الثلاثاء ١٩ تموز (يوليو) ٢٠٢٢
بقلم لبنى محمود ياسين

عن دياز ونباتاتها الجميلة

دياز صبية صغيرة في الرابعة عشر من عمرها، تقطن مع أهلها في منزل يقع خلف منزلي في هولندا، منذ سنتين وحتى اليوم اعتدت أن أشتري بعضا من نباتات الزينة، أو الخضروات المزروعة من منضدة تضعها خارج بيتها، على يسار تلك الطاولة علقت دياز ورقة عليها باركود إن شئت أن تدفع ثمن مشترياتك عن طريق البنك، وعن يمينها أنبوب طويل يصل إلى حديقة المنزل لتضع فيه سعر النبات إن شئت أن تتعامل بالنقود، انتظرتها أياماً حتى صادفتها لأحاورها سائلة إياها عن مشروعها الصغير الذي يقوم بخدمة الحي بكامله، وكان سؤالي الأول عن بداية هذا المشروع، وكيف خطرت لها فكرة البيع بهذه الطريقة، فأجابتني إنها كانت تساعد أباها في الزراعة، وكانا معتادين على البيع في عيد الملك، "وهو مناسبة وطنية في هولندا، يخرج فيها الناس منذ الصباح الباكر، ويبيعون ما يرغبون في بيعه من حاجياتهم المستعملة، أو الجديدة، أو منتجاتهم على اختلافها، ثم يحتفلون منذ العصر وحتى آخر الليل".

أكملت دياز: عندما اجتاحت كورونا البلاد كانت ووالدها قد أستنبتا الكثير من النباتات لبيعها في عيد الملك، إلا إن ظروف كورونا والاغلاق الذي صاحبها، ومنع التجمعات بما فيها الاحتفال بعيد الملك منعهما من البيع أثناء عيد الملك، وكانت النباتات المعدة للبيع في ذلك اليوم كثيرة، لا تتسع لها حديقة المنزل، فما كان منها إلا أن وضعت طاولة، ورفوفاً خشبية خارج المنزل، ووضعت فوقها أصص النباتات، وأسعارها، وصنعت متجرها الصغير الذي يشتري منه كل سكان الحي نباتات صغيرة.

سألتها عن معلوماتها عن الزراعة، فأجابتني بأنها منذ الثالثة من عمرها تساعد أباها في الزراعة في أرض يملكونها، ولذلك لديها معلومات حول الزراعة بشكل عام، وعندما تقوم بجلب نبات جديد تريد أن تستنبته لتبيعه، تقوم بعمل بحث حوله في الانترنت للحصول على معلومات كاملة عنه.

وعن مكان مخصص لكل تلك النباتات، أخبرتني أن لديها غرفة في حديقة المنزل الخلفية تضعهم فيها ليلاً، وهذه الغرفة مخصصة للزراعة.

سألتها عن تأثير هذا العمل على دراستها: فقالت بأن الأعمال التي تستهلك وقتاً طويلاً تقوم بها في نهاية الأسبوع فقط حيث تكون قد أنهت واجباتها، أما في أيام الدراسة، فهي تقوم بأعمال صغيرة، وتتفقد نباتاتها فحسب، وهي تستيقظ يومياً مبكراً جداً لتفقد النباتات، والاعتناء بها قبل الذهاب إلى المدرسة، ويقوم والدها ووالدتها بمساعدتها في رعاية النباتات أثناء الأيام الدراسية، وعندما يكون العمل أكبر من طاقتها.

وعن تطوير مشروعها، أجابت بأنها لن تقوم بتوسيعه لأنه حينها سيكون كبيراً جداً لا تستطيع القيام به إلى جانب الدراسة، وقد قررت بشكل مسبق أنها ستقوم بهذا العمل لسنتين قادمتين فقط، بعدها ستكون مشغولة أكثر بدراستها للتحضير للجامعة، ومن ثم ستكون مشغولة بالدراسة الجامعية، وقد لا يسمح لها الوقت بالانشغال بمشروعها الصغير، ذلك أنها تنوي أن تصبح طبيبة جراحة، وهذا سيستهلك جل وقتها ، ولن يترك وقتا لرعاية النباتات.

وأضافت في نهاية المقابلة أن ما يسعدها حقاً في استنبات النباتات، سواء كانت للزينةـ أو للأكل، هو أن تُري الناس كيف تنمو النباتات يوماً بعد يوم، وتضيف قائلة : "عندما كنت صغيرة كان بعض الصبيان في مدرستي يظنون أن الخيار يوجد في السوبر ماركت فقط، ولا يعرفون أنه نبات تتم زراعته، حتى جاء أبي ومعه شجيرة الخيار إلى المدرسة، وأراهم كيف أن الخيار هو نبات وكيف يزهر، وكيف تتحول الزهرة إلى ثمرة، وفي الآخر كيف يقطف من شجيرته.

كان الأولاد في غاية الدهشة، يصرخون: يا إلهي، لم نكن نعرف ذلك، هذا مدهش". والكلام هنا لدياز.

انتهى اللقاء القصير مع الطفلة صاحبة مشروع بيع النباتات المثمرة، ونباتات الزينة بالتحية والسلام، بعد أن أعربت لها عن إعجابي بما تقوم به، وبالتزامها المضني بتلك المسؤولية التي أخذتها على عاتقها، وبقيت أفكر كيف أننا نعامل أطفالنا في الرابعة عشر على أنهم عاجزون حتى عن خدمة أنفسهم، وأي نضج نسمح لهم به إن بقينا نتعامل معهم بطريقتنا هذه، وأن الانسان يستطيع أن يتعلم الالتزام في سن مبكرة كما كان يفعل أجدادنا، وكيف أن طفلة في الرابعة عشر من عمرها تملك من الحكمة والواقعية ما يجعلها تدرك أين ومتى تتوقف لتتفرغ لمستقبلها وأحلامها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى