الاثنين ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم جليلة بنت معلام

غدا عندما تشرق الشمس

يتلمس طريقه في الظلام الحالك، وهو يتذكر كم مر بهذا الطريق أياما وليالي. ينحني عند بعض المنعطفات ليلمس هذه النبتة أو يتعرف على ذلك الحجر، ومع كل انحناءة يستنشق بمليء رئتيه عبير أرض افتقدها وافتقدته . ثمة شعور طاغ يغمره ويكاد يجعله يقفز صارخا: إنني أسلك الطريق الصحيح لأول مرة. إن كل الطرق والدروب التي مررت بها في الماضي القريب لم تقدني إلا إلى التيه والضياع ... وسط هذا الظلام الحالك الذي يلفه يحس أن دفئا عاطفيا وشعورا خالصا بالمودة والتصالح قد بدأ يسري بينه وبين هذه الأرض الحبيبة، التي لا يميز ملامحها من شدة الظلام لكنها تعرفه وهو يعرفها منذ كان يافعا.

***
يصل محمود إلى مجموعة من الأعرشة القائمة فوق تلة رملية صغيرة يغطيها السكون، ويلفها الظلام الدامس . ويتجه نحو العريش الأقرب. يبدو المكان خاليا للوهلة الأولى لكن المظاهر خادعة. يلقي السلام، فيرد عليه بشكل فوري من صوت نسائي يبدو من نبراته أن الكرى قد بدأ يداعب أجفانه. تعود به الذاكرة قليلا إلى الوراء، فهو يعرف لمن هذا العريش ومن صاحبة هذا الصوت، إن العريش هو عريش خديجة والصوت هو صوتها، من جديد يتردد الصوت بثقة أكبر :

  أليس هذا صوت أخي محمود ؟
  بلى أو ليست المتحدثة هي أختي خديجة ؟
قفزت المرأة خارج العريش وطوقته بذراعين قويتين، ومن فمها خرج صوت قوي يمثل هجينا من البكاء والصراخ والزغردة، وفجأة وجد نفسه وسط عاطفة من الحنان والمشاعر الدافقة التي افتقدها منذ سنوات، تدب الحياة في العريش فجأة، فيخرج صغار شبه عراة. من الأعرشة المجاورة ترتفع الأصوات وتتحرك أشباح أشخاص عديدين نحو عريش خديجة ونحو محمود المطوق بذراعين قويتين. ينسى محمود نفسه لبرهة ولا يتذكر إلا أنه بين ذراعي أخته وان دمعها الساخن على وجهه وصوتها المختنق وجلبة الجارات والأقارب ورائحة الأرض وأشباح الأعرشة التي يلفها الظلام كلها تذكره بأنه عاد .

لا يدري كم دامت لحظة اللقاء تلك، لكنه لا يزال أسيرا لتلك اللحظة . تفاصيلها تذكره بمرارة كم كان عنيدا، كم كان أنانيا، وكم ركب رأسه دون أن يعي حجم المرارة والمأساة للتين سيتسبب فيهما لمن حوله من الأحبة . يفيق من جديد على أصوات بكاء ونحيب وصراخ فيميز من بينها - عدا صوت المرأة التي لا تزال تطوقه بذراعيها- صوت خالته وبنات خالته وقريبات وجارات، فكان كمن فتح عينيه على نور الحياة، وكانوا هم ضمن ملامح الصورة التي شاهد وأبصر .

لم تعد الأعرشة المتجمعة فوق التلة الصغيرة تبدو مهجورة وخالية كما بدت قبل لحظات ، فمع جلبة الأصوات بدأت الحركة وبدأت الحياة تستعيد وجودها وفجأة ارتفع صوت عجوز من المحلقات بمحمود لتقول أمرا :

  لكنكم تقتلون محمود دعوه يجلس ويرتاح .
تراخت قبضة خديجة من حول عنق محمود، لكن صوتها المختنق ودموعها الحارة التي لا تزال تبلل وجهه، كلها شواهد تؤكد لها أنه قد عاد .

سارعت إحدى النسوة فبسطت حصيرا ورمت عليه بعض المخدات، أسرعت أخرى فأضرمت النار في كومة من أعواد الحطب الموجود أمام العريش، وعلى لهيب عيدان الحطب الملتهبة بدأ محمود يرى لأول مرة وجوه المحلقين من حوله بعد طول فراق . لم يكن الكل من النساء إنما كان هناك رجال بدأوا يقتربون ويحيون القادم الجديد مصافحين أو معانقين، بعد أن بدأت الحلقة النسائية تنفك من حوله. أحد هؤلاء الرجال شد محمودا من وقفته بلباقة وأجلسه على الحصير المعد سلفا، فجلس الحاضرون القريبون منه بشكل تلقائي، بينما انحنى الحضور البعيد مشكلا حلقة ثانية، في حين ظل الجمهور الأبعد واقفا مشكلا دائرة أوسع حول الحلقات التي يمثل محمود مركزها.

انهالت الأسئلة عليه كالسهام، بدا أنها لا تنتظر إجابات إنما كانت سياطا تجلد جسمه :

  أين كنت طوال كل هذه السنين ؟
  لِم لَم تأتي عندما توفي والدك ؟
  وعندما توفيت والدتك ؟ ميز صوت خالته مبروكة.
  هل كنت على إطلاع بأخبار أهلك طول هذه المدة ؟
  من أتى معك ؟ بأي وسيلة أتيت ؟ أين متاعك؟
تنحنح محمود وحار من أين يبدأ . وأخيرا اختار أن يبدأ الإجابة على الأسئلة من حيث انتهت، فلعلها الأسئلة الأقل حرجا :
- لم يأت معي أحد , و قد نزلت من سيارة نقل عمومي على الطريق البعيد و قطعت باقي المسافة راجلا، لم أجلب معي متاعا، لا أريد شايا أو طعاما إنما نوما عميقا . في الصباح سأشبع فضولكم بالإجابة على كل أسئلتكم. ثم بدأت يداه تبحثان عن مخدة ليضعها تحت رأسه محاولا إقناع الحضور بالأفعال مع الكلام.

- دعوا محمود حتى الصباح . دعوه ينام . عودوا إلى أعرشتكم, وأنت يا خديجة اجلبي لحافا وغطيه به، و لننتظر الصباح . كان لصوت هذه العجوز التي غطت التجاعيد وجهها مفعول السحر، فإذا بالحلقات من حول محمود تتفكك، و إذا بالرجال و النساء يعودون بصمت وهدوء عجيبين إلى أعرشتهم . وفى لحظات لم يبقى من حول محمود سوى أخته خديجة واقفة حائرة لا تدرى ما تفعل. لكنها في الأخير انحنت على الأخ المستلقي على الحصير والمتلفع باللحاف:

  حمدا لله على عودتك يا أخي، فأنا وعريش أهلك وحقلك نفتقدك ونحتاج إليك. نم في رعاية الله وحفظه، ثم استدارت نحو عريشها وفي طريقها إليه حثت حفنة تراب على النار التي بدأت توشك على الانطفاء، ودخلت عريشها وساد الصمت.

***

هل يلامس الكرى هذه الأجفان المسهدة ؟ وهل يرحم النوم هذا القلب المعذب؟ آوى الناس إلى مضاجعهم يا محمود وجنبوك سياط أسئلتهم المحرجة ولو إلي حين . لكن الذكرى تأبى أن تتركك وشأنك . تغمض عينيك تحاول أن لا تفكر . أن تكون في اللازمان اللامكان . تشد اللحاف عليك . تحاول أن تكون في عريشك لا في تلك المدينة البعيدة . لكن عبثا تحاول، فالذكرى تهاجمك، والمشكلة أنها تستمد قوتها من الظلام الحالك ومن عبير الأرض التي كنت بعيدا عنها كل هذه السنين، فتصبح جبالا من الهم تجثم علي صدرك المتعب، فلتطلق لها العنان،علها أخيرا تريحك وتترك قلبك المعذب يهدأ ولو إلى حين .

نعم ! تتذكر يا محمود يوم كنت في الحقل قبل5 سنوات تلامس يداك بحنان سنابل الذرة الناضجة، تفكر في يوم الحصاد القريب وفي ما ستخزنه أسرتك من محصول وفير،يرد عنها غائلة الجوع ، وما ستبيعه أنت في السوق الأسبوعية من فائض ذلك المحصول لتشتري منه لباسا وأدوات لك ولباقي أسرتك . كان والداك قد غادرا الحقل قبل ساعة،أما أنت فقد أصررت علي البقاء حتى تهدأ حركة المواشي وتأوي الطيور إلي أعشاشها . في خلوتك السعيدة تلك وفي فكرك الهني ذاك يطرق سمعك صوت مختار رفيق الصبا،الذي سافر منذ سنين إلي المدينة وعاد يرتدي ثيابا جديدة ويحمل مذياعا في يده ويتفوه أحيانا بكلمات غريبة علي سمعك،والأكثر من ذلك لا ينفك يحدثك عن المشاهد العجيبة والغريبة التي رآها وسمع بها في المدينة البعيدة ثم يعود متلفعا برداء النصيحة ليقول لك :

- أخرج يا محمود من هذا الوسط الضيق الخامل وشاهد ما شاهدت وعش ما عشت !

صوت مختار أثار في قلبك شعورا بالفرح والخوف معا،فقلبك لاشك سيطرب لما سيذكره من صور ومشاهد لكن عقلك يحزن عندما يدعوك إلي ترك ريفك الحبيب والسير في ركابه .
في حمرة مغيب الشمس القانية تتذكر كيف جلس مختار بالقرب منك علي التلة الصغيرة التي كنت تراقب منها المواشي الهائمة وتكافح منها الطيور المغيرة علي حقلكم ، ثم خفض صوت مذياعه دون أن يغلقه وبدأ الحديث :
  لا بد أن فكرك مشغول ببيع الذرة في السوق الموسمية . أليس كذلك ؟
  بلى! وعلي أن أتفق مع الآخرين حول ثمن البيع قبل الذهاب إلي السوق .
  قل لي بكم تقدر ما تحصل عليه من بيع محصولك ؟
وددت أن تبالغ كاذبا لكن فطرتك خانتك ، فخرجت الإجابة رغما عنك :
  مابين 000 10 أوقية إلي 000 12 أوقية .

أطلق مختار ضحكة مجلجلة دامت دقائق جعلتك تنظر إليه مستغربا ، وبعد أن هدأ قليلا عاد إلى مذياعه ذي الأزرار الحمراء المتألقة فأغلقه. ثم أخرج من جيبه علبة سيجارة ذات ألوان لامعة مع ولاعة اسطوانية الشكل، فأشعل سيجارة بدأ ينفث دخانها في الهواء من حولك ثم يبتسم محدقا في وجهك من وراء دوائر الدخان المتصاعد. لماذا يضحك منك ؟ هل يسخر منك؟ هل قلت ما يثير قهقهته؟

  دعنا نعود إلى الأعرشة ونتحدث في الطريق. قال مختار بعد برهة.
في طريقهم إلى أعرشة الحي شرح لك مختار أن هذا المبلغ الذي ستبيع به حصاد عام كامل لا يمثل نصف راتب أحد العاملين في المدينة البعيدة قدرا. وأن بعض الناس هناك ينفقون هذا المبلغ في يوم واحد،بل جلسة واحدة، ثم أومأ إلى مذياعه الجديد قائلا:
  هذا المذياع اشتريته بضعف المبلغ الذي تنوي أن تبيع به محصولك السنوي. صدقني يامحمود أنا أريد لك الخير. اترك هذه المذلة وهذا الشقاء. غادر هذه الأرض السوداء وابحث مثلي ومثل باقي الناس عن حياة راقية ومترفة في المدينة البعيدة. كنتما قد وصلتما إلى أعرشة الحي ذهب كل منكما إلى حال سبيله.

***

تلك الليلة بعد العشاء وانتهاء شرب الشاي تذكر كيف حدثت والديك بنيتك ـ بعد بيع المحصول في السوق الأسبوعية ـ في ترك العمل في الحقل والسفر للعمل في المدينة البعيدة. ليلتها أيضا تذكر كيف أجهشت والدتك وأختك خديجة ببكاء مرير، أما والدك فد قال بعد صمت طويل :

  يا ولدي هذه مهنة آبائنا وأجدادنا ألفناها منذ قرون. والحكمة تقول بأن عليك أن تهتم بما تعرف وأن تبتعد عن ما تجهل. فهل تريد تركنا بعد أن أصبحنا شيخين طاعنين في السن لتعيش في مدينة بعيدة لا تربطك بها صلة؟

  يا والدي هون الأمر عليك قلت مستعطفا – لن تنقطع أخباري عنكم ولا أخباركم عني، سأعود على فترات كما يفعل قاطنوا المدينة، سأنقذكم يا والدي من هذا البؤس والشقاء المتواصل .
كنت قد ركبت رأسك وصممت على السفر، فلم تفلح دموع والدتك أو أختك ولا استعطاف والدك في ثنيك عن مشروع السفر ذلك ...

***

تتململ في فراشك لتحاول جاهدا أن تطرد شبح تلك الذكريات المؤلمة، ذكرى والدك العجوز وهو يودعك وقد ركبت السيارة قاصدا المدينة البعيدة ، من قبل ذلك ذكرى الوالدة والأخت اللتين احمرت مآقيهما من فرط البكاء عندما حددت يوم السفر إلى المدينة البعيدة، التي كان صديقك مختار قد سبقك إليها ووعدك بالانتظار يوم وصولك إليها ... ذكرى الطريق الذي كان طويلا والرحلة التي كانت مضنية كما قال الركاب بعد الوصول إلي المدينة،لكنك كنت في تشوق أعمى لشغل ولهفة كبيرة للوصول إلى المدينة، ذكري يوم وصولك إلى المدينة وقد زاغت عيناك – وسط ذلك الحشد الهائل من الناس والمباني والصراخ والسيارات كأن الدنيا في يوم الحشر وأنت تبحث عن مختار الذي لم يأت ولم ينتظرك عند المر آب كما وعد!

نعم ! تذكر . تذكر يوم تعبت من الانتظار الممل وقد نهش الجوع بطنك فرأيت بعض المسافرين يتجهون إلي محل قريب ويجلسون ليأكلوا فحذوت حذوهم ودخلت، سألك أحد العاملين في المحل :
  أرز بالسمك أم باللحم ؟ فقلت :
  ما تتفضلون به .
بعد الغداء حاولت الانصراف ، فأطبق عليك العاملون في المطعم صائحين :
  لص ! لم يدفع
ملئك الرعب وأنت تشاهد هذا الحشد المتوعد والمهدد بالويل والثبور فقلت :
  ماذا تريدون؟
  ألا تعرف يا كبير اللصوص؟ نريد ثمن ما أكلت.
علقت ببساطة وأنت تكافح من أجل إخراج حافظة نقودك من بين ثنايا ثيابك:
  ظننتكم تقومون بواجب الضيافة نحو المسافرين! ثم دفعت ما طلبوا وخرجت لا تروم إلا السلامة.

***

ما لمختار لم يظهر؟ لقد أدميت قدماك وأنت تسير من شارع لآخر ولقد بح صوتك وأنت تسال كل غاد ورائح من المارة هل يعرف مختار مستعرضا من ملامحه وأوصافه ما تتذكر. لكنك تذكر أن أغلب هؤلاء لم يجيبوك، أو أن من توقفوا ليستمعوا إليك كانت شفاههم تفتر عن ابتسامة غريبة وهم يرددون نفس الكلمة:

  لا نعرفه!
وعندما أسدل الليل ظلامه وأنارت آلاف المصابيح سماء المدينة شعرت بالدهشة لهذا الجو العجيب لكنك افتقدت الهدوء المخيم على حيك البعيد،ففرت دمعة على خدك مسحتها بسرعة وواصلت السير باحثا عن مختار.
تأخر الليل وهدأت جلبة المدينة وقل المارة في الشوارع وأنت لا تزال تبحث عن مختار . لكن فجأة تتوقف سيارة بالقرب منك ليرتفع منها صوت آمر:
  نحن الشرطة. أين بطاقتك ؟
  لا بطاقة لي
  اصعد معنا إلي المخفر
  في المخفر ألفيت نفسك وسط حشد من الناس جلست قرب أحدهم تسأل هل يعرف مختار "ومن فرط دهشتك وجدته كما يدعي يعرفه ". بل أكد لك استعداده ليدلك عليه في الغد عندما تطلق الشرطة سراحكما. أمنت لهذا الرجل الطيب وألفيت نفسك بعد ساعة متوسدا رجله لتروح في نوم و سبات عميق حملك إلي حيك البعيد والعريش والحقل المنسيين، لم يقطع أحلامك اللذيذة إلا هذا الصوت الناهر لشرطي يقول:

  أنت! ألا تنهض ؟ ألا تصلي يا رجل؟ ألا تذهب كالآخرين؟ ما خطبك؟
تلفت حولك فلم تجد صديق الأمس فأدركت أن طريق البحث عن مختار لا تزال طويلة!
وأنت خارج من المخفر بعد تحقيق طويل شعرت بنسمة هواء بارد تلمس رجلك فتحركت يداك تلقائيا نحو المكان لتجد مكانه من الثياب قد قطع و نقودك قد راحت في خبر كان . فلقد فعلها صديق الأمس.
الحسرة التي حملتها الذكرى معها جعلتك تتململ ثم تقفز من الفراش مذعورا لكنك عندما حملقت في الظلام شاهدت أشباح الأعرشة من حولك فتذكرت بارتياح أنك عدت من المدينة البعيدة .
  بسم الله الرحمن الرحيم . رددتها مرات وأنت تعود إلي فراشك وتمد اللحاف عليك ثم تغمض عينيك عل الكرى يجد طريقه إليهما .

***

ما للنوم لا يجد طريقه إليك ؟ لم تهاجمك الذكريات بهذا العنف ؟ لكن صوت عقلك يقول : ما هي إلا ذكريات فدع شريطها يمر من جديد أمام ناظريك .

نعم ! تتذكر يا محمود يوم اعتبرت أن الحظ قد ابتسم لك أخيرا،عندما حملك سيد دمث الأخلاق،حسن المظهر في سيارته إلي بيته المترف وأصبحت من ضمن خدم عديدين يعملون في هذا المنزل . لكنك تذكر أن فطريتك وبساطتك وسذاجتك التي حببتك إلي سكان المنزل من رجال ونساء أوغرت صدور بعض الخدم من الحاسدين عليك . ليقوم أحدهم بسرقة مصاغ وبعض ملابس ونقود أهل البيت تاركا بعضا من آثار المتاع المسروق في حزمة أمتعتك .

يومها تذكر كيف انقلب المنزل رأسا علي عقب . فجاءت الشرطة فأستجوبت ثم فتشت فاستخرجت من حزمة متاعك بعضا مما قد سرق من متاع،ثم حملتك مصفدا إلي المخبر وبدأت في استجوابك عن بقية المتاع المسروق، انهمرت دموع الدهشة والصدق من عينيك ولم تجبهم إلا بهذه الكلمات :

  لم أسرق في حياتي ولن أفعل ... إنني بريء .
لولا أن تداركتك رحمة الله وأشفق عليك رب المنزل فعفا عنك لبقيت مخلدا في السجن بتهمة السرقة .

***

في ذلك اليوم الحزين خرجت من السجن هائما لا تدري أين تذهب وأنت في أسمالك الرثة تلملم أشتات نفسك وجدت سيارة فارهة تقف بجانبك ، شاهدت سيدة بالغة الحسن داخل السيارة تشير إليك ... اقتربت وجلا ... فأمرتك بالجلوس معها في السيارة ففعلت ثم انطلقت. في الطريق أخبرتك السيدة بأنها لا تريد لك إلا الخير، تريدك عاملا في منزلها وتعرض عليك راتبا قدره 000 20 أوقية. انطلقت من فمك ضحكة مجلجلة أفزعت السيدة. نفس الضحكة التي أطلقها مختار عندما أخبرته بما تتوقع الحصول عليه بعد بيع المحصول السنوي. نظرت إلي السيدة المقطبة ثم قلت :

  اتفقنا وعلى بركة الله .
كانت سيدة السخاء والمفاجئات! قدمت لك منحة مالية مجانية منذ الأيام الأولي، لكن المفاجأة كانت بانتظارك عندما ذهبت فاشتريت ببعض المال ملابس جديدة وعدت بها مزهوا إلي البيت لترتديها. لقد كادت السيدة تفقد صوابها عندما شاهدتك في تلك الحلة القشيبة. استدعتك إلي غرفة أغلقت بابها بإحكام ثم أخبرتك بلهجة حازمة أنها لا تريدك إلا في تلك الأسمال الرثة طيلة الوقت. لكنها وعدت بأن تشتري لك أفضل الملابس عندما تقرر العودة إلى حيك البعيد.

فاجأتك سيدتك مرة أخري عندما لاحظت بعد طول مقام أنه لا عمل حقيقي لك في المنزل. فلا أنت طباخ ولا كناس. بل إن كل عمل في المنزل موكل إلي شخص محدد. أما العمل الوحيد الذي كانت السيدة تكلفك به بين الفينة و الأخرى فهو حمل لفافة صغيرة تجهل محتواها إلي منزل ليس بالبعيد عن منزلكم لتسلمها إلي عامل فيه يشترك معك في ارتداء تلك الأسمال البالية رغم الثراء البادي علي سكان المنزل الذي يقيم به. إنك تتذكر بوضوح الآن كيف كانت سيدتك تحرص علي تذكيرك في كل وقت بالتكتم والسرية وعدم ذكر أي شيء كان لأي مخلوق.

***

الآن تعود بك الذكرى إلي ذلك المساء المشئوم عندما كنت تحمل لفافة فإذا بأحدهم يعانقك قائلا :
  أهذا محمود ؟ لم أتصور رؤيتك في هذا المكان!
استدرت لتشاهد وجه رجل نكرة لا تعرفه لكنه يعرفك على ما يبدو, فكانت جملته التالية :
  أنت من الحي الفلاني؟ نحن معارف بل أهل! لقد عرفتك بالدم فأنا أعرف والداك! تعال نتحدث!
وقفت مسمرا حائرا بين الحديث إلى من يعرفك ويعرف أهلك وربما يحمل لك بعض الأخبار عنهم وبين سيدتك ومهمتها السرية التي تجهل مضمونها. ولعل الرجل لاحظ حيرتك فأردف قائلا :
  يبدو أنك في عجلة من أمرك ولا تريد معرفة أخبار حيكم!
  بل أريد ! قل لي من أنت وأين تعرفني؟
ذكر اسما لا تعرفه، لكنه انتسب إلي حي قريب من حيكم فشعرت بالاطمئنان له. كان هو في الغالب من يسأل وأنت تجيب لكن العجلة والقلق كانا باديين في تصرفك .
قال الرجل :
  يمكنني أن أرافقك إلي حيث تذهب لتقضي حاجتك ثم نعود لنتبادل الأخبار فوافقت.
شاغلك بالحديث وأنت نصف غائب حتى وصلتما إلي المنزل المقصود. خرج العامل ذو الملابس الرثة وسلم عليك فوجدت نفسك تخرج اللفافة من بين ثنايا ثيابك وتسلمها إليه. فجأة انطلقت صافرة، استدرت لتواجه القريب المزعوم شاهرا مسدسا فيك وفي زميلك. بسرعة البرق وصل رجال من حيث لا تدري اعتقلوكما وحملوكما واللفافة إلي المخفر.

***

  لا أعرفه ولا أعرف له أصلا أو فصلا لقد عثرت عليه في الشارع تائها وجائعا فأشفقت عليه لوجه الله وأمرت عمال منزلي بإطعامه متي جاء وتركه يقيم في المنزل متي شاء . هكذا قالت سيدتك للمحققين
  واللفافة التي تحوي الهيروين ؟
  لا أعرفها ولا صلة لي بها !
ومن الغرفة المجاورة كان يتناهى إلي سمعك صوت رجل ينكر صلته بزميلك العامل ذي الأسمال البالية في المنزل المجاور. أما من حولك فإن رجال الشرطة كانوا يتحدثون بفخر عن ضبط واحدة من أخطر عصابات المخدرات العاملة في البلد، وبعضهم كان يروي الطرق المبتكرة التي لجأت إليها العصابة في التواصل بين أفرادها باستخدام أشخاص لا تحوم حولهم شبهة في الميدان. أما أنت فكنت ضائعا وكنت تحاول جاهدا أن تعيد عقارب الساعة إلي الوراء فتعيش هذه اللحظات في حيك البعيد .

***

بعد أشهر من التوقيف والتحقيق . أوقفوك ذات يوم أمام رجال يلبسون ثيابا سوداء فخمة . لم تفهم من نقاشاتهم وجدلهم الطويل إلا ما قاله كبيرهم الجالس في الوسط وهو أن القانون لا يعرف محمود ولا يعرف أن محمود كان يجهل القانون عندما قبل حمل لفافة من الهيروين كوسيط ، كما أنه لا عذر لمحمود في جهل القانون . ثم حكم عليك بالسجن خمسة سنوات نافذة .

أما أنت فكنت ترغب حقيقة في أن تقابل ذلك الرجل الذي يسمونه القانون لتقنعه أنك بريء

***

سياط الذكريات المريرة تنهال علي قلبك المحزون, وفجأة صاحت ديكة الحي في بهيم الليل فقفزت من جديد من تحت اللحاف لتسأل نفسك منذ متي لم أسمع هذا الصمت ؟ ألم تكن الديكة موجودة في المدينة البعيدة لتدعوا الناس هناك إلي الصلاة في الثلث الأخير من الليل ؟ أم أنني منذ وطأت قدماي أرض تلك المدينة أصبح في أذني وقر ؟

***

ينهش قلبك الألم وأنت تتذكر كيف أودعوك السجن مع عتاة القتلة واللصوص في جريمة لا تعرف شيئا عنها ولا عن خطورتها . فانزويت مكتئبا في ركن من إحدى حظائر السجن لا تحدث أحدا ولا تميز بين من يسومك سوء العذاب أو من يعطف عليك .

أصبحت مجرد آلة يأمرك الحراس فتطيع ثم تذكر بعد ثلاث سنوات وأشهر كيف استدعاك مسؤولي السجن ليبلغوك أن مدة السجن قد خففت بسبب حسن السلوك وسيرتك وأنك منذ ذالك اليوم بت حرا طليقا فهل لديك ما تطالب به ؟ فكان جوابك :
  أن تفتحوا هذا الباب وتتركوني أخرج ففعلوا بعد إجراءات طويلة

***

كم هي جميلة هذه الشمس وهذا الهواء وهؤلاء الناس الذين يسرحون ويمرحون بلا قيود ولا قضبان،كم هي غالية هذه الحرية لكن هل نلت حريتي فعلا ؟ سألت نفسك وأنت تبتعد أمتارا عن بوابة السجن الكبير وتقف حائرا قرب مفترق الطرق للشارع المعبد وأجبت نفسك : لقد خرجت من السجن الصغير إلي السجن الكبير،وعلي غير موعد لمحت وجها بحثت عنه كثيرا لم يكن سوي وجه مختار . كان يسير سريعا حاملا معه في سلة عدة الغداء لأسرة من خضار وزيت وفاكهة رأيته ولم يرك ! قفزت مرتين وأنت لا تعي ما تفعله لتمسك بعنقه ثم تبدأ في خنقه .

مختار المذهول لم يجد الفرصة لمعرفة من المهاجم بل استسلم لهذا الجلاد المجهول ليذيقه مر العذاب، لكن الناس لم يتركوك وشأنك بل تجمهروا من حولكما وعلا لغطهم ثم من بينهم خرج شرطي ليقبض عليكم من عنقيكما ويقتادكما بعيدا عن الزحام، عندها فقط استدار مختار ليعرف من الجلاد فالتقت عيونكما :
  محمود ! لا أصدق عيني ماذا دهاك؟
فتدخل الشرطي بخشونة هيا إلى المخفر
لكن مختار الذي ورطك في مشاكل المدينة أنقذك من المخفر عندما تدخل لدى الشرطي قائلا :
  لم نكن نتصارع إنما كنا نمزح إنه قريبي !
نظر إليكما الشرطي مؤنبا ثم هددكما قائلا :
  عندما أعثر عليكما تمزحان بهذه الطريقة فلسوف تقضيان باقي أيامكما وراء أسوار هذا السجن.

***

كان مختار هو من أخبرك بأنه عندما عاد بعد سنتين إلي حيكم وجد أباك قد فارق الحياة منذ شهرين، ولم يعد حقلكم مزروعا، سألوه عنك فأخبرهم بأنه إلتقاك مرات ثم قررت السفر إلي مدينة أبعد ... فانقطعت أخبارك عنه، أما في عودته الثانية فكانت والدتك لا تزال علي قيد الحياة لكن نعيها وصله مع بعض القادمين بعد رجوعه إلي المدينة. أكلت قلبك الحسرة علي أبوين ماتا دون أن تعيش معهما أيامهما الأخيرة وعلى حقل بور لم تعد له فائدة، ثم على مدينة لم تلقاك إلا بوجه مقطب كئيب, فقلت لمختار :
  أما من مخرج ؟
  تستقر هنا وتبحث عن عمل !
  لا سأعود إلي حيي ، لكن كيف سأعود ؟
ذكر مختار بأنه سمع في مذياعه أن الحكومة تشرف علي حملة لإعادة المزارعين إلي مواطنهم الأصلية بشكل مجاني ورافقك إلي مقر الحملة وهناك سجلوا اسمك ثم حملوك في سيارة تمر بطريق غير بعيد من حيكم البعيد .

***

في هدأة من الليل تحت سماء لا قمر بها يسألك ضميرك المجروح :
  هاأنت بين الباقين من أهلك ووسط حيك قرب حقلك الذي أصبح أرضا بورا تستنشق عبير أرض تحبها وتحبك، وتسمع صياح ديك افتقدته طويلا لا ضجيج من حولك ولا محاضر أو سجن أو مشاكل، فماذا أنت فاعل يا محمود؟

***

ماذا سأفعل ؟
غدا عندما تشرق الشمس سأعود إلى حقلي، سأجتث منه الأعشاب الضارة، سأبدأ في الفلاحة، لن تمر أربعة أشهر حتى تطاول سنابله عنان السماء، منها سأعيش ومنها سأبيع.
غدا عندما تشرق الشمس سأعيد بناء عريش والدي وسيكون أقوى مما كان، لن يصبح بعد اليوم أطلالا مهجورة
وغدا عندما تشرق الشمس، سأخطب إحدى بنات خالتي "مبروكة " وسأعد من الغد لحفل زفافنا .
لكن ....
متي سيأتي الصباح ؟
ومتي تشرق الشمس؟


مشاركة منتدى

  • استغرب انهذه الكاتبة المبدعة لا تعرف لها الا هده القصة وحدها وحبا بالله نود ان تنشروا المزيد لها حتي يتسني لنا التعرف عليها اكثر وعلي الادب المورتاني
    شكرا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى