السبت ١٢ آذار (مارس) ٢٠٢٢
بقلم الكبير الداديسي

«عائد إلى بيّاضة» رواية جُماع فنون

في إطار متابعتنا لجديد الرواية العربية نسافر، بالقارئ إلى المغرب الأقصى حيث صدور الطبعة الأولى لرواية "عائد إلى بيّاضة"؛ باكورة الروائي المغربي محمد خزار الممتدة على مسافة ورقية تناهز 256 صفحة وفق:

 تصورٍ يقوم على التقابل بين الحاضر/ الماضي، هنا المغرب/ هناك فرنسا، الاستعمار البرتغالي لأسفي/ الاستعمار الفرنسي... فتحضر المقارنة بين الأمكنة، بين المآثر، بين الفنانين بين الشخصيات... ويصرح السارد باعتماد المقارنة أسلوبا في بناء متن الرواية يقول مثلا: (قارنت كثيرا بين أسماء عبدت الطريق وفسحتها للبرتغال ليتغلغل في آسفي وأزمور... وأسماء شبيهة لها أدت بإتقان نفس الدور مع المحتل الفرنسي، ولو أن مسافة قرون تفصل بين الاحتلالين) وأمثلة التقابل في الرواية كثيرة ومتنوعة....

 ومبنى سرديٍّ يقوم على تعدد الرواة، كل راوٍ، ينطلق من وصف واقعه وقضايا مجتمعه، ليرتد السرد القهقرى باعتماد الإرجاعيات (kcab hsalf)، ويمتح من التاريخ ويقدم مبنى حكائياً دائريا، يلخص حياة السارد الرئيسي أحمد بوناجي الذي يتنازل في بعض الومضات لرواة آخرين، يضيئون بعض العتمات السردية في تاريخ مدينة آسفي خلال مرحلتي الاستعمار والاستقلال وما بعدهما... وقد يغوص راوٍ في التاريخ العميق للمدينة مستشهدا بأحداث غابرة... هكذا كان بناء الرواية بتدفق سردي ينطلق من مكان محدد (حي بياضة بآسفي) ويمتد جغرافيا إلى فرنسا، ويغوص زمانيا في التاريخ، متجاوزا نمطية السرد الخطي التصاعدي، ويعود السرد في النهاية لنقطة البداية وتكتمل بذلك الدائرة ويكون المبنى الحكائي للرواية دائريا...

وقد ساهمت بعض العناوين الفرعية وأرقام المشاهد في تفتيت تلك النمطية لتذكر القارئ رواية بخصوصية تجريبية موزعة على الفصول والمشاهد التالية:

افتتحت الرواية ب(ثلاثة مشاهد) مرقمة (1،2،3) ممتدة من ص 11 إلى ص23

الومضة الأولى عالم الرايس صالح (9 مشاهد) من ص24 إلى ص 92

الومضة الثانية عالم بوجمعة (3 مشاهد) من ص 93 إلى ص 104

رحلة السلمون (15 مشهد) من ص105 إلى ص 234

عاد والعود غير أحمد (5 مشاهد) من ص 235 إلى ص 253

وهو توزيع ساهم في تحديد بعض الشخصيات: (الرايس صالح وبوجمعة)، وأوحى بالفكرة النواة للرواية... وحتى وإن بدت الفكرة البؤرة للرواية بسيطة ومستهلكة؛ (عودة بطل إلى مدينته التي ولد وشب فيها والمقارنة بين تاريخها التليد وواقعها البئيس) ومن تم فهي تتناص مع عدد من النصوص الروائية، وتحيل على نصوص غائبة كثيرة سواء على مستوى فكرة المتن الروائي (عودة بطل إلى مسقط رأسه) والأمثلة كثيرة ومتنوعة في الرواية العربية والعالمية التي تناولت هذه الفكرة... أو على مستوى العتبات بدْءا بالعنوان كمدخل قرائي يذكر برواية لها أثر في نفوس أجيال من المغاربة لأنها كان ضمن المقررات الدراسة (عائد إلى حيفا) مرورا بالعتبات الأخرى من صورة الغلاف والاستهلال باقتباسات مكثفة موحية أولاها عن محي الدين ابن عربي "الزمان مكان سائل والمكان زمان راكد".
وثانيها لحسونة المصباحي الذي يقول فيها: "... إلى أي مكان أذهب إليه شرقا أم غربا، شمالا أم جنوبا أحمل معي بلادي..." ... قبل إن يأتي الإهداء " إلى روح أحمد بوناجي... فلتنعم بالسكينة والسلام " وكل عتبة تستحق دراسة خاصة...

لكن لرواية (عائد إلى بيّاضة) رغم هذا التناص ما يميزها، فهي تسبح بالقارئ في تخوم الخيال ودهاليز الصراع الداخلي والنفسي للأبطال، وتكشف عن غربتهم واغترابهم مع السعي إلى عولمة المحلي.... لتقدم للقارئ أكلة أدبية بلمسات فنية يتفاعل فيها سحر صوت إيديت بياف مع صوت أم كلثوم وفاطنة بنت الحسين، بتوابل رونق العمارة والفسيفساء والهندسة المغربية الأصيلة ونكهات الأكل والطبخ المغربي الأصيل، وصخب حياة البحارة ونسيم البحر وطراوة الأسماك على إيقاع العيطة والملحون والطرب الأندلسي في مدينة تتلاقح فيها مكونات الهوية المغربية العربية الإسلامية الأمازيغية الصحراوية وروافدها الأندلسية، اليهودية المتوسطية... وذلك ليس بعريب على مدينة آسفي التي شكلت على الدوام فضاء للتسامح يتعايش فيها سكان المدينة من يهود ومسلمين بالبدو النازحين وبالغرباء الغازين من البرتغال، الإسبان، الفرنسيين ويشمخ فيها المسجد الأعظم بجانب الكنيسة، وكما تكتظ فيها دور العبادة بالنساك والعباد في وقت تعج الملاهي والحانات بعشاق الخمر والطرب... لتصبح رواية (عائد إلى بيّاضة) ملتقى ثقافيا وحضاريا تتفاعل فيه التعبيرات الثقافية لكل تلك المكونات والروافد في تكامل يميز الهوية المغربية بعيداً عن أي تعصب وإقصاء...

صحيح أن (عائد إلى بياضة) رواية تعالج قضايا كبيرة، لكنها مثل معظم الروايات العربية المعاصرة تنقل الصراع من المجتمع ومن العالم الخارجي إلى أعماق الذات، فيغدو ما يختلج في الجوانح أكبر من أن يسعه العالم، وتضمر فيها القضايا القومية والقضايا العامة أمام القضايا الذاتية، هكذا تصير (عائد إلى بيّاضة) أقرب إلى السيرة الذهنية، يمتزج فيها السِّيري التاريخي بالسردي المتخيل، حتى ليكاد القارئ يشعر أن أحمد بوناجي هو نفسه محمد حراز كاتب هذه الرواية لولا ذلك الإهداء الذي ينعي فيه الكاتب السارد...

ويبقى من أهم ما تنماز به رواية (عائد إلى بيّاضة) انفتاحها على عدد من الفنون من سينما، عمارة، نحث، زخرفة، نقش وتوريق، خزف، موسيقى غناء شرقي، غناء غربي، عناء مغربي عصري وشعبي دون نسيان الأدب الشعر والزجل، الأسطورة، الحكايات الشعبية وغيرها من الفنون... وعلى عدد من العلوم كالأنثروبولوجيا، التاريخ، الجغرافية، الهندسة المعمارية، الاقتصاد، السوسيولوجيا، علوم الاثار، الفلسفة، علم مقارنة الأديان والحروب ... وهو ما يحيل هذه الرواية تحفة فنية ووثيقة تاريخية صادرة عن خبير يعرف خبايا ما يدور بأقبية الشأن الثقافي (كرأسمال غير مادي) والحضاري (كرأسمال مادي) بالمدينة...

ونظرا لتعدد مداخل الرواية وتنوع القضايا والتيمات التي تقاربها مما يستحيل معه الإحاطة بكل جوانبها الفنية والموضوعاتية في مقال واحد مهما كان حجمه، سنكتفي بالوقوف على ملامسة النص لبعض الفنون وتكريس هذه الرواية صحة اعتبار الرواية جُماع الفنون، وملتقى للتعبيرات، وديوان العرب المعاصر الناقل لعاداتهم أيامهم وفنونهم... فماهي الفنون التي عزف كاتب الرواية على أوتارها لتبليغ رسالته للمتلقي؟

1 - العمارة:

تعتبر العمارة بيت العلوم والفنون فهي وثيقة الارتباط بالعلوم الحقّة كالهندسة والرياضيات والفيزياء... وبالعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع، التاريخ، الجغرافية والسياسة... وبمختلف الفنون التشكيلية من نحت، نقش، صباغة، زخرفة على الأحجار والخشب والجبس... سمّاها ابن خلدون "صناعة البناء" واعتبرها أول صنائع العمران الحضري وأقدمها، نشأت بخلاف كل الفنون التشكيلية من أجل الحاجة إلى المسكن، قبل أن تسعى وراء فنٍّ جماليٍّ يقدّم من خلاله تماسك وتوازن الكتل وملء الفراغ في جماليّة بصريّة، ومن تمّ فهي بخلاف باقي الفنون حتميّةٌ، لا مهرب لأي فرد منها، والروائي ليس مخيّرا في توظيفها داخل روايته، إذ يصعب تخيل أحداث تقع بعيدا عن العمران، فأينما تحرّكت أحداث الرواية وأبطالها ستهجع إلى مظاهر عمرانية، لذلك لابد من الإشارة إلى استحالة الإحاطة بكل تمثّلات العمارة في رواية "عائد إلى بياضة" أو في أي رواية أخرى، وتبقى غايتنا تقديم نماذج وعينة للعمارة في هذه الرواية...

تبتدئ الرواية بسرد موضوعي (ضمير الغائب) ووصف بانورامي لمعمارية المدينة، من خلال شيخ سبعيني يتأمل من أعلى سطح بناية الفضاء أمامه، فتتراءى له فضاءات وعمران ومسرح طفولته في مدينة (تدير ظهرها في وجل وتوجس للبحر وتحتمى من جبروته بقبور موتاها التي احتلت كل مرتفع بشرف عليه) في توهيم للقارئ بأن السارد متوارٍ متحكم في شخصيات روايته، قبل أن يفاجأ في الفصل الثالث بتغير الطريقة نحو اعتماد السرد الذاتي، واعتماد الرؤية المصاحية، وتسليم مفتاح السرد لضمير المتكلم (أخرجني صوت المضيفة من سهوي العميق...) ويصبح السارد راوٍ وموضوع رواية، وأحد أبطال القصة ومشارك في أحداثها... لينزل بالقارئ إلى واقع المدينة ويكتشف معه خصوصيتها العمرانية فنَتيهُ معه في أزقتها الضيقة ودروبها العتيقة، ونقف معه على خصوصية البيوت الآسفية العامة والخاصة (بيت الفقيه الهسكوري، بيت الفقيه البيراتي مثلا) ونجول ببعض المآثر التاريخية (المسجد الأعظم، بيرو عرب، الكنيسة القوطية، قصر البحر، مقر البريد...) ونكتشف كيف نشأت المدينة الجديدة والتوسع العمراني ببناء أحياء بعيدة من المدينة القديمة المنغلقة، المسوّرة وبيتوها المتلاصقة، التي كانت تمتد أفقيا، تنفتح على داخلها، ليشكل السطح فيها متنفسا وفضاء للانفتاح ... إلى مدينة عصرية تمتد عموديا (عمارة النصارى نموذجا) تشرع نوافذها وشرفاتها على الشارع العام تفصل بين عماراتها شوارع واسعة ليزداد التباعد بين الناس، وتغدو الشقق ذات النوافذ والشرفات رمزا للانغلاق...

يقول السارد في وصف المدينة العتيقة بآسفي: (تنفتح دور آسفي، كما هو الحال في المدن المغربية العتيقة، على مجالها الداخلي فالنور والهواء والشمس لا تنفذ للبيوت من الخارج، الباب الخشبي للمدخل العريض هو نقطة التواصل الوحيدة مع العالم الخارجي. ولا يمكن تبعا لهذا النسق العمراني المحتشم أن تعطي البناية من الخارج أي صورة عن مساحتها وهندستها والمستوى الاجتماعي لملاكها، فالدروب تكاد تتشابه، حيطانها البسيطة الطويلة التي تتخللها أبواب الخشبية)..

ويضيف في مكان آخر (الدور القديمة ذات الملامح الأندلسية... وتتفرع الدروب المرتفعة والأزقة الضيقة في شكل متواز غير منتظم على هيئة السعف) بالإضافة إلى هذه الخاصية العمرانية العامة التي تسم عمران المدينة، فقد وقف السارد على معمارية البيت الآسفي من الداخل حين يقول: (تطل أبواب الغرف ونوافذها على صحن فسيح مفتوح على السماء. يتم تزيين الأرضية بالفسيفساء والزخارف وفق ما تسمح به القدرة الاقتصادية والاجتماعية لرب البيت...) بين من يبالغ (في زخرفة الجدران ونقش السقوف بالجبس ووضع نافورة وسط فناء الدار...) وبين (من يكتفي بتثبيت قطع قماش مخملية ملونة ومزينة بأشكال هندسية بديعة يسمونها بالحيط على جدران غرفة الضيوف)... وهدف الجميع واحد وهو إظهار جمالية وخصوصية معمارية البيت بتلك المدينة....

هذا وقد رصدت الرواية خصوصية مرافق البيت الآسفي، فالإضافة إلى الدار والويرية، والمطبخ والحمام والغرف لا بد في كل بيت من غرفة الضيوف، و(من الضروريات الأساسية للحياة في دور آسفي أن يكون لها مخزن، وهو في الغالب عبارة عن سرداب طويل يحاذي مدخل البيت فضاء مظلم لا ينفد له الهواء أو النور إلا عند فح بابه الصغير عرضه ضيق بالكاد يتسع لقلال السمن والعسل وبراميل الزيت والزيتون ينتهي فيه الممشى عند أكياس القمح والشعير المرصوفة بإحكام). وتحسبا للطوارئ يمكن أن يكون للبيت بابان من جهتين مختلفتين كما هو الحال في بيت الفقيه الهسكوري...

لم تكتفِ الرواية برصد معمارية الدور ومرافقها بل حاولت رصد معمارية بعض المآثر الكبرى سواء في آسفي أو في كاركاسون كما فعلت عند وصف سينما "لو كوليزي" يقول السارد: (مفخرة عمرانية شامخة – قاعة لو كوليزي أعجوبة فنية مرموقة بكاركاسون، تصنف في قائمة القاعات الأكثر جمالا عبر العالم كانت بنايتها قد صممت لتكون مسرحا وقاعة كبرى للحفلات كان ذلك سنة 1914ومع ازدهار السينما في الثلاثينيات تم تحويلها لقاعة سينما، لكن هندسة البناية الخلابة وأسلوب عمارتها الفاتن لم يطلهما أي تعيير)... وعلى نفس الشاكلة تم وصف قلعة "بيرو عرب" وقصر البحر وسينما الملكي بآسفي بطريقة مشحونة بأحاسيس الحنين والنوستالجيا والتأسف على ما آل إليه حال بعض هذه المآثر في الحاضر فصارت المدينة (مهيضة الجناح حاضرة بلا روح) ص12 مجرد (شبح مدينة، شبح قادم من زمن بعيد)

2 - النقش والزخرفة

لم تقتصر رواية "عائد إلى بياضه" على العمارة كفن عام، بل وقفت على ما يميز بعض المباني من نقوش وزخارف، يقول السارد في وصف جمال نقوش وزحرفة سينما "لو كوليزي" (مبهر حقا هذا الجمال بياض الجدران الناصع، والزخارف المبهجة على الجبس وسحر السقف الخارق بقبة زجاجية قرمزية اللون تحفها من كل جهاتها نقوش على شكل اغصان وورود واوراق شجر لوحة فنية تبعث الانشراح والطمأنينة في نفس الرائي...) لتسعى الرواية إلى النبش في جذور تلك الزخارف من خلال جواب رفيقة السارد الفرنسية جوزيت: (...السقف الذي أبهرك بمدخل المنشأة مستلهم من الأسلوب القوطي، وهو نمط فرنسي في عن العمارة ... عرف انتشارا واسعا بأوروبا وخارجها وقد اعتمد هذا الأسلوب أكثر وأوسع بالكنائس والمعابد)... وأكثر من ذلك حاولت الرواية ربط بعض النقوش بأصول أسطورية (النقوش التي تزين المعابد والكنائس لها أصول قديمة ... إنه سحر بدايات الفكر الإنساني الذي مثلت الأسطورة صلبه ...) هكذا تربط فن التوريق بأسطورة يونانية: (الدارسون لعلم الحضارة وتاريخها يعلمون بأن أوراق الأقنثة التي تزين الأسقف وتكون سرادقا بهيا يحيط بالأعمدة الرخامية الضخمة في الكنائس والقصور والمؤسسات الكبرى هي هبة ... من أبداع أبولو إله الفن والشعر والجمال الذي افتتن بعشق دافني التي لم تبادله نفس المشاعر ولما سعى إلى ضمها إليه خدشته بأظافرها في وجهه، ومن شدة غضبه وحنقه عليها مسخها إلى نبات شوكي (الأقنثة) ومنذئذ مثلث ورقة هذه النبتة مصدر إلهام للرسامين والنحاتين فانتشر رسمها على الخشب والجبس وتألق استعمالها في العصور الأولى زمن الإغريق والرومان في تزيين قمم الأعمدة والسواري الضخمة وسينتشر استعمال هذا الرسم في كل بقاع العالم... وستصل هذه الزخارف العالم الإسلامي عن طريق الشام .... وسيذاع استعمال هذه الرسوم في نقوش الخشب والجبس والخزف عبر العالم تحت مسمى زخرفة التوريق)...

إن رواية "عائد إلى بياضه" حافلة بالكثير من النقوش التي تزين بعض الفضاءات المفتوحة العامة، أو المغلقة الخاصة التي تحركت فيها الشخصيات، أو تعلو بعض الأدوات التي استعملتها تلك الشخصيات من أقمشة وأوان فخارية أو غيرها يقول السارد في وصف صندوق لالة الطاهرة (صندوق غاية في جمال الصنع، تحفة من خشب الأرز تعلوه نقوش بارزة ولامعة بألوان طبيعية... صندوق فاسي بديع لم ينل الزمن من زخرفته ورونقه الساحر)

3 - النحت:

بيدَ أن النحت من أقدم الفنون التشكيلية؛ فهو ثاني أقدم فن تشكيلي بعد العمارة من حيث النشأة، وأقدرها تعبيرا عن الجمال بإنتاج مجسّمات ثلاثية الأبعاد، ولم ترتبط نشأته بالحاجة كالعمارة وإنّما تداخلت في نشأته عوامل روحية دينية وثقافية، فلربما كان الدافع البعيد وراء قيام أول إنسان بصنع تمثال من الحجر رغبته في أملاك الشيء الذي يمثّله التمثال أو رغبة في دفع الشر عن نفسه، أو جلب الخير إليه.

ورغم قدم هذا النحت في الثقافة الإنسانية فإنه يكاد يكون فنّاً مستحدثاً في الثقافة العربية الإسلامية، بل لا زال، لأسباب يتعالق فيها الثقافي بالديني يصارع لإثبات وجوده، لذلك طبَعي أن يكون حضوره في الرواية العربية قليل، لكن ذلك لا يمنع وجود عدد من الروائيين الذين حاولوا توظيف النحت وبعض المنحوتات في رواياتهم، سواء على أغلفة الروايات، أو بالإحالة على النحت في عناوين الروايات، أو تفاعل أبطال بعض الروايات مع تماثيل في الفضاءات التي تحركت فيها تلك الأبطال...

وسنكتفي في هذا المقال بإشارات قصيرة لتوظيف النحت في هذه الرواية، من ذاك وقوف بطل رواية "عائد إلى بياضه"على كل من تمثال السيدة كركاس بفرنسا الذي قال فيه السارد (يجسد التمثال النصف العلوي من جسد السيدة كركاس براس ضخم يُكلّله تاج ثبت فوق ثوب يغطي شعرها وأطرافا من وجهها الممتلئ بوجنتين سمينتين وأنف رحيب، وبدا جيدها مكتنزا وصدرها سخيا يطل منه ثديان مكوران برزا بروز محارب يتأهب للنزال" وتذكره لتمثال ملك المغرب الراحل محمد الخامس الموجود ببهو قصر بلدية آسفي والذي قال فيه السارد: (تمثال محمد الخامس بآسفي غاية في الجمال ودقة متناهية في الإبداع، يكسوه البياض بكامله مع ما يضفيه اللون الأبيض من طمأنينة وإحساس بالصفاء والنبل، بلباس مغربي أصيل يمتطي محمد الخامس صهوة جواد أبيض، يمسك بيده اليسرى لجام الفرس ويمناه مبسوطة تحيي الجماهير)

وقد استغل السارد وقوف البطل على هذين التمثالين وزيارته لبعض المتاحف ليغوص في التاريخ ويسرد أحداث ووقائع حول صاحبي التمثالين، والغاية من تخليد بعض الرموز، ليقارن بين الثقافة الغربية والثقافة العربية في تعاملهما مع فن النحت.... فلما حكت له بطلة الرواية قصة التمثال الذي يقف شامخا في ساحة مدينة كاركاسون بفرنسا ولاح أمامه طيف التمثال الذي خلد به المغاربة بطل ورمز استقلالهم لم يجد إلا أن يقول لها: (في بلادي لم نحسم بعد ، ياسيدتي، طبيعة علاقتنا بالتماثيل. قد نسمح بها مرة وقد نحرمها مرات أخرى، نرغب في إنجازها ونسعى إلى إقامتها، لكننا نحرص على أن تبقى التماثيل مقيدة في سجلات المتاحف أو رابضة في الأركان الظليلة لبعض المؤسسات، بعيدا عن المجال العام، الأمر فيه غموض والتباس جمّان.)

4 فن الغناء

قارئ رواية "عائد إلى بياضه" يدرك من الصفحات الأولى الأهمية التي أولتها الرواية للغناء، من خلال تفاعل الأبطال مع هذا الفن، وتتبع تفاصيل حياة المغنيين، وتصوير مجالس الطرب والسهرات، وعلاقة الغناء بالسياسة ودور الغناء في تنمية أحداث الرواية وسنكتفي ببعض الإشارات حول ثلاث مغنيات جعلهن السارد يتشابهن في مسيرتهن الفنية وفي الوظيفة حتى كدن أن يكن نسخا طبق الأصل يقول: (هناك ثلاث نسخ لأم كلثوم النسخة الأصلية بمصر، والثانية بفرنسا هي إيديت بياف والثالثة توجد هنا بآسفي هي أم كلثوم العيطة الشيخة فاطنة بنت الحسين ) طريقهن في الغناء لم يكن مفروشا بالورود، وتسلقهن لسلم الشهر لم يكون سهلا، ف(قد تتغير بهارات وسياقات التاريخ من فرنسا إلى مصر مرورا بالمغرب لكن الجوهر يبقى واحدا كما البؤس واحدا)... ولجت كل واحدة منهم الغناء، وسخر لهن القدر من يأخذ بأيديهن نحو الشهرة. يقول السارد (سيقود القدر لثلاثتهن من يشد بأيديهن ويضع فنّهن على قاطرة الشهرة والنجاح، ستصل أم كلثوم إلى صالونات القاهرة الباذخة... على يد زكريا أحمد وأبو العلا محمد. وتنتقل بياف من التسكع بشوارع باريس إلى الغناء في الملالهي الليلية برعاية رجل الأعمال لويس لوبي ، لتنتقل إلى الغناء بدور الغناء الباريسية الراقية على يد المبدع ريموند اشو... أما فاطنة بالحسين فسيقدر لها أن تصادف شيخات طباعات وعازفي كمان مهرة يبهرهم صوتها الشجي وينتهي بها المقام في حي فناني العيطة بآسفي حي الكورس)

ومن ملامح التشابه بينهن أنهن كنت يقمن الحفلات في ذات الآن (في السنة الماضية كانت إديت بياف تلملم جراحها وتكمل مسارها بتقديم النسخة الإنجليزية للأغنية الشهيرة "الحياة بلون الورد" وفي ذات السنة كان صوت أم كلثوم يصدح في حديقة الأزبكية بجديد ثمار عشق أحمد رامي شعرا "جددت حبك ليه" حينها بدأ اسم فاطنة بنت الحسين ينتشر ويتألق ... بأدائها المتفرد لرائعتها المفعمة بالتمثلات الصوفية الشعبية "عيطة مولاي عبد الله")... وعلى الرغم من شهرتن وجمال صوتهن فإنهن لم يكن على قدر كبير من الجمال : (الغريب والعجيب أن ثلاثتهن لم يكن لهن حظ كبير من الحسن والجمال، كان جمالهن يسكن في حناجرهن...)

ورغم التشابه الكبير بينهن فإن الرواية رصدت الاختلاف حول صورة المغنية بين المجتمع العربي وصورتها في المجتمع الغربي، فبينت أن إيديت بياف كانت مقبولة في مجتمعها ولم تتعرض لانتقاد لاذع مثل ما تعرضت له فاطنة بنت الحسين نظرا للصورة التي كونها المجتمع عن الشيخة، مع ذلك ناضلت واستمر في الغناء مضلت الفن وعاشت دون زوج أسرة وأبناء... وكذلك تعرضت أم كلثوم نقد لاذع من الفقهاء ف(ارتفع صوت السيد قطب في مقال ناري يقصف فيه أم كلثوم وغيرها من مشاهير الغناء يصف أصواتهم بالبئيسة والمدنسة والمفسدة للعقول بل حملها ما أصاب الحياة الشعورية والقومية من تفكك وانحلال وفساد ضمير الشعب).

الرواية عكست بحق معرفة الكاتب الدقيقة بحياة المغنيينن، وتفاصيل حياتهم وحيثيات بعض الأغاني، فقد حضر السارد لعدد من الحفلات والسهرات التي أحيتها الفنانات الثلاث، وساهم هذا الحضور في تنمية ذائقته الفنية، وفي توطيد علاقته بصديقته التي ستصبح زوجته، كما ساهمت في تنمية أحداث الرواية وفي ربط الماضي بالحاضر وخلق مقارنات بين ال"هنا" وال "هناك" وبين ما يقع الآن وما وقع أيام الصبا في الماضي، يقول السارد لصديقته معلقا على حفلة لإديت بياف: (لن تتصوري وقع حفل الليلة على نفسي ولا كيف هزني وحملني إلى مرابع الصبا بآسفي وأدخلني إلى الزوايا المعتمة بكنيسته)

بالاحتكاك وحضور الحفلات صار السارد يتذوق الفن، ويعرف تفاصيل حياة الفنانين مما يعكس ثقافة موسيقية وغنائية لدى السارد وصادر يدرك كل تجديد لنلاحظ كيف علق على إحدى خفلات بياف: (... الجزء الأخير أعيد تركيبه موسيقيا من قبل الملحنة وعازفة البيانو مارغوريت مونو وهي من الطاقم الفني الذي رافق بياف منذ بدايتها وواكبها ورسم لها طريق الشهرة والمجد. كلمات الأغنية كتبتها إيديت كإعلان صريح عن عشقها الملتهب لمارسيل سيردان...)

وصار يدرك كيف يوظف العناء في السياسة من خلال تتبع علاقة أم كلثوم بالنظام الملكي وما جره عليها تتويجها بوسام ملكي من وبال غداة نجاح ثورة الضباط الأحرار قبل ـن تحتضنها الثورة وتوظف صوتها لصالح الثوار يقول السارد (فصارت أم كلثوم تمجد الثورة وتتغني بمنجزات زعيمها، وأنشدت شعر بيرم التونسي أغنية "يا جمال يا مثال الوطنية" وأغنية "قم" للشاعر صلاح جودت ولحن رياض السنباطي...فتوطدت الوشائج بالنظام الجديد وصارت أم كلثوم تتردد على بيت الزعيم بعد أن أصبحت صديقة حميمة للسيدة "تحية كاظم" حرم السيد الرئيس).

كما رصدت الرواية التوظيف السياسي لسهرة أم كلثوم بقاعة بالألمبيا في فرنسا؛ سواء من خلال الشعارات التي رفعت قبيل واثناء السهرة، أو في حرص أم كلثوم أن ربط السهر بدعم المجهود الحربي لبلادها، أو من خلال الحماس المبالغ فيه لمقدم الحفل التي خاطب الجماهير بقوله (إن تنظيم هذا الحفل هو نصر سياسي كبير للعرب وأن أم كلثوم التي تشدو اليوم في باريس عاصمة الأنوار سيترفع صوتها عاليا في القريب بالقدس المحررة) وهو ما أحال السهرة حسب السارد إلى ما يشبه (المهرجان الخطابي)

هكذا يبدو إذن أن رواية "عائد إلى بيّاضة" جعلت من فن العناء تيمة أساسية بل وهي تلامس فن العيطة وأداء فاطنة بنت الحسين استنتجت أن فن "العيطة في آسفي ليست مجرد غناء"

5 - فن التأريخ

رواية "عائد إلى بياضه" تعج بالأحداث التاريخية، وتمتح من التاريخ المعاصر والوسيط والقديم، ومع ذلك يصعب تصنيفها ضمن الرواية التاريخية، وإن كان التاريخ خاضرا في كل تفاصيلها وهو ما جعنا نتحدث عن فن التأريخ وهو غيرُ علم التاريخ... ونقصد حسن توظيف التاريخ خاصة وأن السارد مؤمن باستحالة كتابة التاريخ، وأن ما يُروى غالبا ما يقدم ما ينبغي أن يكون، وليس ما كان فعلا، وأن لا أحد يملك حقيقة التاريخ يقول في السارد في بداية الرواية (نحن لا نملك إلا قراءات أو تأويلات للماضي، والبشر بطبعه ميال إلى التعلق بكثير من الشغف الذاتي بالماضي، بما لم يعد في متناوله بعد فقدانه للأبد، وكثير من الناس يجلب قدرة هائلة على تحمل اليومي والطاقة الضرورية للاستمرار في العيش من خلال نسج تصورات وخيالات عن الماضي، فتصبح الحسرة على الماضي أسلوبا ووسيلة للعيش وحيلة للتخفيف من حدة قسوة الراهن)

المتأمل في الرواية سيقف على أحداث كثيرة من التاريخ الإنساني، والتاريخ الوطني والتاريخ المحلي سواء لمدينة أسفي أو مدينة كاركاسون بفرنسا، لكن الرواية لا تقدما كأحداث تاريخية معزولة، وإنما قدمتها كآليات داعمة تطور أحداث الرواية...

ففي الرواية إشارات تاريخية كثيرة تعود بالقارئ إلى العصر الجاهلي، والأموي والعباسي، والأندلسي وأحيانا تتجه عمقا إلى ما قبل التاريخ وتطفو تلامس أحداثا معاصرة مرتبطة بالاستعمار وقد تقارن بين بعض الأحداث في مشارق الأرض ومغاربها والسارد يفعل ذبك بوعي تام. يقول: (استهوتني هذه التطابقات فصرت أتتبعها باحثا عن تمظهرات التاريخ وتخفيه في تفاصيل وجزئيات يتموه بها في جولاته عبر الأحقاب)

لا بد من الإشارة إلى أن هناك فرقا بين ورود بعض الإشارات التاريخية في سياق سردي معين وبين جعل الحدث التاريخ حافزا سرديا يساهم في تشكيل تكوين الشخصية ويتحكم وعيها، فالقارئ للرواية يستطيع فصل تكوين بعض الأبطال عن عام البون، وعام الرفسة، وعام الجوع وأكل (أيرني، الجراد...) وأثر الحرب العالمية الثانية على حياة شحصيات الرواية وكيف اضطر الناس إلى (استخراج الجثث من القبور لاسترجاع الأكفان لستر عريهم ممّا تسبب في انتشار داء التيفوس، السل والزهري وزهقت الآلاف من الأرواح) وانتشار الأمراض والطفيليات مما حتم (رش أي وافد على المدينة بمبيدات القمل والطفيليات ويخضع لسلسة من الكشوف قبل التلقيح) هذه أحداث تاريخية لكن كاتبها وموظفها ليس مؤرخا...

من جمالية توظيف التاريخ في الرواية المقارنة بين بعض الشخصيات التي وسمت تاريخ بعض الأمم، ومن ذلك في هذه الرواية المقارنة بين بوكاتشيف وبوحمارة :(فإذا كان الأول قد انتحل صفة الإمبراطور وقوى شوكته بالمتمردين القوقاز ودوخ الحكام والجيوش زمن إمبراطورية كاترين الثانية وحروبها الطويلة مع العثمانيين... فكذلك كان الجيلالي الزرهوني المعروف ببوحمارة الذي ادعى أنه ابن السلطان حسن الأول واستعل معرفته بطقوس البلاط ليستميل قبائل بشرق المغرب زمن صراع المغرب مع فرنسا كما تقارن الرواية بين النهاية التي آل إليه الثائرين

وتتجاوز الرواية علم التاريخ بتجاوزها الالتزام بحرفية الحدث التاريخ، وتجاوزها ما وقع إلى ما يمكن أن يكون قد وقع، وهو ما سهل للرواية الانتقال السلس في بين الآن (الحاضر) وزمن السرد(الاستعمار الفرنسي للمدينة) والماضي إذا كان السرد يغوص بسهولة في أعماق التاريخ فيذكر ب(الغزو البرتغالي للمدينة) في تماهٍ بين المعطى التاريخي والبعد الروحي، بين المحلي والإنساني، لقد وقفت الرواية على الكثير من الوقائع التاريخية، لكن محمد خراز قرأ تلك الأحداث بعينين عين واقعية وعين فنية ليقدم للقارئ تاريخا متخيلا موازيا من منظور ذاتي، ووثيقة قد يرجع إليها المؤرخ لفهم مجتمع في حقبة ما بعيدا عن التوثيق

6 - فن السينما

أصرت رواية "عائد إلى بياضه" وهي تلامس الفنون أن تقارب الفن السابع كفن مستحدث يقم على استخدام الصوت والصورة بغية إعادة بناء الاحداث بطريقة فنية على شريط يستهدف إعجاب المشاهدين، والرواية تناولت السينما كفضاء كفن، واستغلت السينما فبي بناء أحداثها سواء من خلال مقارنة البطل بين السينما بموطنه الأصلي والسينما بأرض المهجر، كقوله مقارنا بين سينما كوليزي بكاركاسون وسينما روكسي بآسفي (كنت بسينما كوليزي منذ الصباح، انتظرت دوري في الطابور الطويل زهاء ساعة.... آخر فيلم شاهدته كان فيلم "سبارتاكوس" أذكر جيدا حالة الازدحام على شباك سينما روكسي بآسفي . بالضبط كما وصفت..)
وإذا كان الإقبال على قاعات السينما قد تراجع في السنوات الأخيرة فإن الرواية وثّقت لمرحلةٍ كان الجمهور يتهافت على متابعة الأفلام السينمائية وفق طقوس معينة: (كانت لويزة تخصني بمقصورة الضيوف المرموقين وعلية القوم تلتحق بي، بعد أن يتبوأ الجميع مقاعدهم ويتم إغلاق باب القاعة، محملة بالمرطبات والحلويات والفواكه الجافة)

كما وثقت لحظات العرض الأول لبعض الأفلام السينمائية، مثل فيلم " كيلوباترا بطولة إليزابت تايلور، ورصدت الكثير من الأحداث التي لها علاقة بالسينما كحفل افتتاح سينما الملكي بأسفي، الذي لاح للسارد طيفه وهو يتأمل دخول الجمهور لسينما "لو كوليزي" بفرنسا يقول: (كنت أتأملهم وأستحضر أناقة جمهور آسفي برجاله ونسائه في حفل افتتاح قاعة سينما "الملكي" في بداية الخمسينيات. كان حفلا فنيا رفيعا أحياه الفنان المصري الأسطورة محمد عبد المطلب وفنانة الغناء والتمثيل والمونولوغ الراقصة نعيمة عكيف...)

وينضاف إلى ذلك وصف السينما كفضاء والتذكير ببعض الأفلام التي كانت تعرض في الثلاثينيات التي شكلت مرحلة ذهبية في تاريخ السينما الفرنسية... لكن السينما لم تكن في الرواية- مثل باقي الفنون الأخرى- سوى وسيلة فنية في خدمة مسار الأحداث، فقد كانت السينما السبب الرئيس الذي مهد لارتباط البطل بجوزيت، وكان حضورهما لفيلم "كيلوباترا" الذي أدت دور البطولة فيه إيليزابيت تايلر هو ما كسر جدار الجليد في علاقتهما، وذوب الفوارق والمسافات بينهما... ففي مشهد مؤثر من الفيلم يقول السارد (إليزابت تايلر بقوامها الممشوق واساريرها المغرية أتقنت الأداء في تماه خارق مع الدور، ولما اقتحم القيصر حميميتها وهي في حمام الحليب والعسل على أنغام الموسيقى الهادئة ... بدت لي في قمة الأنوثة والفتنة. حينئذ ارتفعت حرارة جسمي واخترق أريج أنوثة جارتي خياشيمي ونقذ إلى آلتي فتصلبت، لم أكن سيدا على نفسي، وحين امتدت يدي إلى يدها الناعمة لتدسها بين راحتي المستعرتين، لم تسحب يدها لأول مرة لم تسحبها، وطربت نفسي وفرحت....)

ما يشبه التركيب

رواية "عائد على بياضه" إذن رواية بنيت على التقابل بين طرفي عدة ثنائيات، لعل أهمها ثنائية الماضي/ الحاضر، وثنائية شرق/ غرب وقد تفننت في توظيف الفنون، وجعلها في خدمة بناء أحداث روائية بأصوات متعددة محكومة بنوستالجيا للماضي، وانبهار بالغرب، وهي مثل عدد من الروايات التي تناولت العلاقة بين الشرق والغرب جعلت الرجل شرقياً والمرأة غربيةً، وكون تلك المرأة متفوقة فنيا على الرجل الشرقي (بسطت امامي بدراية ثاقبة دلالات النقوش والزخارف التي سكنت جدران وسقوف البناية الدينية والروحية عبر أرجاء المعمورة وكنت اصغي بإمعان شديد لكل شروحها التي رسخت إيماني بوحدة الإنسان في كينونته وجوهره.) وسعي الشرقي إلى إثبات ذاته من خلال النبش في تاريخه كمن يبحث عن جذور وهوية وأصالة، والمقارنة أحداث وفنون وشخصيات من تاريخه بأمثالها في الثقافة والحضارة الغربية

وإن كانت بعض العبارات تبين أن لا مقارنة بينهما فقد (قضى العرب بكاركاسون أزيد من ستين سنة ولم يخلفوا أثرا يدل عليهم) فيما قضى البرتغاليون مدة وجيزة بأسفي وتركوا كل تلك المآثر التي لا تزال شاهدة على مرحلة من تاريخ مدينة لها سحر يتجاوز تأثير الزمن كل شيء سرمدي، طبخها (ستكتشف اليوم أكلة سمك لن تنساها ما حييت طاجين الزريقة بالطماطم وورقة سيدنا موسى على الطريقة الآسفية)، غروبها (ما أروغ مغيب آسفي وما أبهى أماسيها ً) لكن الرواية تهمس في أذان المسؤولين بضرورة الحفاظ على هذا الإرث الثقافي والحضاري الذي صار يفقد بريقه بالتقسيط فلم تجد لالة الطاهرة سوى الحسرة (يا حسرة على زمان، وسواك زمان وكحل زمان وحناء زمان، في وقتكم كل شيء مسخ.)...

لذلك كانت خاتمة الرواية ناقوس خطر يندد بقتل الفنون وموت الجمال بمدينة عريقة (بعض مراتع الصبا بأسفي لم تهمل أو تهجر أو تدنس بل اجتثت من مكانها وتحولت مواقعها إلى خراب موحش.... كم هو عنيف وقاس وموجع ما يراد بهذه المدينة، تمحي ذاكرتها وتمسخ رمزية فضاءاتها، وكل جديد يحدث بها يكون خلوا من سمات الجمال والمدينة التي وسمتها وطبعت وجودها، فاستوطن القبح مداراتها وارصفتها وتوج القبح نفسه وتربع على كرنيش المدينة)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى