علاقات الصفاء بين الأدباء
• قال أبو تمام وهو يصف عمق العلاقة الأدبية مع علي بن الجهم :
إن يكدِ مطّرف الإخاء فإننا
نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا
عذب تحدّر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
تذكرت هذه الأبيات بعد أن التقيت في عمان شعراء فلسطنيين متميزين ... تيسر لنا - يومها - أنا والصديق المرحوم نواف عبد حسن أن نساهرهم – نسامر إخوان صفاء ووفاء، يجمعهم الشعر ، و أحيانًا ما لا تنزل الأحزان ساحته.. كانوا يتناقشون ويتلون أشعار بعضهم البعض... لم ألاحظ أحدًا منهم يتربص بقرينه ليوقع به أو يناكفه ، لم أجد مسًا أو تعريضًا من هذا بذاك. لم أجد إلا مداعبات ومساجلات .
وإذا كان المظهر يخدعنا أحيانًـا فإن الشعر والكأس ولحظة الغضب تعكس المعدن الحقيقي، ويُعلم بحقيقة الطبع ، حتى وإن خاله الفرد يخفى على الناس .
في أشعارهم ودواوينهم ألفيت ظاهرة حميدة لا أكاد أجد لها مثيلا ، وتتمثل في هذه التحيات المتبادلة والقصائد المهداة من الواحد للآخر .
في مثل هذه المهاداة يكتب زهير أبو شايب قصيدة (ظل) إلى يوسف أبو لوز، ويصفه فيها:
" يمضي قميصه الندى " ثم يقول:
" صلى عليه ظله وسلم
وعندما يعود في المساء مثقلا
يتابع النزيف
أبو شايب يعرف مدى معاناة يوسف ونزفه ، يوسف هذا الثوراني المستفيق حتى في لحظات السَّورة .
أما أبو لوز فيهدي قصيدة " عامل حانة " إلى زهير، يقول فيها إن ثمة عابرين كثيرين مروا على حانته ، تركوا صمتهم وعناوينهم
" وأنا كم هرمت
بينما
لم تشب هذه الخمر
حيث الأواني تشيب
وكل سكاراي شابوا "
ونلاحظ أن الفعل " شاب " متعمد هنا، كما نلاحظ هذه العراقة في العلاقة.
ولو عدنا إلى زهير ثانية لرأيناه يهدي قصيدته ( أحوال يوسف ) " إلى الجميل يوسف عبد العزيز " ، وبالطبع نجد هنا مدى هذا الحب الأخوي في الوصف. تمتد القصيدة على خمسة مقاطع تتناول سفر يوسف إلى بيروت ، وضياع الفلسطيني فيها ، وتتناص القصيدة قرآنيًا ، حيث تومئ إلى إخوة يوسف- الأشقاء العرب، وتلتقي وفدوى طوقان في قولها :
" لكنما الرياح في هبوبها
تقول حاذري إخوتك السبعة" " قصيدة نبوءة العرافة " فدوى طوقان، الأعمال الكاملة، ص461
يرى أبو شايب عذابات يوسف المعاصر – صديقه ، فيقول عنه:
" ويوسف الطاعن في الزعتر
كالنذر
ما زال في رحلته
يقرأ سفر الماء
من أول الدفتر
من أول النار الصليبية "
( دفتر الأحوا ل ، ص87-95)
غير أن يوسف أبو لوز في قصيدته إلى سميِِّـهِ ، وهي بعنوان " الصديق " يصف هدوءه وطباعه ، فيقول :
" ليس من بين عاداته الخمس
أن يتأخر
ليس من بين عاداته
أن يمر على منزل الشمس دون سلام "
( ضجر الذئب، ص68)
إذن هو صدّيق- تناص قرآني آخر .
وينهي أبو لوز قصيدته العذبة بقوله : " قف قليلا إلى جانبي يا معلم ". لاحظوا معي هذا التواضع " يا معلم " !! .
لن أسترسل في هذه المطارحة أو المهاداة ، ولن أتحدث عن تظهير الكتب و تصديرها، حيث نجد كتاب الشاعر محمد لافي نموذجًا حيًا لمثل هذه المشاركات في " الإخاء التالد ".
( انظر كتاب لافي- مقفى الرماة، المقدمات وكذلك ص36، 85..)
هذا الحب الأصيل أين منه بعض أدبائنا ؟ أعني أولئك الذين إذا هيئ لهم لقاء صحفي أو إعلامي فإنهم يحسنون عملية التجاهل والتعتيم على الآخرين ، يجازون، ويماحكون، ويتجاهلون وينكرون ، ويكابرون...
ولي عتاب في هذا السياق آن أوان الإفصاح عنه :
سبق أن أهديت الصديق طه محمد علي قصيدتي " مقابل مطبعة الحكيم " ( قبلة بعد الفراق، ص56) فرد علي طه بقصيدة " كلام إلى الدكتور فاروق " نشرها في مجلة الآداب ( الناصرة ، تشرين الثاني 1988 ) وقد صدرها بما يلي :
" منحتني سنبلة وأهديك حبة قمح ، وعلى قدر أهل العزم ، فإذا بلغتك دون أن يتلقفها النمل في الطريق ، فلتقدم لك تحياتي واغتباطي بما كتبت، ولتنقل لك أيضًا اعتقادي أنك صعبت علي الكتابة "
والعجيب أن العزيز أبا نزار عندما أصدر ديوانه " ضحك على ذقون القتلة "- 1989- جعل القصيدة عينها تحت عنوان " كلام " ، وضحك على ذقني ، حيث غبت أنا والتصدير بعون الله القدير .
وتحيات حب لأبي نزار رغم كل ذلك .
باقة الغربية - فلسطين