الثلاثاء ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٤
بقلم هاتف بشبوش

عزيز الموسوي ــ رذاذٌ ناعمٌ ، في حقول النقد..

أن تجد نفسك مفتوحا على التمارين الأدبية التي لايمكنك التوقف عنها الّا بالإستنتاج والإنطلاق من الرؤيا الى الفعل، الى تعديل مسار حياتنا الأدبية وإيقاعها حسب متطلبات النص الشعري وما مر به من متغيرات تنقل لنا معانيه وأجناسه وتأريخه منذ القدم حتى الحداثة بكل مستوياتها التي لاتقبل التبعيض. أن تجد نفسك موثوقاً بشغف القراءة والمعرفة والدلالة حتى الوصول الى المزيد دون الشبع والإرتواء، فهذا ما وجدته في الكتاب النقدي (النص المفتوح) موضوعة مقالنا لإستاذ النقد الأدبي في جامعة المثنى (د.عزيز حسين الموسوي) فكان نهراً جاريا يفتح كل المسالك على مصاريعها ويتفرع حتى يعطينا العديد من السواقي المعرفية التي لاتنتهي بل تتفرع الى فروع أخرى من المعايير والشروحات الهائلة. كتاب النص المفتوح شامل عن تاريخ الشعر (العمودي، الموشحات، المقامات، البند، الشعر المرسل، التفعيلة، الحرة، النثر ثم النص المفتوح والتجريب).

هذا الكتاب يغنينا حتى عن قراءة كتاب (سوزان برنارد وقصيدة النثر من بودلير الى رامبو). كيف تمكن عزيز الموسوي في صنع كل هذا النسيج المعلوماتي عن الشعر في هذا الكتاب حتى يمكنني القول من انه مرجعا أساسياً ومنجداَ لكل من يهمه الشعر وحركة الشعر وتأريخه وقوانينه وأصوله. لايمكنني سوى القول أن عزيز قد صب كل طاقته المنهجية والبحثية في جعل هذا الكتاب منهلاً مهماً في تأريخ الشعر العربي. لم يترك عزيز أي مصدر متخصص بالشعر الا واستشهد به في نقل مايريده الى القاريء بدقة متناهية.

الكتاب اتخذ موسومية (النص المفتوح) وهو نفسه أصبح كتابا مفتوحا على الآفق الأدبي والشرح البليغ ويستطيع المرء أن يقرأه من أي صفحة كما كتاب مقدس فيجد نفسه قد أنهل من الجمالات دون الرجوع الى الصفحات الأولى. في الكتاب وجدت عزيز يخلق البوح ويصنع التوصيفات بمهمة العارف والضليع ويضعها على طبق ويقدمها للمتلقي مثلما قال ادونيس (نحن نخلق ولانرث اي ثورة على التقليد والميراث العربي). أو أن عزيز مثلما قال محمود درويش: الشعر ولد في العراق، فكن عراقيا لتصبح شاعرا وانا اقول كن عراقيا لتصبح ناقدا بارعاً مثلما عزيز الذي بذل مجهودا في عصر الشروحات قطرة قطرة، حتى استيقظ صباحا ووجد عروقه كلها لم يعد بها أثر لشيء لم يكتبه عن مسار الشعر. يكتب عزيز ويغطس عميقا في مسبح لاحد له ولانهاية، وجدته كمثل شخص ليس له إقامة ولامكان ثابت بل هو دائم التنقل بين صفحة وأخرى تراه يكتب جديدا متسلسلا، انه القاهرالمتسلسل لجميع مسميات النص الشعري منذ نشوء الشعر حتى وصوله الى التجريب والنص المفتوح.

واهم ماتناوله عزيز منذ البدء كي يدخل في تفاصيل متغيرات القصيدة العربية هو: عن الثابتين المهمين في الانجاز الادبي اللذين ظلا حتى القرن العشرين وهما كل من: إبلاغية الأدب وإيقاعية الشعر. الإبلاغ هو ايصال الجنس الأدبي الى الآخر وماسمي علم البلاغة، ثم الإيقاع الذي يقوم على اساس الوزن والقافية الذي يميزه عن النثر. حتى جاء ابو نؤاس وبشار ففعلوا إنقلابا بسيطا بالألفاظ وبقوا على الوزن والقافية وهذا لاقى استهجانا ومعارضة واعتبروه خروجا عن التقليد السلفي أنذاك. عزيز الموسوي له من القابلية على الإسترسال في نقل المفاهيم مع جعل المتلقي منبهرا غير ملولا بل يريد الإستمرار حتى آخر المغامرة القرائية ولذاذتها. تناول عزيز الحداثة وما فعلته لدى المتمسكين بالماضي ولايريدون التغيير، فحتى شعراء النهضة مثل البارودي والزهاوي والرصافي وشوقي وحافظ لم يحققوا أي تغيير في الحداثة سوى التلاعب بالألفاظ مما أدى فقدان هويتهم الفنية التي ظلّت على التقليد القديم والإيقاعية المعروفة. ينقل لنا كتاب (النص المفتوح) عن مجمل مامرت به شعوبنا من متغيرات على الساحة الثقافية والسياسية والإجتماعية ومامدى قبولها للحداثة الغربية فيضرب مثلاً على ذلك: أن محمدعبده وجمال الدين الافغاني والطهاطاوي كانوا من جهة يؤمنون بالفكر الغربي وحداثته لكنهم يطلقون العنان للفكر الإسلامي والتقليد السائد.

هذا يعني أنهم في حالة من الحياء وعدم الشجاعة أي انهم يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى وفكرتهم انهم يأخذون من الغرب مالايخالف الشريعة المحمدية. حتى جاء طه حسين وسلامة موسى وطالبوا بالتخلص من القافية والأوزان بشكل مطلق والإنفتاح على الغرب لكن آرائهم جوبهت بالرفض أيضا حفاظا على التقاليد العربية الأصيلة، والخوف من المساس بها، وهذا الخوف هو السبب الرئيسي في وجود الخرافة والأساس في الإبقاء عليها وتقويتها لأنها هي أكثر الوسائل فاعلية لحكم العامة وبسطاء المدارك فترانا بقينا على كل ما هو إصولي يشدنا الى الرجع القديم الذي لايمكننا من خلاله تجاوز جداراً واحدا من الماضي. ومن يريد أن يكسر التقليد بشجاعة سوف يلقى الصفعة المدوّية للحلاج على خده من جاهل أمي لايقرأ ولايكتب، الصفعة التي رأيناها في المسلسل التشويقي الممتع (العاشق وصراع الجواري) إنتاج 2019 بطولة الممثل السوري (غسان مسعود) بدور الحلاّج.

تناول كتاب (النص المفتوح) مأساة الشباب العربي الذي يأن من السلطات المستبدة مما يؤدي بها الى النزوج والهجرة الى بلدان الشتات وهذا ما حصل لدى اللبنانيين والسورين قبل مائتي عام ولازالت الأوطان تشهد النزوح القسري والطوعي. وهنا يتمثل الأمر بجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، مما أدى الى التأثر بالكثير من شعراء الغرب ورومانسيتهم فأتاح المجال في المهجر أن ينطلق الأديب الى الحداثة دون خوف ولاتردد ودون الرجوع الى الماضي والتقليد. ثم أتى دور الكتابة بالشعر المرسل الذي يمنح الشاعر القدرة على كتابة الشعر الملحمي والمسرحي وهذا لن يحصل الا بالخروج عن القافية، على سبيل المثال (الزهاوي): كتب الشعر المرسل لكنه بقي على الشطرين وهذا مما أدى الى زوال مايقول به نحو الحداثة والإنقلاب على الماضي لآنه أساسا (الزهاوي) تعرض الى الضرب واللكم من قبل بعض الأشقياء حين قال (إسفري يا ابنة العراق) مما جعله خائفا مترددا بالتصريح بالحداثة الغربية وهذا ماحصل أيضا لـ (علي الوردي) في محاولة طعنه بالسكين من قبل زمرة جاهلة أخرسته وجعلته محايادا خائفا في التصريح التام للحداثة وهذا مارأيناه في المسلسل العراقي الجميل عن حياته إنتاج 2012 تمثيل كل من أياد الطائي ومازن محمد وزهورعلاء وإخراج عبد الباري أبو الخير.

وهذا يعني أننا في شعوب لاتسمح لك أن تتجاوز حدودك عن التقليد السائد مثلما قالها محمد الماغوط (لاشاعر عظيم في بلادنا، قيل له لماذا؟ أجاب: أن تكون صادقا، يجب أن تكون حرا، ولكي تكون حراً يجب أن تعيش، ولكي تعيش يجب ان تخرس). القصد من ذلك هناك عبودية في شعوبنا للكثير من الأشياء ومن ضمنها عبودية الماضي والعقل المكتسب والباطن الذي لايمكن الخروج منه، وهذه العبودية من ضمنها عبودية شكل القصيدة ومنبعها وأوزانها وشطريها. وأما معانيها فهي الأهم في شعوبنا مثلما كفّروا بدر شاكر السيّاب لآنه تعرّض للذات الإلهية وأدونيس أيضا الذي حشروه ضمن طائفته الشيعية العلوية الكافرة في نظر الغالبية العظمى يضاف الى فلسفة معانيه في الشعر. العبودية مرض عضال لدينا وحتى عند العبيد أنفسهم فذات يوم سألوا محررة العبيد (هاريت توبمان) التي استطاعت تحرير 700 عبد وقالوا لها ما هو اصعب عمل لديك في هذه المهمة التحررية قالت: أقنع شخصا أنه ليس عبداً. يصعب تحرير الحمقى من الأغلال التي يقدسونها وقد مثلت شخصية هذه المرأة بفيلم عظيم من انتاج 2019 واخراج وتاليف كاسي ليمونز وتمثيل سينيثيا ايريفو وجو الوين، حيث رأيناها كيف كانت شجاعة تتحدى القيود، مثقفة وخطيبة واستطاعت النجاح في الوصول الى ذرى النجاح في مهمتها التحررية الشاقة أنذاك.

لذلك على المرء أو الشاعر أن لايستسلم ابدا للذة الفشل تلك اللذة الخطيرة فلازال الشاعر العربي تراه يتحدث عن رامبو ويستشهد بما قاله عن الحداثة حين يقول: من الضروري أن نكون محدثين بصورة مطلقة. لكن الشاعر العربي هذا نفسه تراه غارقا بالتقليد وينسف ماتحدث به عن رامبو في أشعاره وإبداعه فأي عقلية مزدوجة نملكها نحن. فلابد لنا أن نكافح من أجل الحداثة واشعال ثورة فهي كفاح بين الماضي والمستقبل مثلما فعلاها كل من نجيب والريحاني فكانت الجذور الحقيقية للحداثة وخلخلة للموروث المقفى الموزون، فنحن لسنا في زمن هوميروس حيث كانت الوصفة الطبية تكتب بالكلمات المسجعة المقفاة ليسهل حفظها إذا ما أراد المرء أن يقتنيها من الصيدلي ذو المكان البعيد فاليوم الوسائل عديدة في نقل المعلومة مهما كانت طبية أو غيرها.

