الأربعاء ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٠
بقلم عاطف أحمد الدرابسة

شيطانُ الخيالِ ..

قلتُ لها:

هذا الصَّباحُ يتألَّمُ كثيراً، فقد تغيَّرَ قلبكِ عليه، وتغيَّرت نظرتكِ إليه، كأنَّه يحاولُ أن يموتَ ليُولدَ من جديدٍ، لعلَّه يعثرُ على امرأةٍ، وُلِدت من امرأةٍ كانت يوماً آلهةً للأساطيرِ.

يبدو لي أنَّ هذا الصَّباحَ، قد خلعَ فجرَه عند سواحلِ أقصى البحارِ، لعلَّه ينتظرُ هناك آلافَ الغرقى.

بيني وبينَ هذا الصَّباحِ، حنينٌ لا ينضبُ، وشكوى تتجدَّدُ مع الوجعِ، ومع السُّؤالِ، كان يقولُ لي دائماً : هذا البلدُ لا يتغيَّرُ، هذا البلدُ لا يشتري ثوباً جديداً للعيدِ، ولا يسمعُ أغاني الفرحِ، ولا ينثرُ ضحكاتِه بين الدُّروبِ الضَّيقةِ، كأنَّه امرأةٌ تُشبهُ تفاحةً ناقصةً، أو رغيفَ خبزٍ غيرَ مُكتمِلٍ.

كنتُ أقولُ لنفسي: النَّباتُ الذي لا يُزهِرُ، لا عطرَ فيه، ولا جمالَ ، والألمُ الذي لا يصرخُ، ولا يُسمَعُ، لا ألمَ فيه.

حاولتُ أن أستدرِجَ القمرَ إلى ليلي، لكنَّ ليلي لم يكن مُستعدَّاً لاستقبالِه، حاولتُ أن أستدعي الفرحَ إلى صدري، لكنَّ صدري لم يكن مُهيَّئاً لاستقباله، حاولتُ أن أُعذِّبَ الألمَ الذي يستوطنُ هذا البلدَ، لكنَّ هذا البلدَ ما زالَ يرتاحُ لهذا الألمِ، ولا يصرخُ.

كم حاولتُ أن أخترعَ لكم الأملَ، كم حاولتُ أن أكونَ شفيقاً بكم، كم فتحتُ لكم أبوابَ النَّهارِ المُوصدةِ، غيرَ أنَّكم مُصرِّونَ أن تدخلوا من النَّوافذِ المُعتمةِ، لتكونوا فريسةً سهلةً للظَّلامِ.

ما أشدَّ سوادَ هذا الزَّمنِ، كلَّما أعدمنَا شيطاناً، خرجَ إلينا من أثناءِ الشَّيطانِ، ألفُ شيطانٍ، حتى صرتُ أعتقدُ بأنَّ الشَّيطانَ من ضروراتِ هذه الحياةِ.

هذا الخيالُ الذي أملِكُه باتَ عاجزاً، عن إخراجِي من واقعي الأليمِ، لقد فشِلَ غيرَ مرَّةٍ أن يُعيدَ إنتاجَ الصُّورِ الجميلةِ، وعاندني كثيراً، في بناءِ وطنٍ يعشقُه الأطفالُ، وخذلني ألفَ مرَّةٍ، في محاربةِ التَّطرفِ أو الإرهابِ، وأبى أن يمدَّ إليَّ يدَه لأُعلنَ ثورةَ الفقراءِ والجياعِ، وأخجلني أمام حبيبتي حين لم يُسعِفني في كتابةِ قصيدةِ غزلٍ في زمنِ الموتِ.

لم يعُد يصهلُ في رأسي وروحي، كالخيولِ العربيَّةِ، التي باتت تستجدي العلَفَ، أو الموتَ، كأنَّها لاجئةٌ في أوطانِها.

يا حبيبةُ:

آخرُ حديقةٍ رسمَها الخيالُ لكِ، باتت مُعطَّلةً، كسيَّارةٍ قديمةٍ، لا زهرُ تهزُّه ريحٌ، فيضوعُ عطرُه، ولا شجرةُ رُمَّانٍ، بلونِ شفتيكِ، كلُّ الأشجارِ جفَّ ماؤها، وضمُرَ جذرُها، كأنَّها بقايا فقيرٍ، في بلدٍ مقهورٍ؛ يبحثُ عن بقايا رغيفِ خبزٍ كالهلالِ.

أيُّها الشَّيطانُ الذي تتناسلُ فينا كالجرادِ، هب لي ساعةَ خيالٍ واحدةٍ، لأُغيِّرَ وجهَ البلدِ، وضميرَ الفقراءِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى