ظِلالُ التّغريبةِ الفلسطينيّة
(نظرة عامّة)
وأنتَ تتابعُ مسلسل التغريبة الفلسطينية، تجد نفسكَ تصعد مع بدايات القصّة التي يسردها وليد سيف، وكأنه يحملك فوق ظهر كلماته من واقعك المرّ إلى تاريخنا السامي قبل النكبة، تجد نفسك كمن يُسحَبُ من الموت إلى الحياة، أو كمن يعرجُ من الأرض إلى السماء، وكأنها رحلة معراج مباركة، تقابل في رحلتك هذه وجوه من تنتمي إليهم ولو برمزيّة الرّاوي المترفة.
تجد نفسك تارةً تختنق من غصّة الحنين، وتارة تضحك كالمجانين من فرط التصوير الرّقيق لأدق التفاصيل، تختلط الدموع بالابتسامات، وتخنقك العبرات كلّما مررت بموقف يذكِّرك بشخصٍ عزيز تحبه، رحلة طويلة قصيرة، طويلة بالمعاناة التي يصوّرها وليد سيف في التغريبة، وقصيرة بعذوبة الصور الرشيقة التي تتنقل أمام عينيك بكل خفّة وبراءة وصدق.
ثمّ وفي منتصف هذه الرّحلة، يمنحك وليد سيف ومضة نضاليّة تضيء لك سبيلاً إلى التحرّر وتجد نفسك تغرق في حلم التحرير، بين بندقية أبو صالح وذلّ الطمّاع الجشع أبو عايد، تشعر بأنّك تنتصر كلّما انتصر أبو صالح في مواجهة مع الإحتلال البريطاني أو مع عصابات الصهيونية، تثمر فيك عناقيد العنب المتدلّية من بساتين الإبداع لدى حاتم علي، تقطف الحبّ والحنين والتين والزيتون والعزّة والكرامة من كروم حاتم عليّ البطل اللامع في هذه الملحمة الدراميّة،
وما أن تبدأ النكبة، حتى تشعر بضيق الطريق، وطول المسافة إلى نهايةٍ أنت تعرفها، تحفظها عن ظهر قلب، نهاية رسمت بخيام اللجوء وعبثية القدر الذي عاث في أحلامنا ظلماً وقهراً وخراباً.
هنا .. هنا فقط .. تغلق التلفاز، وتترجّل عن ظهر الكلمات، وتشعر أنّك استُشهِدتْ..استُشْهِدْتَ للتوّ فقط…
تخرجُ من أحلامك مطروداً، لتدخل الواقع منزوع الإرادة، تنظرُ للحظةٍ في عينيّ طفلك اليافع، فتصحو على كلمات الفدائيّ : "يعني الثّورة ما انتهت"
(رشدي)
تبدأُ الحكايةُ بموت أبو صالح ولا تبدو لها نهايةً حين يحملُ رشدي بندقيّة والده الشّهيد ويشقّ طريقاً نحو التحرير..
هكذا فاجأنا الكاتب المبدع وليد سيف وبهذا الجمال رتّب فصول الحكاية الرّاحل الماتع حاتم عليّ.
ففي اللحظة التي نظنُّ فيها أن الثَّورة قد انتهت برحيل الرّجلِ الكبير، نُفاجأُ بروحهِ تتحوّلُ حبّاتِ قمحٍ تُبذَرُ في أرضٍ خصبةٍ لتنبت فيما بعد سنابلاً قد تنحني للرّيح ولكنّها لن تنكسر.
وما أن يتسلّل اليأسُ إلى نفوس البعض حتى تظهر المعجزةُ الفلسطينيّةُ من جديدٍ وبشكلٍ مختلفٍ أقوى وأشدّ تأثيراً، وكأنّكَ تغيبُ تارةً مع جزرها، وتُبعثُ تارةً أخرى بمدّها…
المشهد الأوّل، يستهدفُ اليائسين. ولسان حالهم يقول: فماذا كسب من ضحّوا من أجل الثّورة؟ وهل يليقُ المخيّمُ الضيّقُ الضّحلُ برحيلِ قامةٍ ثوريّةٍ ناضلت مدى العمر من أجل فلسطين؟ تباً للهزيمة تباً للنّكة واللعنة على نكساتنا المتتالية.
فيأتي المشهد الأخير كي يفجّرَ فينا ثورةً متوارثةً من جيلٍ إلى جيل، ثورةٌ مكوّناتها الفكرُ والعلمُ والعنادُ والدّماءُ والظّلمُ وكثيرٌ من الثّأرْ..
وكأنّ الحكايةَ الفلسطينيّة تبدأُ ولا تنتهي، تخفتُ أنوارها زمناً وتتوهّجُ كالشّمس أزماناً، وكأنّ هذه الحكاية لا يملك خطَّ نهايتها إلا الثّائر الغاضب الرّافض لجميع المعاهدات رديئة السّمعة.
وبهذا ورغم رحيل الرّجال الكبار، تبقى شعلة الثّورة الفلسطينيّة مضيئة كالشّمس في كبد السّماء، تبقى قضيّتنا الوجوديّة حكايةً لا تنتهي وقصيدة حبٍّ لا ينطفي، وزيتونةً تجودُ تجودُ ولا تيأس.
يخرجُ رشدي حاملاً أمانة والدهِ الشّهيد، البندقيّة، فمن فوّهتها ترى القدسَ بوضوح، ومن فوّهتها تبدأ الحكايةُ من جديد.
"هو بالبابِ واقفُ والرّدى منهُ خائفُ"
"يعني الثورة ما انتهت"
(حسن)
حسن، فتى القرية وفارسها كان لهُ مصابهُ الخاصّ عندما جاءت نكبتهُ مبكّراً قبل نكبة فلسطين ببضع سنين، لم يكن ذنب حسن أعظم من ذنوب مختار القرية المتواطئ مع الظّلم ومع جَشع أبو عايد، ولم تكن أحلامهُ تضرّهم حين أصيب فؤادهُ النقيّ بسهام "جميلة" الحسناء الهاربة من ظلم ذوي القربى.
ولم يكن حسن فاجراً في محبّته لجميلة، ولم تكن جميلةُ إلا مثالاً للفتاة القرويّة العفيفة، ولم ترضَ حبّاً خارجاً عن حدود عاداتها وتقاليدها ولكنّها أحبّت حسن، أحبّته حتى الموت.
جميلة التي قالت لحسن عندما صارحها بحبّه:
"هاض مش مليح، مش مزبوط، شو يكولو علينا النّاس؟"
قدّمت الوفاء لدينها ومعتقداتها وعائلتها وبلادها، ولكنّ الغدر والظّلم لم ينصفاها.
عنجهيّة المختار ولؤم أبو عايد ومن تبعهُ من أذنابه ذبحوا حلم حسن أمام عينيه حتّى أنّهم لم يتركوا له فرصةً ليودّع جميلة حين خرجت طلقةٌ أردتها قتيلةً مغدورةً.
هامَ حسن في القريةِ يبحثُ لجسد المغدورة عن قبرٍ يسترُ عورة الظّلم ويبتعدُ به عن مقبرة القرية التي عافها حسن ولم يرضها مستقرّاً لجسد الجميلة حتى بعد موتها، ولم يجد حسن إلا زيتونةً تُظِلُّ القبر وتحرسهُ إلى لقاءٍ آخرَ في عالمٍ آخرٍ أكثر عدلاً وأنضج عقلاً.
لم يكن حبّ حسن لجميلته أقلّ شأناً وأخفّ وطأةً في قلبه من حبّ فلسطين، سيدة الأرض، الحبيبة المطلقة والمعشوقة المقدَّمة دائماً وأبداً، أخذ بندقيّةَ "العبد" وأكمل المسيرة، نكبة حسن تضاعفت بسقوط قريته على يد عصابات الصهاينة، وهي التي تضمّ في صدرها جسد الجميلة الطاهر، وأحلامه الفتيّة التي ذُبِحَتْ مبكّراً.
وتراهُ في مشهدٍ أدهشنا، يُدافعُ عن فلسطين وجميلة معاً حين استفزّهُ جهلُ الجنديّ المارق عندما همّ إلى الزّيتونة الحارسة مهيناً لها غير عابئٍ بالقبر ولا قدسيّة الأرض وما عليها.
غاب حسن مع من غابوا، وعادت بعد استشهاده البندقيّة من جديد، فدفع بها أبو صالح إلى رشدي موصياً إيّاهُ بحفظ الأمانة..
"يعني الثّورة ما انتهت"
(أمّ أحمد)
سيّدة الصّبر أمّ أحمد، بقلبها الذي اتّسع لجميع أبنائها رغم اختلاف طباعهم، سيّدةٌ فلسطينيّةٌ طوَّعت الصّبرَ حتى بات يتعلّمُ منها ويبكي حزناً على ما لا يطيقه، الأمّ الفلسطينيّة، وفي بيدها مسبحةٌ تتنعّمُ بدفء كفّيها تُنافسُ عجين الصّباح المتيّم بهما ووعاء الغسيل المعدنيّ الهرم، أمّ أحمد، أو أمّ أسعد أو أمّ .. سمّها ما شئت، نبعُ العزّة والكبرياء في عائلةٍ غريبةٍ قطنت قريةً لا تعترفُ بالغرباء، تقرأُ في عينيها ملايين الكلمات والصّمتُ يطوّق فمها المشغول يتمتم بالتسبيح وبحمدِ الله وبذكرِ الغائب أو بالدّعاء لمن حضروا.
تقفُ بوجه الظّلمِ سنديانةً أدارت للرّيح ظهرها وانحنت تحمي أعشاش البلابل بكلّ ما آتاها اللهُ من حبٍّ ومن صبرٍ ومن قوّة. تراها توقظ الفجر لكي لا تعطّله الغفوة عن واجب الفلاحة، وتراها تسهرُ الليلَ تتفقّدُ صغارها، والنّومُ يُداهمُها كموجٍ لا يهدأ. أو تديرُ رحى العطاءِ كي تَقشُرَ صدأ المعاناةِ عن قلبِ يتيمٍ كفلتهُ، ومن يكفلها .. ومن يواسيها .. ومن يطمئن قلبها؟
لا تشبهُ النّساء، هي أجملهنّ، ولا تضعُ الكحلَ بجفنيها وليس لجمال عينيها مثيل، لا تعرفُ مساحيق التّجميلِ وخدّها كالأسيل، فالصّخرةُ تصبحُ أجمل تحتَ غزارة المطر المتوحّشِ على مرّ السنين. تبتسمُ ربيعاً وتحزنُ كحزن السّماءِ إذْ يهطُلُ المطر.
أمّ أحمد، الأمّ الفلسطينيّةُ كما يصفها وليد سيف تخبّئُ أحلام العودة في عُبّها وتُخفي مفتاح الدّار قلادةً بلّوريّةً تضيءُ بثوبها. للغائب عندها حصّةٌ مثلُ الحاضرِ، وعلى الحاضر أن يرضى بالقسمة كي ينال شرف الرّضى.
وبين القرية والمخيّم مسافةُ ألف عام، همٌّ يحملُ هموماً وفكرٌ يستدعي الأفكار، ضياعُ الدّار، ثمّ ضياع القرية، ثمّ ضياع الوطن، يتلوه رحيلُ حسن، وولدٌ ربّتهُ برموش العين يقاتلُ في الخندقِ دفاعاً عن عينيها وزيتونِ فلسطين، وصبيٌّ طوّعَ رغيف الخبز اليابس بالماء ليتعلّمَ فكّ لغز الحرفِ كي ينتشلَ العائلة من وحل الحاجة ومن ظلم الجهلة، وبنتٌ أرداها الغزو أرملةً في مقتبلِ العُمر، لم ترَ منها منذ النّكبة إلا رشدي، هذا المسكينُ المصلوبُ إلى مذياعٍ خشبيّ، ينتظرُ موجاتِ أثيرٍ تأتيه تحملُ صوتَ الأمّ المنكوبة المنفيّة عنه.
ماذا صنع الغزاةُ بأرضي، ما هذا الكمّ الهائلُ من الموت بأرضي؟ وطنٌ قُسّم ووطنٌ هُدِّمَ ووطنٌ صارَ حروفاً نكتبها، أمسى الوطنُ مخيّماً والدّيارُ ملاجئ وبستانُ الزّيتون الأخضر كرت مؤنٍ والزّعترُ لاجئ.
لكنّ العزمَ بعينيكِ ينيرُ دروباً للحريّة وينسفُ قراراتِ الأمم المتكالبة ولن تصمت مسبحةٌ في كفّيكِ تسبّحُ باسم الله وتباركُ روح الثّورة والثوّارِ، ودعاءٌ يسكنُ شفتيك لن يهدأ قبل تحرّرنا، نعلمُ ومنكِ تعلّمنا، سنعودُ لتلك الخلّة نعمّرها وسنزرعُ قمحاً ونحصدُ حباً فاللهُ وإن طالَت نكبتنا .. معنا.