تنتقل بنا فصول كتاب النص المفتوح الى قصيدة التفعيلة التي إخترعها بدر شاكر السياب فكانت الحداثة بعينها لكنها حداثة ناقصة لكونها لم تخرج من الوزن والعروض الفراهيدية، بل تطورت الى السطر الشعري وتحويل النص الى وحدة واحدة مع تغيير شكلي وحسب. و لكن أهم مافي قصيدة التفعيلة هي انها أعطت الشعر خاصيته الدرامية والإنتقال بالعقل العربي من المحلية الى العالمية، ومن بعدها جاءت قصيدة النثر لكي تحتل الجدل الأكبر في تأريخ الشعر العربي وماجاء به كل من أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج، والتي إتسمت بالغموض والترميز لأن الشاعر العربي كان خائفا من البطش والتنكيل فيلجأ الى المخفي والمستور في بوحه، لكن الغموض نسف الإبلاغية ولم يرتقِ بالمتلقي الى تفضيل الغموض وحتى أدونيس نفسه إعترف مؤخراً من أنه غير مقروء بسبب غموض قصيدته. لكن تجربة محمد الماغوط كان لها الأثر الكبير لكونها شفافة مريحة مقبولة لدى المتلقي ومستساغة في دورها الإبلاغي. ومهما يكن من أمر أصبحت الدعوات أنذاك الى أنّ القافية والوزن يشوّهان معاني الشعر وغائيته حتى قال يوسف الخال (القافية التقليدية ماتت على صخب الحياة وضجيجها وكما الشاعر الجاهلي الذي أبدع في في شكله الشعري للتعبير عن حياته علينا أيضا أن نبدع شكلنا الشعري للتعبير عن حياتنا التي تختلف عن حياته). كما انّ قصيدة النثر ظهرت في وقت الدعوات الى مشروع قومي طائفي يرفض الإتصال بالغرب ولهذا جوبهت هذه القصيدة وكل دعوات مجلة شعر (أدونيس ـ أنسي الحاج ) بعدم القبول بإعتبارها اتكأت على العقل الغربي المتمثل بـ(سوزان برنارد) وغيرها.

ويستمر عزيز الموسوي الى أن يصل بنا الى كتابة النص التدويري الذي يعتمد على شطر واحد طويل لإكمال المعنى وقد برع في هذا المجال (مظفر النواب) الذي تلائم مع طريقة أدائه وإلقائه للقصيدة على المنابر مما ساعده في أن يحرك مشاعر الجمهور بطريقة إختلفت عن الكثير من الشعراء.

ثم يتطرق الكتاب بشكل مفصّل ويأخذ فصولاً عديدة عن النص المفتوح الذي أطلقه 1958 (أمبرتو إيكو) الذي ينفتح على التأويل الهائل من قبل القاريء والتفسيرات التي لاحدود لها وهذا مايطلق عليه بملء الفراغ من قبل المتلقي فيقول إمبرتو إيكو: أن الإنفتاح يكون من قبل مبادرة خارجية بالفعل التعاضدي بين النص والقاريء المؤوِل الذي يقوم بسد الفراغات التي تشكل عددا لانهائيا من المظاهر. وظهر مفهوم التاويل قديما عند اللاهوت في تفسير النص الديني وكذلك لدينا في تفسير القران حتى ظهرت مرحلة مهمة من التاويل وهي مدرسة الشك بفلاسفتها ماركس ونيتشة وفرويد وغيرهم حيث يكون المعنى متخفياً أوغير معلن. ثم يأخذ ألإنفتاح آليات أخرى ومنها التناص الذي عملت به (جوليا كريستيفا) لآول مرة 1966 الى 1967، وأزاحت اللجام عن البنيوية والتفكيكية فأدى بالتناص أن يتحول الى مصدر للإنفتاح. ثم بعد التناص يأتي التجريب، وهو من أهم سمات مابعد الحداثة، ويكون بها الأديب مغامرا لايقف عند حد معين.

ماورد في الكتاب عن اهم سمات حقل الإنفتاح : النص المقروء والمكتوب، فالنص المقروء يتعلّق في كيفية ايصاله للقاريء، اما المكتوب يتسم لما بعد الحداثة/ ويفرق (رولان بارت) بين النص المقروء والمكتوب: المقروء يجعلك تشعر بالممل اما المكتوب يشعرك بالهيجان والاستنفار. وهناك من يقول أن النص المفتوح هو الإنفتاح الآجناسي على بقية الآجناس، أو الإنفتاح التأويلي الذي يؤول المعنى أو الانفتاح المعرفي الذي يعتمد على معرفة القاريء وثقافته، علاوة على ذلك يرى البعض أن التداخل بين الاجناس الادبية ليس غريبا فكتابات الجاحظ تشمل ما بين الشعر والنثر. اما الانفتاح على مستوى النص وتاويله وتفسير معانيه فقد ذهب اليه عبد القاهرالجرجاني فيقول (المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل اليه بغير واسطة ومعنى المعنى ان تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك المعنى الى معنى اخر)، وايضا انفتاح النص عند قول الامام علي (القرآن حمال أوجه). أما اشكالية موسومية النص المفتوح فمنهم من يقول انه الشعر بعينه أو أنه جامع الاجناس، ومنهم من قال أنه جنس مركب، وغيرها من المسميات. حتى وصلنا الى نهاية كتاب عزيز الموسوي الى الادب الرقمي ووسائل الاتصال الجديدة فحتما يخلق لنا كتابة جديدة وانماط جديدة من التجريب والانفتاح الذي نراه قد أخذ أبعاداً عظيمة هذه الأيام. في كل ماتقدم من عرض واسع وشامل من قبل عزيز الموسوي مفاده: أن الحداثة لم تثبّت أقدامها حتى الآن في الوطن العربي وبقيت خائفة وتمشي عرجاء أو لربما تخفي وجهها بعباءة كي تتحجب عن أنظار الآخرين. لكن ماهو السبب وراء كل ذلك في أننا لانتقبل الحداثة بمافيها سواء على مستوى الأدب أو الحياة بمجملها وبما أننا ندرس حالة الآدب هنا فقط فيتوجب أن نعطي أمثلة عن الحداثة الأدبية لبعض الشعراء وكيف واجهت الكثير من الصعوبات والتكفير من قبل المنظومة الإجتماعية والسلطات القمعية . على سبيل المثال في قول السيّاب الذي إتهم بالتكفير والإستهتار ونال مانال من التقريع بسبب حداثته لآنه قال:

فنحن جميعنا أموات
أنا ومحمد والله
هذا قبرنا أنقاض مئزرةٍ معفرةٍ
عليها يكتب أسم الله

ثم يأتي بعده (أمل دنقل) حين يقول:

شفتاي نبيذ معصور
صدري جنتك الموعودة
وذراعاي وسادة الرب

هذه الأمثلة البسيطة لكل من السياب وأمل دنقل واجهت الصدود من قبل المعنيين بالشأن الأدبي العربي المحمي من قبل سلطات القمع فقالت عنها: أن الإلحاد أو العبث والاستهتار بالأديان والعقائد ومايتصل بهما من عقائد ورموز هو من الإصول الفكرية البارزة في شعر الحداثة لكل من السياب وأمل دنقل.

أما محمد مفتاح الفيتوري قالوا عنه من انه يشك في الأديان جميعها ويعدّها كذبا ولايرى في الكون سوى الإنسان وكإن الله كذبة بالنسبة اليه، لنقرأ الفيتوري أدناه:

وهمٌ بهتانٌ
ليس على الآرض سوى الإنسان
الطاغية العبد الأكبر
ماثمّ إلهٌ يتجبّر
كذبٌ..
ماقالتهُ الأديان ..

ثم يأتي ماقاله بلند الحيدري الذي هو الآخر نال مانال من التقريع حين يقول متشككا في الحياة بعد الموت:

ما أكبر الخسارة إن لم يكُ
خلف الوجود الاّ الفناء

أما كل من أدونيس وعبد الوهاب البياتي قد وظفا قصة (وضاح اليمن) وعلاقته بزوجة الوليد بن عبد الملك، فذات مرة أخفته عن زوجها بصندوق ثم جاء الوليد بعد إن علم بحبيب زوجته وضاح فدفن الصندوق في الآرض ووضع كرسي منبرهِ فوقه. هذه القصة كلاهما وظّفاها كتعبيرٍ للظلم واَلإضطهاد للفرد العربي من قبل الحكام والأفكار والديانات، وبإعتبار أنّ وليد بن عبد الملك أمير المؤمنين فلايجوز التطاول عليه ولهذا نعُت كل منهما بالكفر. لنقرأ أدونيس أدناه بهذا المنحى:

وأُنزلَ الصندوقُ في البئر
مثلك ياوضاح
وكلّ حبٍ يعيش، وكلّ حبٍ يموتُ في صندوق

وكذلك الحال لدى البياتي :
مت ُبصندوقٍ والقيتُ ببئر النيل
مختنقا مات معي السر
ومولاتي على سريرها

وغيرهم من الشعراء الكبار كمحمود درويش وسميح القاسم وسعدي يوسف والقائمة تطول ممن نالوا التكفير لآنهم ركبوا سفينة الحداثة. ومن هذا المنطلق نجد شعوبنا لم تصل الحداثة بما نريدها في شتى الميادين، بل حتى هذا اليوم تراجعت الشعوب وأصابها النكوص وما كتبه العمالقة لم ينفع بشيء. ولهذا قال زياد الرحباني الشاعر والموسيقي المعروف (أرى نفسي لاشيء في هذا المجتمع) بسبب ماوصلته لبنان وبقية البلدان العربية من إقتتال طائفي وحروب لم تتوقف حتى الآن. وكإن هذه الشعوب ينطبق عليها القول (تهيج النار لو نفخت فيها، ولكن أنت تنفخ في رمادِ). فلم( ثرثرة فوق النيل ) المأخوذ من رواية نجيب محفوظ، في نهاية الفلم يقول الممثل عماد حمدي (الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا) يعني أننا لم نفعل شيء وسط هذا العالم العربي الغارق بالخرافات وعلى المثقف التسليم والتسليم لآن الغالبية العظمى هم مع صف الخرافة وأما المثقفون فهم مجرد أعداد وأفراد. وماكتبه طه حسين للإنسان العربي، وماكتبه نزار قباني من شعر للمرأة ذهب هباءاً وسط ظلامية العامة التي لاتتقبل الحداثة ولا التغيير، وكإنهم لم يكتبوا شيئاً أو أن آذان العربي بكماء وعيونه عمياء فلايرى ولايسمع.

بالمختصر: إتهم ادباء الحداثة من قبل سلطة العقل العربي التي لاتريد التغيير من أنهم: يصفون الحياة عبث والوجود عبث ولابد من الحرية المطلقة، والتخلي عن أي ضابط أو قيمٍ أو معايير ، لا إحترام لأي رأس مهما كبيراً، ولاثقة بأي أيديولوجية أو دين وقانون مهما كان مصدره. وهذه إتهامات خطيرة جعلت من الحداثة أن تقف عند حدها حتى يومنا هذا.

سطور أخيرة بحق عزيز حسين الموسوي ..

دكتور في النقد الأدبي، رئيس إتحاد أدباء المثنى، وقد أصدرت له العديد من الكتب ومنها (دراسات في الثقافة والأدب) و(بلاغة الرسائل الأندلسية) و (الفكر النقدي عن سلمى الخضراء الجيوسي) وغيرها. عزيز حديقة جوراسية أثمرت وابلاً من الكلمات والتفاسير، أنه القلب العاشق والهائم في تيه اللغة وسحر النعوت، له القدرة في العزف بالكلمات والشروحات والتوضيح بالتفصيل المبهر لا الممل وقد فعلها وأنتج لنا هذا الكتاب المرجع في النقد بل هو تأريخ النقد العربي مع الإشارات الكثيرة للنقد الغربي. إستطاع عزيز أن يوضح كيفية الصراع الدائم عند العقل العربي والمتمثل في عدم قبوله للتفكير الغربي وحداثته، أو عدم قبوله المتأتي من غير المسلم، في حين أننا نجد على المستوى العراقي أن كل الذين أثروا الفن العراقي في مجال الموسيقى والغناء هم كل من صالح الكويتي الملحن المعروف فهو يهودي الجنسية والذي غادر العراق مرغما الى اسرائيل، ثم عفيفة إسكندر مسيحية والمطربة سليمة مراد يهودية أيضا والتي تحدّت كل أصناف الضغوطات كي تغادر العراق لكنها بقيت في بغداد حتى مماتها في السبعينيات لحبها الشديد للعراق. عزيز الموسوي هو ذلك الحالم في أن يكون ذات يوم ذو شأن في عالم الادب الأليم لا في عالم الترافة والضياع ولم لا فالحلم من هذا النوع أرّق الكثيرين حتى وصلوا الى ذرى المجد ومن طلب العلى سهر الليالي، وهذا الحلم تناوله الفيلم الجميل من تمثيل (جيرمي أيرون) البارع في تجسيد الشخصيات الأدبية حيث كان يحلم في أن يكون كاتبا وفعلها لكنه في الطريق لطباعة كتابه حصل حادث في القطار الصاعد به الى المكان الذي يريده لغرض طباعته، مما أدى الى فقدان كتابه وبعد مضي العديد من السنوات وبعد ان أصبح شيخا وجد كتابه مطبوعا بأسم أخر، ويطارده ويجده حتى يحصل على مبتغاه الأخير. هذا هو الحلم في كيفية أن يكون المرء كاتبا أو أديبا. عزيز له من الإراردة العميقة في البحث عن حب الإبداع والإصرار على الإنجاز وهو في هذا العمر الزهري المشع فلابد له أن يسطع فينير ظلال الكلمة على أكثر من مفصل ومفصل. عزيز في هذا الكتاب عبارة عن شروحات وادبيات بليغة وجمالات من الكلمات والإقتباسات التي تسر النفس وكلها تعطي إنطباعا بثقافة من كتبها وموسوعيته الفائقة. في النهاية أقول: أن عزيز الموسوي صانع الجمال وعلى غرار ماقاله الجواهري (لو كنت أملك جبلاً من ذهب لآنفقته على الجمال). لم يترك لنا عزيز أي شيء حتى ذكره. ولكم تمنيتُ أن يتحدث عن الشعر الغنائي الوجداني لما له الأثر الكبير عالميا ومحلياً في رسم الحداثة فيقول مظفر النواب ( قبلة لكل شاعر يجمع الناس ويطرد الهواء الفاسد ويغني). ثم الشاعر اليوناني (يانيس ريتسوس) في قصيدته ( أغنية شقيقتي) حيث المرثاة المرّة التي ينوح بها الشاعر على إختلال عقل أخته النهائي مما أثار هذا روح الإبداع لدى (الشاعر بالاماس) في أن يكتب رباعيته المهداة الى ريتسوس ثم يقول قولته الشهيرة (نتنحى أيها الشاعر الكبير، كي تمر أنت). الشعر الغنائي أو الاوبرالي أعطانا الفلم الجميل (البؤساء) رائعة فكتور هيجو، فلم موسيقي غنائي درامي تمثيل هيو جاكمان، رسل كرو، آن هاثاواي إنتاج 2012 كتب السيناريو ويليام نيكلسون وقد حاز على الكثير من جوائز الأوسكار. ايضا الشعر الغنائي يعطينا الأغاني الثورية التي أنشدها العديد من الثوريين والوطنيين امثال (بوب مارل ) أو مؤسس فرقة البيتلزالشاعر والمغني والملحن (جون لينون) والذي قتلته المخابرات الآمريكية لوقوفه ضد الظلم والجوع والكولونيالية. ويبقى عزيز الموسوي كاتبا ناقدا قادرا على منحنا قابلية التذكر لتأخذ الأشياء مكانها الحقيقي، قادرا على منحنا الذاكرة كي نحصل على زهور الإبداع في كانون الأول، قادراً على خلق المتعة والمغامرة وتحدّي الشكل والتقنين، وعلى تحويل أنفسنا مع العالم في ظل الحداثة التي تخترق حدود الجغرافية والأمم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى