الأحد ١٥ شباط (فبراير) ٢٠١٥
بقلم نور الدين محمود سعيد

شفق العالمية

بمحاذاة مدخل مقهى الجبب الحمراء، يجلس السينيور سامونيللي، أستاذ علم الجمال، ومن عادتي الركون إلى زاويتي الشتائية وإن يكن النهار قائظاً، غير أنني شاركته الطاولة بطلب منه، قال بعد أن أشعل سيجارة، وكان كثير التهكم بالكلمات الفارغة المتقاطعة: تخيل معي أن الدماغ بلا كالوترا*، هل تراه سيبرد ويسخن بناءاً على حساباتنا الحسية؟. أجبته: لا يعيش عقل بلا حماية، قال لي مبتسماً: قلت لك تخيّل، أجبته ضاحكاً، يبنى الخيال على المنطق، حتى الخيال اللاإرادي يبنى على النسق والسياق، وإن يكن ثمة صور تتقلب في حركتها، تشابه اللحم المقطع في قدر يغلي، حمامة حمراء على شباك سجن، عصافير دوري في قفص كبير نافذته مفتوحة، وأسماك بوري تتقافز في حظيرة خنازير معطرة بروائح الكوروس، وصور أخرى يصعب فكها. تنهد ثم ناولني سيجارة، قال: نعم الأحلام تبنى هكذا في أغلب الأحيان، وهي تعتمد المنطق بميكانيكا العودة إلى كلمات منسوجة في حكاية صور ذهنية تعود بالحكاية إلى الوراء ثم تبدأ بسرد الرؤيا قي حركة هلامية غير متحكم بها إلا بعد أن تسرد..

كان السينيور سامونيلي متناسق البنية، يرتدي نظارة تتلون مع أشعة الشمس، ما يميزه أن ذقنه حاد قليلاً، وأنفه كذلك، ويترأى لأول وهلة أن ملامحه مقروءة نظراً لصفاء روحه الملحوظ، وغنائه بصوته الطفولي، وهو مقبل على عامه الخامس والثمانين، وتعامله برقة مع الأغيار، وبكائه حين يتذكر من مات من أقرانه في سلك التدريس الجامعي، وأمثلته الشوبنهورية والكانتية معاً، ووقفاته عند أحاديث كروتشه وديكارت وماركس، وغضبه الشديد من مقولة نيتشة في دانتي إليغيري، على أن الأخير لم يكن سوى ضبعٍ يغني في مقبرة.

وحديثه عن أمه، وغرامه بزوجته،.... حلف لي بضميره ذات مرة، أنه لم يجالس امرأة خلسة عداها، والواقع أنه كان صادقاً، لا أدري ما هي الأسباب.

ـ أنا أدرك أن سؤالي ساذجُُ، وإلا ما حاجتي إلى القول أن الدماغ بلا كالوترا، دعنا من هذا، قال السينيور سامونيلي. لا، لا بأس أجبت، وإن يكن الموضوع لا يؤدي إلى أية محصلات، بالأمس قرأت قصيدة لمونتالي غاية في البراعة، كان قد استخدم فيها الكالوترا، متسائلاً عن عرق اللؤلؤ إن كان من حلزون أم من زجاج مطحون.

الواقع أن مشاكل الطلبة الأجانب تكمن في موضوعات تخص اللغة في هذا البلد، إن كانت تراكيبها أنماط جمالية محضة، أم هي بنية عقل كاملة، أم أن الموضوع لا يخلو من كونه سلسلة لأحداث منطقية نعبر عنها برسم جمل في سياق كلمات منسوجة من الأشياء السابقة على ظهور اللغة؟. ثم سكت لبرهة وأردف: دعنا من ذلك ها نحن نخلق سياق للحوار، كل المأساة ليست في الاصطلاحات، لكنها قابعة في المفاهيم. صحيح هذا الكلام في الواقع، أجبته، لدينا كلمة في لغتنا العربية لها رسم جمالي، ونستخدمها من الناحية الوظيفية فقط في أغلب الأحيان، مفردة <<طراوة>>، وهي شرط أساسي لقبول الحديث، والطراوة في واقع الكلام ليست أكثر من تزيين له من خلال ترطيبه، فهو لا يستساغ من دونها، خصوصاً إذا كان المستمع أنثى، ويوظف بعض الذكور شيء من الرخامة لإبراز جانب من الجاذبية الصوتية لاستمالة الطرف المحاور إن كان امرأة، والسيطرة على الهدوء واقتناص الزمن المباشر للدفع بالكلام لكسب المناظرة إن كان رجلاً، وكان فلاسفتنا القدامى يجيدون حبك الخطاب، في شتى حقول العلم، فالنص كانت له قدسية شعرية عندهم، لن تستطيع أن تسحب كلمة واحدة من نص مكتمل، فلو سحبت مجرد كلمة واحدة يتهدم النص ولا يمكن بأي حال من الأحوال إعادة بنائه إلا بإرجاع تلك الكلمة إلى مكانها.

ابن خلدون مثلاً قال، نعم أجبته، ليست جمالية بن خلدون في اللغة وحدها، ولكن في آلية استخدامه للأسلوب المرسل وللسجع أحياناً، فهو يدفع الكلام ناحية الشعر، ويجعل مما هو بديهي سحر، غير أنني لا أدري لماذا تستخدمون منهج ابن خلدون دون غيره ممن ظهروا في تلك الفترة فيما يخص علم الاجتماع وفلسفة التاريخ، وبعامة، كان العالم أكثر امتزاجاً، وإن كثرت فيه الحروب، عن زماننا هذا، أو لنقل إختلفت فيه آليات الحروب، عالمكم الغربي هذا أصبح يتضايق، ولعل كثرة السكان وتعدد أعراقهم، والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، والتطور العلمي والتكنولوجي، والبعد عن ضوابط الدين والأخلاق، والغوص في عبادة الشياطين من الإنس والجن وما إليها، وخرق قواعد الطبيعة، عوامل كفيلة للتفكير في إعادة قلب الخارطة، والتي من أهمها سيادة التفكير البراغماتي على ساحة رقعة الشطرنج التي نتحرك فوقها.
نعم هو كذلك قال السينيور سامونيلي الذي بدأت لغته واضحة الى درجة النفور: ولعل تشاؤم الفلسفة كفيل بالتفكير في كل هذا، سمعت أحدهم يصرّح أن لا حاجة في البقاء إلا للأقوى حين تضيق الأرض ويزداد عدد السكان، هناك شعوب تتكئ على أخرى وليس لها من سبل الحياة سوى تصديرها لزيت عفن أسود، شعوب تنام على الأبهة وتنتج الكسل والتواكل، منذ أن ظهر هذا السائل المائع، ماعت معه هذه الشعوب، وصارت الدنيا جحيماً، وصرنا نفكر ملياً في إعادة تشكيل العالم، أنت تدرك أن هذا الكلام يزعجني أنا أيضاً، نحن الطليان، خرجنا من حروب سادت فيها الأيديولوجيا، وأنهكتنا، وعدنا بعدها إلى درجة الصفر، ليس في الكتابة والقراءة وحدهما، لكن الاقتصاد أنهكنا، وها نحن نتعافى الآن تقريباً، ونحن لسنا على استعداد إلى العودة إلى درجة الصفر تلك التي تضائل البحث في علم الجمال فيها، وها هو يتضاءل الآن أكثر من أي وقت مضى، من وراء كل هذا يا ترى؟.

قُفِل الحوار هنا، جاء أبني محمود البالغ من العمر خمسة أعوام رفقة والدته، قال يا أبي رأيت الحاوي، سألني من أين، قلت له من فلورنسا، أجابني أنني لست كذلك، وأعطاني شكلاطة، هل صحيح أنني لست من فلورنسياً؟، أنت تقول إنني من ليبيا، وأمي تقول إنني من طرابلس، وجارتنا أنتونيتّا تقول إنني من فلورنسا، والحاوي يقول أنني لست فلورنسياً، ضحك البروفيسور سامونيللي ملئ شدقيه وأجابه، أنت مواطن عالمي، أقطع يدي إن لم تكن فيلسوفاً عالمياً يوماً ما، << ديو بينيديكا**>>، تعال يا حبيبي سنتناول الجيلاطي سوية، والدك يدخلنا في معمعات حديث لاجدوى منه، وأشار إلى محمود مرة أخرى أن يكرر معه: <<عاش الحب>>، عاش الحب، هات الجيلاطي، قال محمود.

* كالوترا بمعنى الجزء العلوي من الجمجمة، والذي يقي الدماغ.

** كلمة إيطالية بمعنى <<تبارك الله>>، متداولة بين أوساط كبار السن الإيطاليين يقولونها درءاً للعين والحسد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى