الاثنين ١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٨
بقلم علي إبراهيم أبو الفتوح

صورة الوطن في رواية (أحمد وداود) لفتحي غانم

نشر فتحي غانم هذه الرواية عام 1989، وقد حظيت بترحاب شديد؛ فهي من الروايات القليلة التي تكشف النقاب عن الشخصية اليهودية. ولسنا هنا بصدد تحليل هذه الشخصية، ولكننا سندرس بما يتناسب مع هذه الدراسة الموجزة مفهوم الأرض في هذا العمل. تدور أحداث الرواية في فلسطين، وتُظهِر مدى ارتباط أحمد وأبيه وأمه وإخوته بالأرض وبشجرة الزيتون التي تضرب بجذورها في أحشاء هذه الأرض. وهما رمز يعبر المؤلف من خلاله عن الوطن. ارتبط أحمد منذ نعومة أظفاره بشجرة الزيتون الموجودة في الأرض التي يرعون فيها أغنامهم، وقد ارتبطت به هي الأخرى بنفس الدرجة أو أشد، وتوثقت عرى هذه العلاقة حتى إنها أحبته وأحبت إقباله عليها، فهي تفضله على غيره، وتُكنُّ له ولاءً شديدًا ربما لا يجده في بني البشر أنفسهم: "وأنا الآن أريد أن أبادله البسمة ببسمة وأن أسأله متخابثًا أن يسابقني حتى شجرة الزيتون (...) وكنت واثقًا أنه سيقبل التحدي وسنجري معًا إلى الشجرة، وكنت واثقًا أني سأسبقه، الأرض أرضنا، والشجرة شجرتنا، وكلاهما يتحالفان معي ضد داود (...) عندما نصل إلى الشجرة سألقي بجسدي تحتها فتستقبلني في أحضانها الوارفة الظلال"(1). وداود هو رمز لليهود الفلسطينيين الذين خانوا وطنهم وأعملوا فيه الحرق والنهب والقتل.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هذا الوطن أو هذا العالم الخاص بأحمد يصوره المؤلف وكأنه قطعة من أحمد؛ فهما عبارة عن مزيج من المشاعر والدفء لا يحيا أحدهما إلا بالآخر، فإذا انسلخ أحدهما عن الآخر هلكا وهاما على وجهيهما في غياهب الغربة والوحدة. فهذا الوطن هو الأب الحاني وهو الأم الرؤوم التي لا تقدِّم أحدًا على وليدها ولا تعدله بأحدهم:
"وقبل أن أنتبه كان قد انطلق يجري إلى الشجرة، فجريت خلفه، كان قد سبقني بعشرات الأمتار، وكان يعدو بسرعة غير عادية، ولكني كنت واثقًا أني سألحق به، وسأصل إلى الشجرة قبله، لأن قدميَّ تعرفان الأرض، وبينها وبين كل موطئ قدم عمار وألفة، والأرض أرضي، والشجرة شجرتي، وارتطام عظام قدمي بالأرض يملأني دفئًا، وتجري أحاديث خاصة بين قدميّ وأرضي، لغة مشتركة بينهما من الأحاديث والتجاوب الذي يسري في أوصالي وأشعر به ممتدًّا في التراب والحصى والهواء، ممتدًّا في عروقي وأنفاسي، وكلنا واحد، وحتى وأنا بعيد عنها، وهي معي، وهي هناك تنتظر مقدمي، وهذا التراب وهذا الحصى الذي يستقبلني في هذه اللحظة هو نفسه الذي جعلني أسبق داود دون أن أفكر، دون أن أدرك أني أعدو، ولكني سقطت تحت الزيتونة"(2).
ونلاحظ أن أحمد يقول "الأرض أرضنا، والشجرة شجرتنا"، ثم لا يلبث أن يكررها مرة أخرى "الأرض أرضي، والشجرة شجرتي"، وكأنه أمر مسلَّم به، وكأن الأرض تعرف ذلك وتقر له بالولاء، ومن مقتضيات هذا الولاء ألا تفضِّل عليه أحدًا غيره؛ ولذا قذفت في روحه هذا الإحساس بالملكية، أو ربما بالسيادة على هذه البقعة، فلا تدين إلا له. ولذلك جعل البطل يعدو دون أن يدري كيف، حتى فاز بالسباق في النهاية، ثم ارتمى في أحضان محبوبته. ويرجع هذا الانتصار إلى تمسك الشاب العربي بأرضه ووطنه: "إن قوة عرب فلسطين –قبل أن تستحكم الخيانة وتضرب بفروعها هنا وهناك- كانت تكمن في قوة العلاقة التي لا تنفصم بين العربي وأرضه. كان سر تفوق العربي على اليهودي هو تمسك الأول بترابه وما عليه"(3).

ولهذه اللغة المشتركة بين أرضه وبينه ولهذا التجاوب الذي يسري في أوصالهما ولهذا الدفء الذي يملأ أركانه، لكل هذا أثر في تكوين المفهوم الأعمق والأقوى للوطن عند فتحي غانم. فالوطن ليس حبات رمل ولا عددًا من الكيلو مترات شرقًا وغربًا، ولكنه روح يشعر أحمد بالانتماء إليها. وليس هذا فقط، بل إنه يشارك الأرض معه في كل شيء، في أفراحه وأتراحه، فنلاحظ أنه اختار الأرض وتحت شجرة الزيتون مكانًا يتحدث فيه إلى أخته بشأن الزيجة التي يجبرها أبوها عليها، وكأنه يسرِّي بوجوده في هذا المكان عن أخته.

والأرض والشجرة بالنسبة لأم أحمد أيضًا جزء لا يتجزأ عن وجودها ومكوِّنها الحسي والمعنوي، حصلت عليه "بالإرث، بالتقاليد، بامتداد الأجيال، الأجداد والآباء"(4). أي أنهما ليستا بضاعة تباع وتُشترى، فهي تشتم فيهما عبق التاريخ، تاريخ آبائها وأجدادها، وأن التفريط فيهما بمثابة خيانة لهؤلاء.

كما يبين لنا الكاتب أن هذه الأرض هي الملجأ والملاذ لأحمد ولأخته من عاديات الدهر ونوازله. فعندما تعوي المدافع في السماء عواء الذئاب الجوعى ويقطع صوت الرصاص هدأة الليل الرزين نجد أن أحمد يلجأ إلى شجرته شجرة الزيتون ليمس تربتُها جسدَه كي تُودِعَ في روحه السكينة والاطمئنان: "وذهبتُ فنمت بين أحضان الربوة العالية وتحت ظل شجرة الزيتون، وطنين رصاص وهدير مدافع. يا إلهي! إن الأمر قد اختلط عليّ، ولم يبق شيء أثق في أنه صحيح (...) وكل ما بقي لي هو هذا الحديث الذي يدور بين جسدي وتراب هذه الأرض"(5).

وأما أخته سعاد فقد وجدت في هذه الأرض درعًا تحميها من قسوة هذه الحياة؛ فقد أجبرها أبوها على الزواج من "مختار العجوز" ليضمها إلى زوجتين أخريين، ولكنها لم تجد قلبًا حانيًا عليها سوى شجرة الزيتون: "أما سعاد أخته فقد اختفت لتهرب من الزواج من مختار العجوز ولكنها لجأت إلى المكان الذي تعرف جيدًا أننا سنذهب إليه بحثًا عنها. كان لجوءًا أكثر منه هربًا، احتمت بشجرة الزيتون التي ظنت أنها قد تحميها من عدوان مختار العجوز"(6).

هذا الوطن يمثل كل شيء لهما؛ الماضي والحاضر، أيام الصبا، الذكريات السعيدة والحزينة، عندما رقص قلبهما فرحًا، وعندما طفرت عيونهما الدموع. وهذا هو الوطن بكل مفرداته ومعانيه: فهو الدرع والحماية، وهو السكن والطمأنينة، وهو أيام الصبا وحلاوة الماضي، هو اللعب واللهو، وهو الجد والحزن... لذلك عندما أقْدَم اليهود على قطع تلك الشجرة كان ذلك بمثابة اجتثاث لهما من الأرض وطرد من الوطن: "انتزعتْ نفسها (سارة بنت شالوم اليهودي) بقسوة أشد من الفئوس التي قطعت شجرة الزيتون وسعاد تبكي وتهاجم بشراسة عشرات الأيدي غير مكترثة بأيد عربية أو أيد يهودية، تريد أن تحمي شجرة الزيتون التي قضت حولها أسعد أيام حياتها [...]"(7).

وليس هناك من شك في أن شجرة الزيتون هذه كناية عن فلسطين، والأرض هي أيضًا أرض فلسطين. ولذا كان على سعاد أن تذود عن حياض وطنها بكل ما أوتيت من قوة، فاضطرمت في أحشائها نيران مستعرة. كما قرر أحمد الانتقام والثأر لنفسه ولوطنه مِن تِلكم الأيدي الأثيمة التي لم تتورع عن ارتكاب كل ما هو شنيع، قرر أن يعمل وأن يجاهد حتي يجتثهم من الأرض جزاءً وفاقًا: "سوف تتغير الأحوال، ولكن لا بد من اجتثاثهم كما اجتثوا شجرة الزيتون من الأرض"(8).
ولكن فتحي غانم أو أحمد سالم (بطل هذه الرواية) لم يفقد الأمل في عودة الأرض (فلسطين)، فهو يقرأ المستقبل بعيون الحالم بحياة جديدة سادرة، حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن اخترقت جسده رصاصة يهودية. فالفلسطينيون ليسوا أقل من غيرهم استحقاقًا للحياة واستئهالًا لها. ولذلك يرى البطل أن في الغيوب بريقًا يلمع حتى في ظلمات الليل البهيم. يكمن هذا البريق في الفهم، فهم أسباب السقوط، فإذا فهمها فسوف يتعلم الدرس ويبثه في الآخرين، الذي سيحققون الأمل "حتى لو لم يعِش إلى أن يتحقق هذا الأمل"(9). يقول فتحي غانم على لسان أحمد سالم: "ما زالت هناك فرصة للفهم أثناء السقوط، في لحظات السقوط، وليس هناك أمل في أن أعود إلى الحياة، ولكني لو فهمت سوف تبقى الحياة وتستمر من خلال هذا الوعي الذي حصلت عليه"(10).
المراجع:
فتحي غانم، أحمد وداود، روايات الهلال، دار الهلال، القاهرة، 1989، ص 9، 10.
المصدر السابق ص 41.
محمد جلاء إدريس، الشخصية اليهودية (دراسة أدبية مقارنة)، المؤسسة المصرية للتسويق والتوزيع (إمدكو للطباعة والنشر)، القاهرة، 2013، ص 176.
فتحي غانم، المصدر السابق، ص 50.
فتحي غانم، المصدر السابق، ص 44.
فتحي غانم، المصدر السابق، ص 71.
فتحي غانم، المصدر السابق، ص 80.
فتحي غانم، المصدر السابق، ص 83.
محمد جلاء إدريس، المرجع السابق، ص 173.
فتحي غانم، المصدر السابق، ص 10، 11.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى