عصافير الوطن الصغير
عودتنا الجدة قبل أن ننام على سرد واحدة من حكاياتها الجميلة الآسرة.. وحتى هذا الزمان، لا اعرف فعلا أكانت الجدة تخترع قصصها أم تحكي عن شيء واقع، وربما عما سمعته من غيرها.. كل ما كان يهمنا أن نسمع ونستمتع وروي ظمأنا لهذه الحكايات التي تطير بجناحين رائعين من خيال وجمال.. لكن ماذا عن قصة «عصافير الوطن الصغير؟»؟..
قالت الجدة نجلاء، بعد أن بسملت وصلت على النبي..
اسمعوا يا أولادي وانتبهوا جيدا..فهذه القصة تحمل الكثير.. لا تنظروا إلى ظاهرها فقط، بل فكروا بما تحمل..
هززنا رؤوسنا موافقين..
قالت: كان يا ما كان في مدينتنا حيفا شجرة قريبة من البيت، شجرة تكاد تصل أغصانها إلى السماء، أو هكذا كان يتخيل من ينظر إليها.. في بداية الأمر كانت أغصان الشجرة يابسة جافة.. يومها قال جدكم يونس: لماذا لا نقطع هذه الشجرة ونستريح ؟؟.. هي شجرة شبه ميتة لا قيمة لها..
قلت: كما تريد يا أبا نور..
قال: غدا صباحا سأطلب من جارنا الحطاب أن يزيلها.. ربما زرعنا بدلا عنها شجرة جديدة..
في الصباح، وقبل أن يستيقظ الجميع، فتحت باب الدار، ونظرت على الشجرة نظرة وداع. لكن قبل أن أغلق الباب سمعت زقزقة آتية من الشجرة.. قلت: بسم الله الرحمن الرحيم.. من أين أتى هذا الصوت ؟؟.. وحين دققت النظر، وجدت عصفورين قد بنيا عشا في ركن من أركان الشجرة.. تعجبت فعلا يا أولاد.. فمن غير الممكن أن تضيق الدنيا بهذين العصفورين ولا يجدان إلا هذه الشجرة.. لكن سبحان الله.. لم يجد العصفوران مكانا أنسب.. وهذا يعني أن مسألة قطع الشجرة قد تأجل..
أقول لكم الصدق يا أحبابي كنت فرحة بيني وبين نفسي، فأنا تعودت على وجود هذه الشجرة أمام بيتنا في حيفا وعايشتها مدة طويلة.. المهم أخبرت جدكم يونس.. فقال:" له حكمة في ذلك سبحان الله.. سنتركها حتى يهجرها العصفوران "..
ذهب جدكم أبو نور إلى الجامع القريب من البيت كعادته كل صباح.. وهو الجامع الذي كان إماما له في حيفا.. وعندما عاد سألني مازحا: ماذا عن العصفورين يا أمّ نور ؟؟..
قلت: لا جديد.. لكنني ألاحظ أن العصفورين يقومان باستكمال بناء عشهما..
مضت أيام.. أيام قليلة.. وضعت العصفورة بيضتين وصارت لا تفارقهما.. وعندما خرج من كل بيضة فرخ ضعيف لا يقوى على الوقوف.. كانت تسليتي اليومية أن أراقبهما.. وبطبيعة الحال كانت الأم بمساعدة العصفور الأب تطعمهما وتعتني بهما.. هل هي قصة جميلة؟؟..
صحنا بصوت واحد: جميلة.. لكن ما الجديد في كل هذا.. قصة سمعنا مثلها ألف مرة.. ؟؟..
ضحكت جدتنا أم نور وقالت: هذا صحيح يا أحبابي ولا لوم عليكم فمثل هذه القصة تحدث كثيرا.. لكن هناك جديد..
قلنا: وما هو يا جدتنا ؟؟..
أجابت: قلت لكم منذ البداية إن الشجرة كانت يابسة وجافة ولا حياة فيها..
قلنا معا: نعم وعندما يكبر الفرخان ويغادران الشجرة سيعود الجد لقطع الشجرة.. فما هو الجديد ؟؟..
صمتت الجدة قليلا ثم قالت: بالنسبة للعصافير صارت الشجرة وطنا.. وأحبوها.. وكل منا يحب وطنه.. هذا الحب صنع شيئا ما كان يخطر على البال..
صحنا: بالله عليك يا جدتنا ماذا حدث ؟..
ضحكت الجدة وقالت: الشجرة أحبت أيضا العصافير وبادلتهم الشعور الجميل فأخذت شيئا فشيئا تعود لرونقها واخضرارها وجمالها..
قلنا بدهشة: ماذا ؟؟.. هل تسخرين منا يا جدتنا ؟؟..
قالت: ولماذا أسخر يا أحبابي فعلا هذا ما حدث وصارت هذه الشجرة التي كانت جافة يابسة شبه ميتة أجمل الشجار وأحلاها، بل صارت محط الأنظار.. والغريب أن الفرخان لم يهجرا شجرتهما هذه عندما كبرا.. كذلك الأب والأم.. وكأنهم اتفقوا على أنّ هذا الوطن الصغير الجميل.. لا يمكن أن يهجر.. ألستم معي ؟؟..
صحنا بصوت واحد: معك يا جدتنا معك.. وما أجملها من قصة..