"يعني الثّورة ما انتهت"
(مسعود)
التركيبة المعقدّة التي أبدع في تبسيطها د. وليد سيف، هي شخصية وسلوك مسعود الفلسطيني المنكوب صاحب الفكر العقلاني والنّظرة العملية في واقعٍ مُرٍّ زُجَّ به هو ومن معه من أفراد عائلته من غير حولٍ لهم ولا قوّة، ابتداءً من مجتمع القرية الصغيرة وانتهاءً بالمخيّم الضّحل صنيعة الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
فمسعود الذي كان يفلح كرم الزيتون، هو ذاته مسعود الذي شارك مع القائد أبو صالح الكفاح ضد الاحتلال، وهو ذاتهُ مسعود الذي رفض البقاء في القرية بُعَيْدَ سقوطها خوفاً على النّساء والأطفال، وهو ذاتهُ الرَّجل الذي بنى سوراً حجرياً حول الخيمة وقد اتُّهِمَ يومئذ باليأس والخضوع للاحتلال ونتائجه، وهو ذاته مسعود الذي اختار الغربة بدلاً من البقاء في المخيّم، هو مسعود الشخصية الجدليّة بين نار الثّائر وجليد السّياسيّ، كان دائماً يرى الأمور بشكلٍ مختلفٍ ومميّز، وهو الفلسطينيّ الذي يصحو دائماً في الوقت الذي فيه يخيّم على عقول الجميع ذهول المصيبة.
ولا أنكرُ أبداً رفضي لكيفية تفاعله مع الأحداث بشتى أشكالها ودرجات خطورتها، ولكنني أعود من جديد لأثق بمسعود بعد أن ينقشع الضباب عن الصّورة الكاملة للمشهد، وكون عاطفتي الوطنيّة تطغى على عقلي الواقعيّ، فلن أعترف أكثر بمدى إعجابي بشخصيّة مسعود واحترامي له.
نعم، فلسطين لا تُسترجع بالسّياسة وحدها ولن تحرّر بالمال والنّفط، وكلّ كتب وروايات الدّنيا لن تعيد ذرّة تراب واحدة من أرض فلسطين، فنحنُ لا نؤمن إلا بطريقٍ واحدٍ نحو فلسطين لا يمرّ إلا من فوّهة البندقيّة، نعلمُ ذلك ونؤمن به ركناً راسخاً من أركان عقيدتنا النّضاليّة.
كان مسعود يؤمن بهذا أيضاً ولكنّ اللجوء والشتات اللذان عانى منهما الفلسطيني بعد ضياع فلسطين، جعلاه يعيد ترتيب الأولويّات بما تقتضيه الحاجة الملحّة، فالثّورة والجوع نقيضان لا يلتقيان أبداً، والحلم الجميل تفسدهُ اليقظةُ البائسة، ولا يوجد بندقيّة تعمل من دون رصاص، ولن يرتفع علم فلسطين بغير ساريةٍ متينةٍ لا تهزّها الرّيح، ولم يكن بالإمكان أكثر ممّا كان، فجيوش العرب رضخت لقرارات ساستها، وكلّ الدّنيا قررت الحلول دون تحقق الحلم الفلسطيني،
وكما قال محمود درويش: "وضعوك في حجرٍ وقالوا لا تسلّم، ورموك في بئرٍ وقالوا لا تسلّم، وأطلت حربك يا ابن أمّي، يا ابن أكثر من أبٍ .. كم كنت وحدك"
كان على الفلسطينيّ أن يشُقَّ طريقه الخاصّ، ويصنع طريقته الخاصّة، كان عليه أن يبتكر وصفتهُ الأصيلة في مقارعة الاحتلال والنّضال ضدّ المشروع الصهيوني، وكان عليه أن يترك كيس العواطف عند أوّل صخرةٍ كما قال محمود درويش، وكان عليه أن يلتقط ذراعه التي سقطت ويحملها معه ثمّ يمضي في رحلته الطويلة، الطّويلة الطّويلة.. نحو فلسطين.
"يعني الثّورة ما انتهت"
مشاركة منتدى
2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022, 19:18, بقلم جنى أبو عابد
مرَّ شريط الذاكرة أمام عيناي للحظة
استجمع عقلي كل تلك المشاهد
لا زال يذكرها بدقة ، بغصّة ، بألم المنفي في بلادٍ بعيدة ، هل انتهت الثورة ؟ وكيف يضيعُ بلدٌ كهذا ؟
يا لكمّ التساؤلات التي تدورُ في رأسي
يا لكمّ الوجع الذي أحمله في كل لحظةٍ تمر علي وأنا في المنفى ، أُشاهد النكبة من خلال سلسلة حلقات كما لو أنها حقيقية ، على الفلسطيني أن يحمل الألم معه أينما حلّ ، إن كان في ربوع الوطن أو في المنفى البعيد
الثورة مخلصتش
الجيل هاد جيل التحرير بعد ما كانوا أهلنا جيل نكبة ونكسة
وحترجع هالبلاد وحنعمرها