الثلاثاء ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم أسامة نصـّار طلفاح

صور مبعثرة

لا أعرف وقت هذه الكلمات التي تخرج الآن بدون مقدماتٍ تُذكر، لكنني أعرف شيئاً واحداً الآن، أعرف أن مخيلتي الصغيرة تحتوي على كمِ هائل من الصور لأمورٍ جدُّ متناقضة. صورة سياسية ساخرة تَنُمّ عن مفهوم ثقافة المقاومة و مقاومة الثقافة على اختلاف هذين التعبيرين تماما عمّا يجري الآن في أرض بلادي العربية التي لا تغيب عن ذهني و ذاكرتي بتاتاً.

هل أطبع صورة الحزن الشديد الذي يطمس مخيلتي عمّا يجري في العراق مثلاً؟؟ أم حول فلسطين في شهرٍ حزيراني أبعد ما يكون عن الأشهر الكونية؟! ، أم أذهب بتلك الصورة إلى لبنان و أهرول من خلالها ملتقطاً صوراً كثيرة أخرى من دمارٍ و قتل و تشريد و خراب لا يوصف بفعلِ أيدٍ عربية مستغفلة؟!.

تلك الصورة "السياسية" تمزقت إرباً و أخذت من اللون الأحمرِ منبعاً لها و انتشرت أكثر ما انتشرت بكلّ أرضٍ عربية حتى أصبحت العربية حمقاء ، رعناء ، خرساء.

و يندرج من خلال تلك الصورة ، صورٌ أخرى كثيرة تحمل في داخلها سواداً كذلك الليل الذي طال ، فقد تمزقت الصورة الواحدة "عربية الهوى" حتى أخذت منحنى "الأقلمة" ، و أصبح من ينادي بجمع أجزائها متهماً بالخيانة العظمى ؛ خيانة الأوطان !!.

سأترك تلك الصورة بعيداً في أدنى جزءٍ من ذاكرتي ، يبدو أنَّ زمان هذه الصورة قد مُحِيَ من العقل العربي عبر عشراتِ السنين ، فما عادت صورتي تلك إلا بقايا لصورة حزينة تجلس الآن في ذلك الجزء وحيدةً بلا منطق.
ينتابني شعور من أسى ، يُسَطّرُ وجهي ، يخدش وجنتيّ ، يعبر ذلك الجسر الممزق ، يعبره على أمل اللقاء القريب ، صورة تتجسد بالوحدة و البعد عن كلّ أجناس البشر!.

لا أملك الآن إلا حبراً جافاً و "سيجارة" و أنغاماً من صوتِ فيروز "طريقُ النحل" ، و ظلاماً كظلام السجن الذي لا أخشاه ، فقد اعتادت تلك الذاكرة التي يحاربها الجميع على هذا الظلام حتى أصبح جزءاً منها.

أخذتني هذه الصورة لسنواتٍ كثيرة مضت و أصبحت ذكرى تجتاحني كإعصار "جونو" أو "ريتا" لا فرق ، و كان الأسوأ من كلّ تلك الأعاصير ، إعصارٌ يتموقع في الفكر ، المبدأ ، قَلَبَ كلّ الموازين يتجه نحو نفسٍ واحدة ليس إلا.. يرتدي قبعةً كتلك التي يرتديها "اللندنيون".

تنتشر حول جسدي الآن كُتبٌ كثيرة ، تحمل في داخلها صوراً لا حصر لها ، مختلفة ، متنوعة ـ مرتبكة تماماً كما ذاكرتي ، أنا و تلك الكتب سيّان ، لا نختلف عن بعضنا البعض إلا في مفهوم الرمزية ، لكن المضمون واحد!! تناقضٌ كبيرْ.
ثَمّة َ ضروبٌ من "حقارة" تتحملها ذاكرتي بنبلْ ، و ثمّةَ ضروبٌ من "حقارة" يتحملها المرء بنبلٍ أيضاً ، كلّ تلك "الحقارات" بسبب النفس ، لو أننا نستطيع أن نُغيّرَ تلك الصورة التي تتموقع في أنفسنا ، ماذا سيحدث حينها؟؟
كثيرةٌ هي الصور عَبرَ ذاكرتي ، لكنها متداخلة ، مبعثرة ، بلا منطق!! ، ليتني أستطيع الرسم ، لكنني لا أملكُ فرشاةً ! لو ملكتها فعلاً لمحوت بها كلّ تلك الصور و أبقيتُ على صورة واحدة ، صورة بسيطة لا لون لها ، تصلح لأي زمانٍ و مكان ، يحبها الجميع على اختلاف بواعثهم النفسية و الجسدية ، لا رياء فيها ، لا تحمل النقيض ، لا أوهام تعتريها و لا مظاهر جائعة تلتهمها.

في لحظة ضعف حسية نسارع الى مذكراتنا و دفاترنا القديمة ،في لحظة ضعف جنونية عتيقة لا تعرف معنى المنطق ننقض على أوراقنا التي باتت ألوانها صفراء شاحبة ، ننقض عليها و كأنها شطيرة لحم صادفتنا بعد عناء البحث عن طعام .
رُبما هي كذلك و ربما تعطينا الذكريات نقاط توقف ..!! تماما كإشارة المرور ..

صوري المبعثرة تلك كطفلٍ يحمل بشرةً سوداءَ جميلة يتموقع في بحرٍ من الظلمات يناجي أمه التي فقدها منذ ساعات قليلة ، يبكي فراقها و ينتظر لقاءها بأقربِ وقتٍ ممكن ، دون أن يخاف أحداً ، و دون أي حدود تُذكرْ ، بصوتٍ واحد و نظرةٍ واحدة بعين المستقبل!، و نغمٍ واحدٍ ، كي يجمع شتات ما تبقى من تلك الصور ، لتبقى في الذهن صورةٌ واحدة لا تزول .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى