سلطة الجسد في الربيع العربي
"الضربة التي لا تقصمني تقويني"
حكمة حكيم
عُدَّ كثير من الموضوعات التي اشتغلت عليها الفلسفة الغربية خصوصا زمن الحداثة من قبيل الترف الثقافي، ومنه تكن تسترع اهتمام كثير من الباحثين العرب، نظرا لما تستثيره من قيم تجعل الخوض فيها من قبيل الابتذال و"تضييع الكاغد"، كالخوض في موضوعات الجنس والجسد والجنون وغير ذلك.
لكن يبدو أننا اليوم أصبحنا واعين بالتأخر التاريخي الذي نرزح في براثنه عندما أصبحت هذه الموضوعات تفرض نفسها علينا، وتجدنا نخوض فيها بوعي أو بغير وعي، ومن أبرز هذه الموضوعات المفروضة اليوم على البحث في ما ورائيتها قضية الجسد بكل تفاعلاته وانفعالاته.
لم يبق الجسد ذلك السياج والبنية المغلقة، بل أصبح ثائرا على كل النماذج حتى أصبحنا أمام ما يمكن نعته بـ"الجسد الثائر"؛ أليست الثورات العربية في تجليها الربيعي ثورة للجسد؟
عندما كان يفكر فوكو في الجسد وهايدجر ونيتشه قبله، لا أعتقد أن الاستنتاجات التي وصولوا إليها في الغالب، كانوا يعتقدون أنها ستصبح حقيقة في وطننا العربي، ويصبح الجسد، على الأقل في الظروف الحالية زمن الربيع العربي، سلطة السلط. فقد بات من البديهي القول: إن نظام الخطاب الذي أمسى يشكل التمثيل الحقيق للمعرفة العربية اليوم يدور حول الجسد بما هو سلطة قادرة على تغيير النظم واقتلاع الدكتاتوريات.
إن آليات قمع الجسد لم تعد في وطننا العربي قادرة على ابتلاع نشوزه وتقويض إعراضه، فمهما حاولت الدولة أن تسيجه عبر أجهزتها ومؤسساتها، بتعبير بيير بورديو، سواء من خلال المدرسة أو المستشفيات أو السجون وغيرها، باعتبارها آليات للسيطرة وقهر الجسد، كما يرى ميشال فوكو، فلا يمكنها ذلك لأن الجسد استطاع أن ينفصل ويتجاوز القيود التي كانت تأسره وتجعله بنية مغلقة خاضعة لقهر المؤسسات. لقد أضحى الجسد في زمن الثورة طليقا معبرا عن رفضه، يريد سلطة مختلفة متباينة عن باقي السلط التي تعودت أن تقمع جسدا أصبح من الماضي.
لقد تعددت بديهيات الجسد المزيفة كالجسد المشتهى الذي أصبح سلطة في الإغراء، عبر وسائل الدعاية والإشهار من خلال القمع الرمزي يصيب به المشاهد والمشتري، ويجعل منه شيئا وذاتا غير واعية بما يجب أن تفعل. إن الجسد المشتهى ليس شيئا آخر غير تمجيد للسلطة، يفرض من خلال القولبة أسلوبا لنظام قيمي مخصوص في الذوق والوجدان، يسوق للقيم التي تطبع العلاقات بين الأفراد والمجتمعات فكرا وسلوكا. لقد تخلى هذا النوع من الجسد على كل قيمه النفعية طلبا للقيم المتعية أو الرأسمال الرمزي الذي لا يأفل إلا بانتهاء سلطة الإغراء.
يعد الجسد المشتهى النقيض الموضوعي للجسد الثائر؛ فالأول يحافظ على قيمه المتعية، وهي مهماز حفاظه على سلطته؛ بينما تكمن سلطة الثاني في تخليه عن قيمه المتعية، ليصبح حاضنا للتمرد والنشوز، ومن تم وجب قمعه وقتله. إن الجسد الأول قاتل رمزي، والثاني مقتول مقهور؛ أليست تضحية البوعزيزي بجسده "الجسد الثائر" هي التي خرج من رحمها الربيع العربي المنشود؟ ومن تم فإن الخلاص من الجسد الثائر في عرف الأجهزة القمعية للدولة رهين بعودة سلطة المؤسسة القمعية الجماعية بدلا من سلطة الجسد الفردي.
إن القيمة القهرية التي أصبحت منوطة بالجسد الثائر جعلت باقي السلط الأخرى تجعل له أسيجة مختلفة للحد من غلوائه عبر القتل والتدمير والسجن. هذه السلط المتعددة للدولة، بالرغم من ادعائها احتواءه عبر القمع والأسر، إلا أنها تهابه مادامت تعلم أنه أصبح "مؤسسة" أيضا مثل مؤسساتها القمعية هي نفسها، فكما يخرج القمع من مؤسساتها يولد أيضا بموازاة مع ذلك تمرد الجسد المؤسس، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، في نظرنا على الأقل، الحد من سلطة الجسد إلا من خلال التصالح معه والتحاور، والنظر إليها باعتبارها "نظاما خطابيا" مبنيا على تمثلات متعددة تجعل الأجساد تتطابع وتتقالب وتتكوثر في كثير من الأحيان.