكان وجودهم سيسبب لى مضايقات كثيرة، لأن "لينا" لا تزال بملابسها العسكرية التى سقطت بها..

وكنت قد أنزلت خشب النافذة عندما كان القطار واقفا فى المحطة، فلما تحرك خالفت التعليمات ورفعته لأن الإظلام كان تاما فى القطار كله.. ورأيت ألا نختنق فى هذا الظلام وأن أدخل قليلا من ضـوء القمر من خلال الزجاج.. لأراقب الأسيرة وأراها وترانى..

وأخذت أتطلع فى الضوء الطبيعى إلى وجهها، وكانت قد شربت دموعها واستفاقت من الفزع الذى أعقب السقوط.. واطمأنت على حياتها، وعلى وجودها معى كحارس لها.. فقد عاملتها بالحسنى من أول لحظة.. ومنعت عنها سباب النساء، ولعنة جنسها، وغضب الجموع التى أحاطت بها..

فإن شخصا يسقط فى المزارع وبين الفلاحين بعد أن كان يحلق ليرميهم بقنابل الدمار له فى نظرهم حكم واحد.. الموت.. وقد نجيتها من الموت.. وبسرعة نقلناها من المركز إلى القطار، وأصبحـت مسئـولا عنهـا وحدى حتى أصل بها إلى المكان المعين لنا. وحدث كل شىء بسرعة رهيـبة حتى أننى لم استرد أنفاسى.

وكنت فى أشد حـالات التعب إذ لم أنم منذ يومين، وخشيت أن يغلبنى النعاس فتهرب، كنت فى خوف موصول من حدوث ذلك.. ولهذا أخذت أفتح عينى جيدا.. وشعرت بأنى فى حاجة شديدة إلى فنجان من القهوة أو الشاى، ولكن ساءنى أن القطار ليس به مقصف ثابت ولا متنقل كما نشاهد فى القطارات الأخرى.

وكانت "لينا" بجانبى من الداخل، وكنت أرى جانب جيدها.. ورأسها المنحنى المستدير قليلا إلى النافذة، وتبدو صامتة وحزينة، ولا يبدو عليها التفكير فيما يدور بخلدى.

ولكن من الذى يستطيع أن يتبين من ملامح المرأة ما تبطن من خفايا نفسها..

كانت ترتدى ثوبا أخضر من الكتان ويبدو ضاغطا فوق وركيها وبروز صدرها..

ورجعت إليها أنوثتها، فأخذت تسوى شعرها، وتصـلح من ردائها العسكرى.. فعندما هوت وجرت لما طاردها الفلاحون تعثرت وسقطت على الأرض بين الزراعات المروية فاتسخت حلتها، وعلق بها التراب والطين.. فخلعت سترتها وأخذت تنظفها.. وبدا لحمهـا من تحـت القميـص الأخضـر متسخا كأن به آثار جرح..

فسألتها:

ـ هل بجسمك رضوض..؟

ـ أبدا.. التوى قدمى قليلا وأنا ساقطة..

ـ سنعالج هذا عندما نصل..

ـ نصل إلى أين..؟

ـ نصـل إلى مدينـة جميـلة.. وستجدين رفاقك هناك فى انتظارك..

وبدا عليها السهوم.. ولعلها تذكرت ما فعلوه هم بالأسرى المصريين فى الحرب الماضية.

وسألتها:

ـ أى مدينة فى مصر كنت تودين تدميرها..؟

فشحب وجهها :

ـ لم نخرج لندمر.. كانت طائراتنا استطلاعية..

ـ لماذا سقطت..؟

ـ أصيبت بقذيفة..

ـ هل ولدت فى إسرائيل..؟

ـ ولدت فى رومانيا..

شاهدت فى مجلة أجنبية منذ اسبوع فقط صورة لأسرة رومانية تجلس فى حديقة بين الورود والرياحين، أسرة وديعة مسالمة.. فلماذا تختلفون أنتم عن جميع أجناس البشر وتريدون تخريب العالم..

ـ لقد قلت أن الطائرة استطلاعية وأنا لم أسبب الضرر لأحد..

ـ بعد طائرة الاستطلاع.. تأتى طائرة القنابل..

ـ إنها الحرب..

ـ أجل إنها الحرب.. ولا سلام فى هذه الأرض مادمتم تشنون الحروب على ظهرها.. هذا هو رأيى..

كان الحرز الذى وضعنا فيه أشياءها لا يزال بجـانبى فألصقـته بالمسند واتكأت عليه.. وابتـعدت عنها حتى أصبحت قريبا من باب الديوان لأفسح لها مكانا لتنام..

وقلت لها:

ـ نامى ساعة أو ساعتين.. فالرحلة طويلة..

ـ إنى جائعة.. ولا أستطيع النوم وأنا جائعة..

ورأيت أن أشترى لها طعاما فى المحطة التالية، أو فى "ديروط"..

وأخذ هواء الليل يترطب، ومع سرعة القطار.. اشتد مرور الهواء، فبدأت الأتربة تتطاير فى وجهينا كلما دخلنا فى المحطات الصغيرة.. فأغلقت زجاج النافذة..

اقتربنا من "القوصية".. وفكرت أن أجد فيها طعاما.. واشتريت الطعام الذى يكفينا.

ولما تحرك القطار سألتنى وهى تأكل :

ـ من الذى علمك العبرية.. بهذه الطلاقة..؟

ـ كنت أسكن فى حارة عندنا اسمها حارة اليهود..!

وافترت شفتاها عن ابتسامة باهتة..

ولأول مرة أرى ابتسامة على وجهها..

ـ ولهذا وقع عليك الاختيار لترافقنى..؟

ـ أجل.. فقد كان هذا من سوء حظى..

ـ لماذا.. إننى لم أسبب لك أية متاعب..؟

ـ لقد طلبونى على عجل وأنا مريض.. ولم أذق للنوم طعما منذ يومين.. وقد أكون محموما..

ـ لماذا لا تستريح الآن وتأخذ كفايتك من النوم..

ورفعت بصرى إليها ولم أعقب..

وتكورت هى بجانبى بعد أن تعشت، واضعة رجليها تحت فخذيها.. وأغمضت عينيها.. وإن كنت على يقين بأنها تنام بإحدى عينيها فقط، وتظل الثانية مفتوحة..!

وفى محطة "ديروط" ناولتها زجاجة من العصير، وكنت أود أن أشرب القهوة.. ولكنى لم أجدها فى داخل المحطة..

وكان السكون شاملا، والظلام تاما، وحالة الحرب بادية هنا بالدرجة القصوى، وكانت ترعة الإبراهيمية على شمالنا.. تبدو مياهها هادئة.. وعلى الأفق الغربى كان القمر يلتهب وكان لون أخضر يضرب إلى السواد يغطى المزارع، أما المدينة فكانت محتجبة فى الظلمة وساكنة..

وساعدنا السكون الشامل على أن نسمع صوت الراديو، وكان يذيع انتصارات الجيش المصرى على طول جبهة سيناء.

وقرأت "لينا" الانتصار على وجهى فامتعضت وبدا عليها الذبول لقد أطلق الراديو مشاعر كانت فى عـداء صريح مع عقلها وتفكيرها.

كانت تتوقع انتصار جيشهم ولم تكن تتوقع هزيمة كهذه أبدا وأصيبت بخيبة أمل مرة.. وغدت سحنتها مخيفة، ضاعت منها كل علائم الأنثى. وخفضت رأسها وراحت تنظر إلى أرضية العربة.. وجعلنى هذا أراقبها بحذر ولا تغفل عينى عنها لحظة.

وخطر فى ذهنى خاطر.. أن أحـدا من رجـال الأمن لم يفتشها فى المركز.. واستدعى لتفتيشها مدرسة فى المنطقة.. فتشـتها فى غرفة مغلقة.. ولكن هل فتشتها هذه المدرسة كما يجب..

ونظرت إليها وكانت لا تزال متجهمة وقلت بهدوء:

ـ قفى..

ـ لماذا..؟

ـ أريد تفتيشك..

وارتعش بدنها..

ـ لقـد فتشـت فى المركـز.. والأشيـاء كلها معك فى الحرز..

ـ ولكنى سأفتشك مرة أخرى..

ـ تفضل..

ووقفت وفتشتها بدقة متناهية، وهى تنظر إلىّ بدلال..

وعجبت وأنا أضع يدى على لحمها من كونى لم أشعر بأية عاطفة نحوها.. وهى رشيقة الجسم وتعد جميلة فى النساء.. كانت تقاطيع جسدها بارزة من خلال القماش الكتانى المشدود، وكانت يداى تتحركان على تمثال من الشمع الجامد.. وربما كانت تتصور أننى أتلذذ من هذه الحركة لأنى فتشت الجيوب وقلبتها.. ولمست صدرها وفخذيها، تحـت القميص وفوقه، ربما كانت تتصور أن فى الأمر متـعة لأنها طالـت.. ولكن إحساسى كرجل كان يغطيه دخان الحرب ويغلفه، وكنت جامدا وأى ضعف من جانبى معناه ضياعى كرجل..

وكانت هذه اللحظة هى سلاحها الوحيد الذى تحمله ضدى.. فلما رأت جمودى.. تحولت سحنتها فجأة من دلال الأنثى الناعم إلى سحنة نمرة.

وعادت وقد غلب عليها الارتباك والهزيمة معا فجلست ثم تكورت فى مكانها.. وبعد منتصف الليل وفى الساعات التى اعتاد أن ينام فيها الناس بقيت مستيقظا، وفى أشد حالات الانتباه واليقظة وأصبحت أغالب النوم بصعوبة بالغة.. فقد كنت فى أشد حالات التعب والإرهاق البدنى وأفتح عينى بصعوبة.. وأحدق بجانب دائما.. وأظل جالسا فى خط مستقيم.. لأنى إذا اضطجعت إلى الوراء سيغلبنى النعاس، كان شعورى بالمسئولية الضخمة مضاعفا.. ورغم الجهد النفسى الذى بذلته.. ولكن النعاس كان يغلبنى على فترات قصيرة جدا وأنا جالس وكنت أفتح عينى بقسوة بعد كل غفوة.. وأتلفت فأراها مكانها.. فأطمئن..

ولكنى أعود للنوم.. وأحلم.. بأنها نزلت من القطار.. وتخطت القضبان وهربت وقدمت للمحاكمة، وحكم على بالسجن، ويحدث كل هذا سريعا.. ولكن بوضوح.. فى شريط الرؤية الذى يدور.. وصرخت.. وفتحت عينى فوجدتها واقفة.. تتطلع إلى النافذة..

وقالت بلهجة حزينة.. لما وجدتنى أرفع رأسى:

ـ أريد أن أذهب إلى دورة المياه..

وفتحت باب الديوان، ودفعتها أمـامى إلى الخـلف فى الضـوء الشاحب والقطار يجرى.. وكانت دورة المياه ملاصقة لنا تمامـا فلم تتحرك أكثر من خطوتين فى هذا الظلام..

وفتحت لها الباب ودخلت، وقلت لها بصوت آمر:

ـ دعى الباب نصف مفتوح..

فلم ترد.. وتركت الباب نصف مفتوح.. ووقفت نصف دقيقة فى الظلام، أصارع رغبات لا قبل لمثلى بها.. ثم حركت الأكرة وأغلقت عليها الباب..

ووقفت أنضح عرقا.. ربما انتحرت أو ألقت بنفسها من النافذة فماذا يكون مصيرى.. وطال مكوثها بالداخل.. وأنا فى الخارج فى صراع ورعب، ثم خرجت فوجدتنى على الباب فحدقت فى وجهى فى الظلام، ثم مضت لا تلوى على شيء.. وجلست فى مكانها وقد مدت ساقيها وألصقت ظهرها بالكنبة.. وتفرست فى وجهها الحزين وكل كيانها المرتجف.. كانت خائرة القوى.. أتخاف من المجهول.. بعد أن ضاعت الأحلام.. وأصبحت تواجه الحقيقة المرة.. واسترخيت مثلها.. وأحسست دون أن أنظر من نافذة القطار.. أننا تجاوزنا محطة المنيا.. وسمالوط.. وبنى مزار.. وأننا نقترب من "مغاغة" فأنا أعرف جو هذه المحطات دون أن أقرأ أسماءها.. من كثرة أسفارى..

وتوقف القطار على محطة صغيرة وطال وقوفه.. وكان الظلام يغطى كل ما حولنا والسكون شاملا، ونباح الكلاب هـو الشيء الوحيد فى هذه البقعة الذى يدل على وجود الحياة.

***

وأحسست بالقطار وهو يسير.. وملت عليـها فوجـدت جلستها غير مريحة فعدلت وضع رجليها، وكانت مستغرقة فى النوم، فألقيت بجسمى إلى الوراء.. وأصبح دوى العجلات الرتيب.. كأنه نغم الأحلام..

ولا أدرى أنمت أم كنت صاحيا.. فإن الفترة فى تقديرى لم تكن تتجاوز دقيقة واحدة.. فقد فتحت عينى على حركة وقوف القطار فلم أجدها فى مكانها..

وارتعدت وقد مستنى فجأة حالة رعب قاتل.. ولكنى لم أفقد عقلى.. وتحسست بيدى الحرز فألفيته فى مكانه، فتناولته بسرعة واندفعت من الباب، وكانت هى قد تركتـه مفتوحا خشـية أن حركـة إغلاقه ستوقظنى..

وفى المحطة الصغيرة لمحتها وهى تجرى وتتخطى القضبان مسرعة فى اتجاه المزارع..

وأخذت أجرى وراءها.. وقد تركز العالم كله فى بصرى على ردائها العسكرى..

كانت تجـرى بأقصى سرعتـها فى طريق زراعى مترب بجانب زراعات البرسيم والخضر وفهمت قصدها فقد لمحت حقل ذرة.. وكان فى نظرها نعم المكان للاختفاء.

وجـرت واندفعت إلى الحقل وغابت عن بصرى وأخفاها الحقل والظلام معا..

ويصعب على أن أصف إحساساتى فى تلك اللحظة، فالشعور الذى انتـابنى إذ ذاك لا يمكن وصـفه. لا يمكن تسميـته بالخـوف ولا بالقلق ولا بالعار على ضابط مصرى هربت منه فتاة إسرائيلية، هربت منه أسيرة وهو مسلح وهى عزلاء.. لابد أنها أسرته بمفاتنها فى الليل والظلام والوحدة فضعف واستسلم لها واستجاب لرغبتها.. وأطلقها تعيث فى الأرض فسادا، أطلق جاسوسة تتجسس فى البلاد ونحن فى حالة حرب.

والمحاكمة العسكرية.. والسجن والعار.. دارت كل هذه الخواطر فى رأسى.. وأنا أقف على رأس الغيط.. مسمرا ملتاعا.. واجهت ظاهرة غريبة وأصبح الزمان والمكان لا وجود لهما بالنسبة لى..

كان معى جهاز إرسال لاسلكى، ولكننى لم استعمله ولم أطلب الاستعانة ولا النجدة.. خشية الفضيحة.

ووقفت وحدى كأنما أنا فى الدنيا بأجمعها الذى يواجه وحده تحدى القدر..

ودخلت الحقـل أتخطى "الحوض" والمجراة.. إلى أين تمضى هذه الملعونة فى العتمة..

ولم أوغل كثيرا.. ورفعت المسدس وأطلقت ثلاث طلقات إلى أعلى وطلقة إلى مستوى رأسى وسمعت بعد هذا صرخة.. وصوتها وهى تطلب منى بالعبرية أن أكف عن إطلاق النار..

ووجدتها مبطوحة على بطنها فى قناة جافة وواضعة ذراعيها ويديها على رأسها..

وأوثقت يديها من الخلف.. وخرجت بها.

كان القمر قد غاب منذ قليل وراء أشجار النخيل العالية وباتت القرية غارقة فى عتمة رمادية شهباء.. وليس غير رؤوس الأشجار بادية فى الظلمة..

ونسيت القطار.. وخيل إلىّ أنه قد مر على مجيئى إلى هذا المكان دهر كامل.

وتطلعت إلى النجوم.. وهى تسير أمامى.. وتخطينا مرتفعات السباخ التى تجاور الحقول وأصبحنا نسير فى حذاء الترعة إلى المحطة.

كانت نحيلة بادية الطول شاحبة اللون تمشى بخطوات مترنحة من فرط التعب.. ورأسها الصغير يتمايل على عنق طويلة يغطيها من الخلف شعر أشقر مرسل قد تلطخ من عناء الطريق.. وعيناها تحدقان فى وجهى دوما بنظرة فائضة بالحقد.

وفى المحطة الصغيرة فككت وثاقها وانفجرت تعول بالبكاء.. وقد تكورت ووضعت ذراعيها حول فخذيها.. وتطلعت بعينيها إلى القضبان.. فى حزن واستسلام..

ولقد أدركت بجـلاء، وأنا أحدق فى هذا الكائن، أن هناك من يمتص الحياة من هذا الجسد البشرى..

أخذت أتفرس فى ملامحها دون حركة وأنا واقع تحت وطأة المشاعر التى كانت تفيض بها نفسى.. وأدركت فى تلك اللحظة الكثير مما تفعله إسرائيل برجالها ونسائها، فهذه التى ولدت لتكون زوجـة أو مدرسـة أو طبيبة أو عاملة نافعة لجنسها.. حولوها إلى شيطانة للدمار".

كانت المشاهد التى حولى كلها ساكنة.. القرية.. والمحطة.. والبساتين المزهرة.

وكنت أرى قلوع المراكب فى النهر تبدو وأشرعتها من بعيد فى الظلمة كالأعلام وتسير فى طريقها فى سلام دون إحساس بالحرب.

أما الترعة عن يسارى فكانت ساكنة تماما.. فلا حركة فيها تدل على الحياة..

وفى الجهة الأمامية من المحطة الصغيرة يجلس الغضب والحب يتصارعان حب الحياة.. وغضب الثأر..

ورأيت فى وجهها أطفال مدرسة بحر البقر.. وعمال أبو زعبل.. وسكان بور سعيد.. والإسماعيلية.. والسويس الآمنين فى بيوتهم، كل هؤلاء كانوا مدنيين عزل.. لم يطلقوا رصـاصة ولم يصوبوا مدفعا فى صدر أحد.. كانوا يعيشون فى سلام للحياة.. فقصفوا أعمارهم بقنابل الدمار.. إن الحقد يعشعش ويبيض فى قلوبهم..

كانت أمامى بكل حقدها وما فى نفسها من خساسة.. ولكن ماذا أفعل وأنا الرجل المسلح أمام امرأة قد جردتها من السلاح..

وسمعت صفير القطار من بعيد.. وأخذت أستعد لجولة أخرى معها فى هذا الليل الساكن..

نشرت القصة بمجلة الهلال المصرية فى يناير 1974 وأعيد نشرها فى كتاب قصص من الصعيد من إعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى