الاثنين ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم سامر مسعود

عيد ميلاد جديد واكتشاف مكابدات جديدة

تقودك الخطوات كالعادة إلى غرفة الدرس، تنظر إلى ملامح البهجة ترتسم على وجوه طلبتك، فبعد يومين سيتحلل الطلبة من الإلتزامات الدراسية الروتينية، وسينعمون بعطلة ميلاد طويلة نسبيا مع من يحبون. تفكر هنيهات، ثم تختار موضوع درسك من ملامح الوجوه المقابلة.

تمر في ذاكرتك ملامح المدينة شأنها شأن معظم المدن والبلدات، حيث تبدأ الاستعدادات لهذه المناسبة قبل شهر أو أكثر، وتتخذ هذه الاستعدادات مظاهر متعددة تطل عليك من كل زاوية؛ تتزين أشجار الشوارع وواجهات المحال التجارية بأضواء ملونة تتخذ أشكالا مختلفة كالغزلان والدببة وبلورات الثلج... بالإضافة إلى الدمى المتفاوتة الأحجام والألوان، وكلها تبشر باحتفالية المناسبة، وتشوق الناس للاستمتاع بها. أما البيوت الخاصة فتتحول إلى متاحف من ضوء تضيء الأحياء ببهجة الفرحة، وعندما تفكر بتكاليف هذه الزينة، ترعبك الأرقام.

تستوقفك هذه المظاهر، وتتذكر شعبك المذبوح في أقاصي الأرض، تتذكر أطفالا رفّ عليهم شيطان الموت ليجوعوا، وشبابا تغربوا وهم في أوطانهم، تمر عليهم المناسبات كالحة، تذكرهم بألم الجرح بدلا من إشغال أنفسهم بما هو مفرح.

يسألك أحد الطلبة: هل تحتفلون بفلسطين بعيد الميلاد؟ تنظر إلى السائل، تحاول أن تقرأ دافعه لطرح مثل هذا السؤال، تجيبه دفاعا عن وجودك: أن تكون فلسطينيا يقتضي منك بالضرورة أن تكون مسيحيا ومسلما ويهوديا، وهذا ليس ترفا فكريا كما يطرحه دعاة العولمة لأسبابهم الخاصة، ولكن الحالة الفلسطينية حالة تاريخية تبلورت عبر مئات بل آلاف السنين.

عذرا صديقي الطالب، فسؤالك خطأ، ويظهر جهلك الكبير، كان الأحرى بك أن تسأل: هل يحتفل في هذه البلاد بعيد الميلاد كما يحتفل بها في فلسطين؟؟ وإجابتي على هذا التساؤل موجعة، وتحتاج إلى وعي وتركيز، وشيء من الموضوعية والحيادية لفهمها؛ فحتى يتسنى إضاءة شجرة عيد الميلاد في غرفتك، لابد من قطع الكهرباء عن نصف شعب، وحتى توفر هدية تعبر عن انسانيتك ولطفك، لابد أن تحرم شعبا بكامله من خبزه وقوته، وحتى تستمع إلى تراتيل عيد الميلاد عليك أن ترعب شعبا أعزل بأصوات المدافع وقصف الطائرات، وحتى تتمكن من قضاء عطلة عيد الميلاد في رحلة هادئة وآمنة، عليك أولا أن تتأكد من محاصرة شعب بكامله.

تساءل أحدهم: إذن لا توجد احتفالات بفلسطين كما نحتفل بها هنا؟

 منذ عشرات السنين ونحن نحاول أن نحتفل، ولكن القدر شاء أن نكون في الجهة المقابلة؛ الجهة التي تدفع لمن يحتفل.
 لابد أنكم أغنياء إذن؟
 هذا صحيح، نحن أغنياء بلا مال، ومحتفلون بلا احتفالات، وموجودون بلا مكان، ومقاتلون بلا سلاح، ومقتولون بلا دماء، وغائبون في الحضور، وحاضرون في الغياب، نحن فلسطينيون في الغربة، وغرباء في فلسطين، باختصار نحن فلسطينيون.
 لم أفهم ما تقول.
 اقرأني فستفهم، وانظر إليّ فستراني.
 هل تريد أن تقول أن الفلسطينيين متناقضون؟
 الفلسطينيون متناقضون في الانسجام، ومنسجمون في التناقض أيضا، نحن الفلسطينيين نحن.
 هل تهاجم شعبك؟
 هل تقاتل ظلك؟!!
 لم أفهم، ماذا تحاول أن تقول؟
 مللت المحاولة في القول، أصبح القول مهنة منذ عقود، ولكنك تصر على استعارة أذن ثالثة لتسمع.، استعن بأذنيك للفهم، كما أفعل، وحذار من استعارة أذن صديقك...

يربكك بكاء طالبة لم تناهز العشرين، تسألها: ما الذي يبكيك؟ تجيب بكلام متقطع: في كل عيد ميلاد أتذكر وحدتي وعزلتي، ليس لي أسرة أو أصدقاء، ليس لي صديق أو قريب يقدم لي هدية عيد الميلاد في الصباح الباكر... لحظات صعبة تشعرني بغربتي وانفصالي عن المكان.

 هناك في أقصى الأرض، يشاركونك هذه المشاعر فأنت لست وحيدة كما تدعين، وأنت فتاة محظوظة لم يصل ظهرك إلى الجدار بعد، أما هناك فهم معزولون، تواقون إلى الحرية التي تنعمين بها، وإلى الخبز والثياب، وإلى الأمن والسلام. مطالبك هنا تتحول إلى رفاهية بعيدة المنال هناك. ألم أقل لك أنك محظوظة؟!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى