الأربعاء ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
بقلم عبد المجيد العابد

اللغة العربية والعصر الرقمي

أتكلم جميع اللغات، لكن باللغة العربية
عبد الفتاح كليطو
***
تعتبر اللغة ديوانا حضاريا وتبيُّنا لطبيعة الهوية والتنشئة الاجتماعية التي تميز الأفراد والمجتمعات عن غيرهم، وتحدد نمط نظرتهم للعالم والأشياء؛ بالرغم مما يمكن أن تلعبه الصورة البصرية في ذلك ضمن هذه الثورة المعلومتية التي يشهدها العالم اليوم. تظل اللغة هي الأداة الوحيدة القادرة على كشف غنج الصور وتعدد دلالتها. ومن ثم، نقول إننا نعيش حضارة للكلمة مهما بدا لكثير منا العكس، لأن الصورة عاجزة عن التواصل الفعال في غياب السنن اللساني.

تعتبر اللغة أداة للتواصل بين متكلميها، وجسرا للتفاعل مع غير متكلميها عن طريق الترجمة. وهي بذلك، كفيلة بخلق تفاعل بين بني البشر يساهم في الإبلاغ والإفهام والنهضة والتطور. تصبح اللغة بهذه الأداتية رهينة مستعمليها، تتقوى بقوتهم، وتنكص بنكوصهم؛ إذا فهي واقعة اجتماعية خاضعة لطبيعة التنشئة الاجتماعية ورهاناتها التواصلية. تعد اللغة أيضا في جانبها اللساني فاشية، تفرض على مستعمليها قواعد في الاستعمال، وهي في جانبها الكلامي حرية في التبليغ عن المكنون، وإثبات للوجود والاختلاف الذي يمنح للإنسان قيمته وكرامته وتميزه. فاللغة نحيا بها وتحيا بنا، لذلك فالإنسان واللغة قرينان ابتداء، ومنه عد حيوانا ناطقا عاقلا، يستطيع بفضل اللغة الابتعاد عن ربقة الأشياء واحتضان العالم المحيط به رمزيا عبر تحويل ما هو موجود في الأعيان إلى وجود في الأذهان عن طريق اللغة المتمفصلة، التي تضطلع بالتعبير عن الفكر ونقل المعاني التي يحتاج الإنسان باعتباره كائنا اجتماعيا إلى استعمالها للتعبير عن حاجاته المختلفة.

أ- اللغة العربية ومشكلاتها

تعيش اللغة العربية استشكالا من حيث اتهامها بالقصور عن مجاراة التطور العلمي والرقمي اليوم، مما يفرض معالجة الموضوع من ناحية علمية بعيدا عن الانفعال والتعصب، بغية وضع اللغة العربية في مسارها الصحيح، باعتبارها أداة علمية تواصلية تستطيع كباقي اللغات الأخرى استيعاب العلم واستثمار نتائجه التقنية والمعرفية. يمكنها مواكبة، كباقي اللغات أيضا، الثورة الرقمية لتغدو لغة رقمية متداولة بين مستعمليها في المعلوميات والأنترنيت.

وقد ساهم في هذا الاتهام تقسيم اللغات عند كثير من المهتمين إلى لغات علمية رقمية ولغات تواصلية عادية؛ أي لغات تنتمي إلى المجال العالِم، ولغات تنتمي إلى مجال الحس المشترك. فأما اللغات العلمية، فهي بوصفها كذلك، قادرة على مواكبة التطورات العلمية والرقمية المتسارعة، ويمكنها استيعاب العلم والمعرفة الرقمية إنتاجا وترويجا، كما يستطيع متكلمها الفعل في العالم ما دامت لغته تسمح له بذلك. بينما يرون أن لغات الحس المشترك ترتبط فقط بالتعبير عن اليومي والمشترك بين جميع أفراد المجتمع المتكلمين بها بغض النظر عن مستوياتهم التعليمية المختلفة وانتماءاتهم الاجتماعية المتعددة. ومن ثم، لا يمكن لهذه اللغات أن تكون حاضنة للعلم والمعرفة الرقمية، فإذا أراد أصحابها ولوج عالم التقنية مثالا مالوا عنها إلى لغات العلم والتقنية.لذلك، اعتبروا اللغة العربية تدخل في الصنف الثاني من اللغات.

وقد زاد من حدة هذا الموقف تزايد الاهتمام اليوم بعالم الأنترنيت من قبل الدول العربية جميعها. ولعل المواقع الإليكترونية، والمنتديات الافتراضية، ومواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك والتويتر) لدليل واضح على هذا الإقبال المتزايد يوما عن يوم.. أصبح للغة العربية الافتراضية، كما يلاحظ اليوم كذلك، حضور كبير في عالم الأنترنيت والمعلوميات. فهل هذا الحضور الكبير يعكس قيمة اللغة العربية لدى مستعمليها في العصر الرقمي؟ إلى أي مدى تستطيع اللغة العربية أن تساير التطور الرقمي في العصر المعرفي؟ ما مدى اهتمام مستعمليها بها تواصليا وعلميا؟
لم تطرح اللغة العربية هذه الأسئلة التي تنطرح اليوم، فقد رأى فيها مستعملوها سابقا لغة مقدسة منزهة عن كل ما يشوب اللغات من نقائص. ولقد أدى هذا الاعتزاز باللغة إلى اهتمام كبير بها معجما وصرفا وتركيبا ودلالة وتداولا؛ لكن ذلك لم ينعكس على مرونتها، إذ جُحد تطورها واختلافها، حيث غلبت اللغة المعيارية، ونبذت تطوراتها التاريخية بحسب اختلاف الظروف زمانا ومكانا. تنفي هذه المعيارية اعتبار اللغة كائنا حيا يولد ويكبر ويشيخ ويموت. لذلك، افتقدنا معجما تاريخيا يعكس تطور اللغة العربية من حيث المادة والتوليد الدلالي معجميا وبلاغيا بحسب تنوع البيئات اللغوية والتنشئات الاجتماعية المختلفة وغيرها.

همت هذه المشاكل المطروحة اللغة المكتوبة واللغة الشفاهية على حد سواء، وشهدت مداها في العصر الحديث في الغالب بعيدا عن الزمن الرقمي والثورة المعلومتية، إذ تضافرت هذه المشاكل وغيرها مع ما يفرضه عصر المعلومات والأنترنيت.
ب- من النص التقليدي إلى النص المترابط

يعتبر النص المترابط HyperText نصا تفاعليا متشعبا يجمع بين المكتوب والمرئي، ويربط الزمان بالمكان، ويخلق مدونات جديدة. يعتبر فيه الحاسوب أساس الانبناء مما يخلق مشاكل أخرى للحضور اللغوي في النص المترابط. لذلك، فإن الحدود التواصلية التي تأسر النص المكتوب تصبح مشرعة أمام النص المترابط. إنه نص منفلت من القيود، طيع من أدنى مكون له، أي الفونيمات والمونيمات، إلى حدود المقاطع والفقرات فالنصوص. يعد النص المترابط إذا ربطا كذلك للخيال بالواقع، وجعل ما كان بعيد المنال في النص التقليدي أمرا هينا يسيرا كتابة وبحثا واستيعابا واستثمارا، كما يسهل عمليات القص واللصق والنقل والانتحال أيضا.

لقد أصبح العالم اليوم يميل إلى رقمنة البيانات والمعطيات العلمية والتقنية والأدبية والثقافية... وجعل كل ما هو ورقي رقميا، لما يفيده هذا الأخير في تقليل الجهد وتوفير المال واستثمار الزمن. وبهذا، أصبحت مسألة الرقمنة أمرا ضروريا في العالم العربي، من حيث ما تسمح به من سرعة لتداول المعلومات، وسهولة الحصول عليها مما يخدم التنمية في ظل المجتمع المعرفي الراهن. إن عالم الأنترنيت مغمور اليوم بملايين المعلومات باللغة العربية؛ لكنها تبدو قاصرة بالنظر إلى حجم المعلومات بلغات أخرى كالإنجليزية والإسبانية.

لا ترجع مشكلة حجم المعلومات باللغة العربية في العالم الافتراضي إلى قصورها؛ بل إلى تفريط مستعمليها في التطور المعرفي بله الدخول في عالم المجتمع المعرفي والتقني، بالرغم من أن أي نهضة لا يمكنها أن تكون إلا باعتماد اللغة الدالة على الهوية، إذ إن لغتنا في هويتنا وهويتنا في لغتنا. لذلك، فاللغة، أي لغة، قادرة على مواكبة التطورات العلمية والتقنية شرط اهتمام مستعمليها بهذا التطور وبلغتهم تأثرا وتأثيرا إيجابيين، مما يدل على أن أي لغة قادرة على استيعاب العلم والتقنية ونتائجهما المعرفية، مثلما وقع للغة العربية "البدوية" عندما استوعبت مصطلحات ومفاهيم الرياضيات والمنطق والطب والفلك والأدب..إبان النهضة الترجمية في العصر العباسي، في اللحظة التي كانت أصول بعض اللغات، التي تعد اليوم "لغات العلم والمعرفة والحداثة"، لغات ميتة أو عاجزة حين عجز مستعملوها عن النهوض في قرونهم الوسطى. ومثل ما فعلته اللغة العربية آنذاك من احتواء للعلم والمعرفة دونما قصور، تقوم به اليوم لغات أخرى كالإنجليزية والصينية واليابانية. وهذا دليل على أن اللغات رهينة بقدرة مستعمليها واستعداداتهم.

إن خلو اللغة العربية من المعجم التاريخي جعلها مدونة من كلمات محصورة عند عصر التدوين أمسى كثير منها مهجورا أو نادر الاستعمال. وهذا ما جعلها لا تساير التطور التاريخي الطبيعي للغة كيفما كان حسب تنوع الأمكنة وتعاقب الأزمان. نتج عن ذلك ضمور في الترجمة الآلية التي تسهم في التقدم نحو مجتمع المعرفة خصوصا إذا وضعنا في الحسبان السيل الهائل من المفاهيم والمصطلحات والكلمات التي تنتشر يوميا في مجتمع العلم والتقنية، مما يجعل الترجمة الآلية مطلوبة اليوم أكثير من ذي قبل مسايرة للتطور العلمي المطرد. يؤثر هذا النكوص الترجمي على سيولة المعجم الذهني لمستعمل اللغة العربية، ويدفن المعجم الآلي الافتراضي للغة عينها، ويجعل بنكها المعجمي والاشتقاقي في حاجة ماسة للسيولة اللغوية التي يعجز مستعملوها، كما يعجزون عن أشياء كثيرة، في ضخ أموال لغوية فيها كفيلة بغنى اللغة الذي يجعلها تساير التقدم اللغوي الافتراضي في العالم الرقمي.

انفتاح واستشراف

ينبغي الاستثمار في بناء محركات للبحث وبرامج باللغة العربية تشجع اللغة العربية الوسيطة في التداول، بعيدا عن التلهيج وزخم الكلمات والتعبيرات اللاحنة التي تملأ بنك المعلومات العربي، التي لا تسمح لهذه اللغة الوسيطة بالانتشار الافتراضي السليم.

لا تنفي هذه الصورة القاتمة كثيرا من الجهود المبذولة من قبل مؤسسات وأفراد للنهوض باللغة العربية الوسيطة في رقمنة الكتب والذخائر، وتيسير اللغة نحوا وصرفا وتركيبا ودلالة غيرها درءا للتأخر؛ لكن ذلك لن يكون له تأثير قوي إذا لم يكن نتيجة عمل عربي مشترك يتداخل فيه العلم بالسياسة، فتصبح السياسة خادمة للعلم، ويمسي العلم رافدا للغة والإنسان العربيين، بعيدا عن التشرذم والإسفاف. إننا بحاجة إلى مشروع مجتمعي تتدخل فيه كل الأقطار العربية اقتفاء لركب اللغات الرقمية العالمية.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى