عبد الرسول عبد الأمير، وتراكم فيوض الأسئلة
النثر يراد له الإشتغال الذهني بدقة متناهية مع الشعور الهائل في فهم الحياة ومايعتمرها من الصعاب وكيفية العبور مع الناس بحرية مطلقة. النثر صلب كما صلابة المعاني في أسامينا فلكل إسم فحوى ومكنونات ودلائل، هذا يعني أن قصيدة النثر لها من الشروحات الكثيرة التي لاتنتهي لا كما تلك القصائد الكئيبة التي تشرنقت في ستة عشر صحراءٍ قاحلةٍ لاتستطيع تغيير حالها الى أحوال أخرى. كل هذا نجده عند الشاعر النثري(عبدالرسول) في نصه الموسوم (عبق رشاقة الحواس، في أسئلتي المزحومة). نص فيه الكثير من اللوحات المتغلغلة في أعماقنا، ولو أني تمنيت أن لايكون غامضا مستترا بهذا الكم من الرمزية فالقاريء أيضا علينا مداراته في الحصول على كلام واضح كي يستطيع الإستئناس في جنس الشعر. في النص يواجه عبدالرسول الكثير من تزاحم الأسئلة التي لايمكن أن نجد لها إجابة أو نجد قليلا منها. ولكن صعوبة الحياة والإستمرار بها دون الحصول على إجابة هذا هو الذي يجعل المرء في يأس تام دون الوصول الى المبتغى باليسر الذي نتصوره بل بكل الصعاب المترتبة من جراء تكلّس الأسئلة التي لاتجد لها جوابا. فلنقرأ عبدالرسول في هذا المنحى:
مستأنساً بفرحي المؤجل، من خجلي الساذخ
لتلمني بقاياي..
من جوهر روحي المزحومة بالاسئلة
احادث سر كأبتي
بنباهةٍ جارحةٍ وتأوه جامد
لا يلد، الاّ الإنتشاء
عند تراكم الأسئلة يدخل الرأس في دوامة التفكير الممل حتى يُتخم ولابد له من الفكاك من هذه الحالة التي تؤدي الى الوجوم والعزلة القسرية أحيانا وهذه بدورها تجعل من الشخص يحاكي نفسه وهذا يحصل لدى الكثيرين فيما يسمى حوار النفس مع النفس وهو نفسه يدعى بالصمت أو الوجوم المستمر، وهذا الصمت في أغلب أحواله عبارة عن صرخة الروح التي لاتستطيع الخروج للعلن لخوفها أحيانا من الطاغية أو من مجتمع منغلق لايتقبل فكرة جديدة عليه قادمة من شخص يريد الخروج عن التقليد السائد، أو من صديق لايمكن له تقبل فكرتك وإبحارك في أمور معقدة صعبة على الإنسان البسيط، فغالبا أكثر البشر هو في طبعه خامل ورأسه كسول غير مستعد أن يدخل في مرحلة التنشيط ولذلك يبقى على ماهو عليه مسايرا البشر فيما هم عليه لآنه ليس له الإستعداد أن يكون مع الحشر بينما يمشي بمفرده. وهذه الحالة يدركها الشاعر عبدالرسول الذي يعيش وسط مجتمع ليس له الإستعداد على تجاوز ماجّبلَ عليه بسبب العادات المكتسبة والتي تسري في الباطن وتصبح من المسلّمات، أو مجتمع ليس له القابلية على المغامرة في إستخدام العقل والخلاص من النقل فيبقى في ركوده دون تحريك الساكن حتى مماته وهذا يحصل في اغلب بلداننا. لكن الشاعر عبد الرسول لايتقبل هكذا فكرة مما يؤدي به الى الإنفصال النفسي المتقلّب بين الوقتية والدائمية من كثرة مايدق السؤال في رأسه أسفينا حول هذا الكون المترامي والمراد فهمه بطرق صعبة للغاية، وأحيانا تؤدي الى التمرد والشرود ونفي الذات مثلما حصل للشاعرة (سيلفيا بلاث) التي وضعت حدا لحياتها بالنفي القسري الى العميق تاركة زوجا وطفلين. مثلت حياتها في فيلم جميل يحمل عنوان (سيلفيا) إنتاج عام 2003 قامت الممثلة البارعة (جوينيث بالترو) بدور سيلفيا والممثل الذي مثل أفلام جيمس بوند بدور زوج سيلفيا (دانيال كريغ). ولذلك نرى الشاعرعبد الرسول يقول بخصوص التصدي والتمرد:
أمسك بقصيدتي التي تفكر بكل القلب
اعيشها بغرائبيتها الصماء، ما بيني وبين الأخرين
أكاشف وقتها،أشاكسها
اتسكع معها شريداً صوب التمرد
وهو في غمرة تمرده وكآبته يوجه تلك الأسئلة المتشابكة لأمرأة، ربما حبيبة أو ربما إمرأة المجاز فهي الملاذ الآمن في الأحايين الكثيرة. ولابد للمرء بين آونة وأخرى أن يحاور النفس القلقة، وممّ يأتي هذا القلق الدوّار في رؤوسنا: هل من المعرفة، هل من أمر سياسي أو إجتماعي أو من أمر يصارع النوازع البشرية. فعلى العموم في داخل كل إنسان كما يقول بوذا (ذئب وحمل وديع) فأيهما يغذيه سيكون هو ذاته، أي أن التغذية ستقرر نزعة الشر من الخير في دواخلنا. ولذلك نرى الشاعر عبد الرسول يتحاور مع إمرأته لعلّه يجد جوابا كما في أدناه:
ايتها السيدة جدا جدا واللينة
كدموع الصبايا
ايتها الانثى الكبيرة، واللهفة الغامضة
التي لا اراك
الا انت وحدك وان أختفيت
لا يهرمكِ لذع الكلام ووحشة العالم
و لذة اغتراب المعنى
مهما يكن من أمر فالملاذ الآول للرجل منذ نشوء التأريخ هو المرأة، فكان آدم يوجه شكواه وضيق صدره وتوقه نحو المعرفة الى حواء فليس غيرها هناك في ذلك العالم الشاسع وحتى بداية الحب كانت عبارة عن شكوى آدم لحواء عما يعتمر في داخله من نشوى هائلة كلما إقتربت منه حواء، إنتعاض في أسفله، إنتصاب، خدر رهيب وجميل ومنعش كلما لامس خديها أو إحتك ببطنها ولايعرف ماهذا الشيء الغريب القادم من المجهول، كله كان يوجه الى حواء باسئلة حتى عرف الإثنان ماهو السر في الرغبة هذه، حتى عرفوا أن التعشيق بين العضوين هو الذي يعطيهم الجواب على كل هذه النار والنشوة العميقة في دواخلهم. ثم أصبحت المعرفة في الحب شائعة بينهم وإنتقلت للذرية البشرية الى يومنا هذا. إذن هي ألاسئلة التي تريد جوابا حتى يهدأ المرء من صخرة جثمت على صدره. ولكن هل تتوقف الأسئلة: الجوابُ كلا، بل ستكون سيلاً جارفا، فالمعرفة شجرة الثمار التي أكلنا منها ولازالت تنمو وتنمو لآشجار وأشجار بلا نهاية تذكر بل هي السرمدية الممتدة من الأزل صوب الأبدية والتي سيظل معها الإغتراب طالما المعرفة ليست لها حدود، طالما العلم متعدد في تجاربه، طالما الثقافات تتغير بتغيير البيئة فحتما سيطال التغيير في الإنسان نفسه. يبقى الإغتراب الذاتي مرة ينمو ومرة يخمد ولذلك قال عبد الرسول في نهاية شذرته أعلاه (لايهرمكِ لذة الكلام ووحشة العالم / ولذة إغتراب المعنى). ويستمر عبدالرسول في لجة الحياة العصيّة على الفهم الدقيق، يبقى ذلك الرائي بعيون الجنون وبإبداع الشاعر الحر الذي لاتكبله الأعراف ولا المسافات ولا الأحزان مثلما نقرأه أدناه:
وهذا جنوني الجاد، بمحتوى حزن المسافات
من دهشة تشتت الفصول
فأنا شاعر حر، في سماء الله
في عيني سرٌ غامض
لما أزل أنط..
من فوق حبل عاطفتك، ودفئها المشاكس
من وجه، مرتوي بنبيذ هادئ
وترهات مؤجلة
الجسد والعقل وتشتت الفصول، وألأسرار الغامضة في العيون، وأحلام مؤجلة قد أصبحت ضباباً أو رملاً يتناثر في الريح بنظر الشاعر عبد الرسول، فمعظم أحلامنا ذهبت أدراج الضياع، كل ما كنا نتوقعه أن يحصل جاءت نتائجه عكسية وسلبية، وهذا مما يؤثر حتى على معنويات ومكنونات الشاعر بل تجعله وتصهره في دائرة الإحباط والإنكسار، ولكن هل هناك جدران إسمنتية تقف حيال الشاعر الحر في سماء الله: نعم هناك لكنه يبقى مصراً في أن يجعلها جدران ورقية نستطيع تمزيقها في أي وقت، بالحرية وبالدهشة المشار اليها في اعلى الشذرة لعبدالرسول، بالسر الغامض الذي نحفظه في قلوبنا حتى الممات، فهناك أشياء يمتلكها المرء لكنه لايكشف عن جميعها. بالحب يستطيع المرء الإستمرار فالحب هو السلوك الوحيد للديمومة وهو التصرف الذي يجعل المرء يستمر محاربا الإنقراض، فالحب تناسل وزرع بذرة ٍستصبح شتولاً ذات يوم، ستصبح لحما ودماً حيويا يسير في الآرض مرحا أو حزينا أو ثائرا أو شاعراً لافرق. المهم هو الإستمرار حتى لو كان بالمشاكسة التي تحيد عن المألوف في أوطاننا وشرائحنا الإجتماعية ولذلك قال عبدالرسول: من فوق حبل عاطفتك ودفئها المشاكس / من وجه مرتوي بنبيذ هاديء / وترهات مؤجلة.
أما المشاكسة المذكورة أعلاه في النص فهي التي أرست حبال البقاء للشاعر الشهير أدغار ألن بو وهو يُركل خارج البار بسبب عدم دفعه حساب النبيذ الهاديء أو اللاذع، لآنه كان فقيرا معدما لايمتلك في جيبه ثمن سكرته وثمالته، فماذا يفعل سوى أنه يدفع الثمن بالركلات واللكمات من قبل حراس البار وهذه الضريبة أدخلته في عالم الإبداع العظيم بل نقلت لنا كيف هو المصير لشاعر كبير لم تنفعه كتاباته الشعرية ولا إبداعه في الإحترام والإعتذار فنحن في مجتمع مادي رأسمالي تافه في كل شيء. لكن التأريخ المنصف والعادل لم يعرّفنا بمن ركلوا أدغار الن بو، بل عرّفنا بأدغار فقط مثلما ذات يوم حين قال الفيلسوف (شوبينهاور) لآمه التي كان على خلاف معها فقال لها بعد خروجه منها غاضباً: التأريخ سوف سيذكرك فقط لكونك أم لعبقري كبير. وفعلا التأريخ نقل لنا كل ما كتبه شوبنهاور أما أمه فظلّت في الركن منسية في اللاشيء.
وفي الأخير أقول طالما أن عبدالرسول شاعر في السموت أو في سماء الله مثلما ذكرها في نصه، هذا يعني أنه الطائر الحر كما الشاهين المحلّق الذكي الشجاع المعتد بنفسه والذي لايكتفي بالسؤال بل لسوف يصله التمرّد الى أن يقول لنا (مالي أراكم تسألون بجواب سؤالكم). بل سوف يستمر في التساؤل دون توقف طالما في الوصال نبض ودم وطالما هناك جواب مخفي عصي على الإمساك حتى يصبح مقدساً بهالته البعيدة عن مداركنا، مثلما دوّنها في الشذرة أدناه:
فما انتِ
الا فيوضات
أسئلة تقودني، الى اسئلة أخرى
لأصل الى..
عتبة المعنى المقدس لي
وأدناه النص كاملاً للشاعر عبد الرسول عبد الأمير:
سردية تعبيرية
(عبق رشاقة الحواس، في أسئلتي المزحومة)..
وأنا أرتب صمتي المحتج اترك دفة
مساحتي بهدوء خجول بعدما أفرك
محتوى ظلي الصدأ من نزيف الضوء
وتورم ذهولي الكامد
تمازحني المحبة المنكودة
أيتها اللذائذ، المحترقة في حريتي الغائبة
أقرأ نفسي نشوانا، من كؤوس الندى
سأظل صامتا، ما زالت قصيدتي تتكلم
بذهنية حاذقة
ها انتِ
تصغين الى صمتي، صوت القصائد
صوت التراب، صوت المطر، صوت المرأة
وصوت الوالهين الانقياء في فضاء الحرية
أرقص امام مرأتي المراهقة لأعتني
مستأنساً بفرحي المؤجل من خجلي الساذخ
لتلمني بقاياي
من جوهر روحي المزحومة بالاسئلة
احادث سر كأبتي، بنباهة جارحة
وتأوه جامد
لا يلد الا الانتشاء
أحادثه من شغاف الِشعر
اشهق فارغا لأبيح وجودها الذهني
متعة في دهشة التشائم
أدس انفي لاستنشق أهة نبيذ المساء
واستمتع بتمتمة الألم
نازفاً للفوضى بحماقة عذبة.
عاشقاً للصمت والرهافة المتيقظة
وانا شاعر لذة
حلمي المغترب مسافة صوت
يمشط ضجيج ظلي
أساي تبكي صمتي الأخرس
أمسك بقصيدتي التي تفكر بكل القلب
اعيشها بغرائبيتها الصماء، ما بيني وبين الأخرين
أكاشف وقتها، أشاكسها
اتسكع معها شريداً صوب التمرد
ألملم يقيني بغبطة باكية وأثرثر مبتسماً
بقوة بعد ما
اساجل آخر بيتين او ثلاث منها
ومن اللطافة ان استشعر ثقل الفراغ
ولون الدمع يا ذات الرغبة الملتهبة
والغموض المالح
أبحث عن تفاصيل وجهك في صحبة الروح
أستوعب مسترخيا ترنيمة صوتك
أيتها النزعة المتمردة
والدمع الصامت والرضا الاريحي
والألفة المشوقة لاجد غشاوة الاسئلة
في وحشة طريق طقوسك
وانا أخاف الفراغ المجمّد
والنصف من الصراخ المشاكس
حين يكون الحب ضارا
والقبل اكثر شراسة
ايتها السيدة جدا جدا اللينة
كدموع الصبايا
ايتها الانثى الكبيرة واللهفة الغامضة
التي لا اراك، الا انت وحدك وان أختفيت
لا يهرمكِ لذع الكلام ووحشة العالم
و لذة اغتراب المعنى
فما انتِ
الا فيوضات أسئلة تقودني
الى اسئلة أخرى، لأصل الى
عتبة المعنى المقدس لي
يا سيدة المعنى، ورقي الفكر
ها انت تمازحين جدوى دمعتي
ومن سخاء مواجعك. تهدين لي متعة التوهان
وانا يلذ لي العناق ليلا
كي تبقى الرؤيا واضحة
لا اكذوبة عدوانية
فروح المنطق وجوهره يملي
على فكري وحيدا تبيان ذلك
دونما ضجيج
وهذا جنوني الجاد، بمحتوى حزن المسافات
من دهشة تشتت الفصول
فأنا شاعر حر، في سماء الله
في عيني سرٌ غامض
لما أزل أنط..
من فوق حبل عاطفتك، ودفئها المشاكس
من وجه، مرتوي بنبيذ هادئ
وترهات مؤجلة
تلوك بها ذاكرتي اللصيقة
بهامشي الماتع
تنسجين بحلمك الملون خيطاً غليظاً
لهلوسة مؤلمة، في افق ظلك الذي يضاحك ليلي
المسكون بالغناء
ويراقص حتى حريتي ليستقي
من قطرات المطر الاولى وصوت لونها
بعد ما ادندن بقصائدي
ذات المعنى المختلف لتشكل توليفة
هائلة تشهق، نثراً وشعرا
ممهوراً بعشقي المنيف
وشِعري الذي يهذي سر
عربدة رغائبي، وينَمل ايات وجعي.