ضاع العدل في زواريب عكا
أن نكتب على قلوبنا قبل أن نكتب على الورق فهذا هو المهم لا بل الأهم
أتذكر قدوم الفنانة الفلسطينية سامية بكري إلينا هنا في النرويج الصيف الماضي تلبية لدعوة من الجالية الفلسطينية. قدمت إلينا من بلاد فلسطين التي تتعانق فيها بلد الحضارات، حضارة آسيا العاشقة وحضارة إفريقيا الدافئة، من ذلك الوطن الذي احتضن الشعب الفلسطيني وأعاد تشكيل إنسانيته وأكسبه معنى مميزا كونها بوابة البحر وبوابة البر، بلد الأصالة والإبداع بكل تجلياته.
شرفتنا سامية بكري لتذكرنا إن نسينا بما قد حصل ومازال يحصل في عكا وفي كل ذرة على أرض فلسطين. وقفت أمامنا المبدعة الكبيرة بلباسها التقليدي الفلسطيني (كما يظهر في الصورة أعلاه)، وبعنفوان المرأة الفلسطينية تمثل لنا الواقع الأليم الذي عاشته مع شعبها في وطنها وكيف تغربوا مع أهاليهم خارج الوطن إلى وطن آخر شقيق هولبنان. جسدت الفنانة قسوة الواقع التي عادت لتراه من جديد في بلدتها عكا بعد احتلالها. صوت عذب رخيم يعزف قيثارة الحزن ويشدولحن الغربة، كلمات تطرب بالعشق والهيام والشوق للأحبة وإيقاع يصارع إنكسارات وإنحسار لصراع بين دوامة البقاء أوالرحيل...لأطفال تشردت بين الأرصفة، لشباب تلتهمهم مقاهي الحزن ووحدة الليالي الهاربة من الهمّ وألم الحصار.
ذكريات الوطن كيف كان يعيش قبل الإحتلال وبعده. استطاعت سامية بكري أن تجعل الجمهور يتفاعل بشدة مع أحداث ميلودراما ( الزاروب )، عارضة لنا صورا مختلفة من الناس وطريقة حياتهم البسيطة السعيدة وكيف مزق الإستعمار أسمال سماء الوطن ليجد الشعب نفسه فجأة أمام متن عاصفة، وتصحوالأرض على سعار من صليات الرصاص. المدن بناياتها مدمرة... شوارعها كأنها لم تعبد إلا لمرور دبابات الميركافا عليها.... سيارات متفرقة، منسوفة بانفجار متعمد... جثث وأشلاء مكومة ومتفرقة... رائحة الموت تعم أرجاء المدينة والمدن... صوت السكون المميت والكئيب، ماعدا هدير محرك الدبابات التي تزحف كغول لم يكن إلا في الخرافات الخيالية... تسمعه فيصم أذناك ويرعب القلب الذي لم يعد يخشى الرعب ولا الموت. غبار في الهواء ممزوج بروائح الجثث المنسية عمدا لفترة حتى يهدأ الرصاص العشوائي الذي يتطاير في الأعالي كالجراد بين الفينة والأخرى... منازل كثيرة تهدمت من جراء التصويب عليها من المستوطنات فتحطم زجاجها وأصيب أهلها بالإرباك النفسي. المقاومة المسلحة حراس ومدافعون عن الوطن، يستمرون في المقاومة بكل بسالة وشجاعة وإقدام، لا يمنعهم ولا يخيفهم شيء في الحياة، كرسوا حياتهم لصد ذلك الوحش الذي لا يعرف إلا البطش والإغتصاب وسفك الدماء لا يميز بين طفل وشاب أوامرأة عجوز...
تمر ليالي مجنونة والمروحيات تتسكع في الفضاء... وقذائف صاروخية ووابل من الرصاص الثقيل بشتى أنواعه، أما الشوارع (المقبرة) فالجثث متفرقة فيها، لم تجف دماؤها... فترد المقاومة ببندقيتها البسيطة (البدائية) فتثير نزق المستوطنين... فيقتل الشهداء للمرة الثانية مع تفتت ما يداريهم عن قذارة الدنيا. أما الأطفال وهم ينشدون الأمان يجولون في منازلهم المثقوبة جدرانها الخارجية بالرصاص... تُطمئن الطفل فلا يصدقك. ماذا سيصدق...؟ حكم عليه أن يولد ويترعرع في بلد مملوء بالموت والحرب والمقاومة، فتّح عينيه على الدبابات العملاقة، وعلى سماع القنابل والمتفجرات وعلى أصوات الرصاص التي تمر في الهواء كالهواء. لم يعد الطفل طفلا، أصبح خبيرا في إعطاءك محاضرة عن السلاح وأنواعه والفرق بين الدبابة والميركافا وبين الرصاصة القادمة من بعيد والرصاص الذي يتطاير من خلف مسكنه. تعودت عيناه على مشهد الجثث المستلقية في الشوارع، لكن طفولته لن ينزعها منه أحد رغم الصخب المفتعل واللعاب المبتل رغم الداء والأعداء... رغم الأب المعتقل والأب الشهيد، رغم الظلم المتكىء على الجدار المحطمة والتعسف الذي استباح إنسانية الشعب الفلسطيني بكل قذارته المتخمة بالثمالة ورغم المؤتمرات العربية المستترة في ضمائرها اللغوية والكراسي المملوءة بالطرش، ستستمر المقاومة وسيستمر الطفل الفلسطيني يقاوم بطريقته، وبقوته الصغيرة الكبيرة وصبره ومكابدته وآماله، منتظرا ذلك اليوم الذي ستشرق فيه الشمس وتعم فيه المحبة لمستقبل أفضل. تيتم الطفل الفلسطيني لكن هذا لا يمنعه أن يكون أبا لأطفال جدد سيكونون حماة للوطن ومدافعين عن الأرض. الفلسطيني لا يموت الفلسطيني سيبقى حيا ليغير مجرى التاريخ.. لا احدا سيغيره إلا هو... لا أحد سيدافع ضد هذا الجحيم والظلم والتعسف الذي يتطاير في الهواء إلا الشعب الفلسطيني.
الفنانة سامية بكري جاءت إلينا في النرويج، لتقول لنا وللشعب النرويجي: جئتكم لأنني أؤمن أن شموع الفرح ستشتعل لتخبرنا بقدوم يوم يدثره السلام ومستقبل حالم بالأمل، لأقول لكم أن الأيادي الملوثة بالدماء لن تمس حلم الشعب الفلسطيني الجميل بسوء. سيستمر حلمنا وصمودنا وإيماننا لتحقيق سلام الخير والمحبة.
إستطاعت هذه الفنانة المقتدرة أن تجسد تلك الصورة الميلودرامية الحزينة وجعلتنا نحس أن الفلسطينيين ليسوا غرباء خارج وطنهم وإنما نحن الغرباء... نحن الذين نجول في أوطاننا وهي ليست لنا... نحن من نجول في وطن عربي كبير لكنه ليس لنا ولا نملكه لأنه تحت سيطرة وتبعية. أما الشعب الفلسطيني فهوالأصل والفرع وهوأهل الدار ومن سيقلب مجرى التاريخ. أما نحن فقد حكمنا على أنفسنا بالغربة ونسينا واجبنا الوطني سالكين منهج الأسد والثيران الثلاثة، خاصة في أيام الحصار الحالية التي تصل لحد الإبادة الجماعية، والعرب سكوت صم بكم على معاناة شعب وموته، ولمّا فاض به الألم والجوع اقتحم جدران ما يسمى معبر رفح ليتدفق سبعمائة ألف في يومين إلى المدن المصرية على الحدود يبحثون عن الماء والدواء والرغيف، ومن يضمن يا دولة الاحتلال المجرمة أن الخطوة القادمة هي توجه هذه الجموع الغفيرة نحومعبر أخر، نحوما يسمى زورا دولة إسرائيل...أية دبابات ستوقفهم حينئذ ؟ وأية أباتشي تستطيع توجيه قذائفها لهذه الجموع التي قال فيها الشاعر أبوالقاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
لله درك أيها الشعب الفلسطيني الذي يتفوق على قياداته المتصارعة المتحاربة، ويبدع أنواعا جديدة من الصمود والتصدي، وكأنه يقول لقياداته توحدوا خلفي بدلا من أن يتوحد الشعب خلف قياداته...نعم...نعم...لا بد أن يستجيب القدر بالنصر والاستقلال وطرد الاحتلال.
وأنا أشاهد الفنانة سامية وهي تتقمص شخصية تلوالأخرى، مشاهد متعددة في ذات النص وشخصية واحدة تتكشف عن شخصيات أخرى والمكان أمام أعيننا يتداخل فيه الماضي والحاضر وصوتها يشذوروعة الكلمات وهي تبتسم إبتسامة مفرطة في ثمالة الحزن تلفظ كلمات تقول أشياء. جعلتني أسير بلا إشتهاء خلف تاريخ إختبأ فيه الوهم بخرافة وأكذوبة تجزع من الوعد الحقّ رغم سكون الصمت والقلوب الممسوخة بالنشاز، متذكرة كلمات أبي القاضي الدكتور إبراهيم خيرهم القلقمي الشنقيطي، خريج دار الحديث الحسنية بالرباط وجامعة القرويين بفاس، وكان يعمل قاضيا في محكمة أكادير إذ أنشد شعرا قال فيه :
سل العرب ما شأنٌ الحوادث في الشرق وأسأل دول الغرب المقيمة بالطــرقسل مجلــــــــس الأمــن القيام بــــدوره فقد أصبح الميثاق متســـــع الخــرقوما حققت بالفرد مـــن حق نفســـــــــه منظمة الشورى من الأمن والعتــــقسل القادة الشّــــم الأفارقة الوفــــــــــا لإخوانهـم للعهد في الأوسط الشـــرقفإن كان لابــــــــــــدّ منــــه فحمـــــلة يسّد صـــــــداها الخافقينا ولا تبقـــيتثيــــــــــــر انتباه الناس شرقا ومغربا من النكسة السوداء إلى عمل يرقــــيلقد عقبت في الشـــــــرق دوحة مجدنا تنادي رجال العرب يا من لها يسـقيتنادي رجــــال السالفين وقـــــد قضوا حماة حماها بالمسوّمة البلـــــــــــــقتنادي بنـــــيها والبنون تصانمــــــــوا فيا رحمة الأم الأسيـرة بالـــــــــرفقفلــــــوا أنـــــهم أحياء هبوا لنصـرها وفكوا إيثار الأم من رفقـــــــة الفسـقفياعالم العرب الســــــلام عليكـــــــم هما خطتان المجد والعار في الفــرقفإما حياة وكــــــــرامة رمـــــــــزها أوالوصمة الشنعاء إلى نسخة السّعق
وهكذا فلن ينصر الفلسطينيون عربا أوغربا إن لم ينصروا أنفسهم، فمن يده في الماء ليس كالفلسطيني الذي يده في نار الاحتلال.