الأربعاء ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
الشاعر موسى حوامدة:
بقلم موسى حوامده

فلنتواضع عندما نتحدث عن قدرتنا على التغيير!

نضال القاسم

يعتبر الشاعر موسى حوامدة واحداً من أبرز الأصوات الشعرية المعاصرة التي أنتجتها مرحلة الثمانينيات في الحياة الثقافية في الأردن، والحوامدة من مواليد قرية السموع جنوب الخليل عام 1959، درس الإعدادية في مدرسة السموع والثانوية في مدينة الخليل، وقد تم اعتقاله أكثر من مرة من قبل الجيش الإسرائيلي، واعترف احد الضباط الإسرائيليين في جريدة سويدية أنه كان السبب في إبعاده من مدينة الخليل.

سجن لأسباب سياسية في الأردن عام 1979 وفصل من الجامعة مدة عام واحد، ثم عاد واكمل دراسته بقرار من المحكمة العليا، حيث حصل في عام 1982 على بكالوريوس اللغة العربية من الجامعة الأردنية، لكنه ظل ممنوعاً من العمل والسفر حتى عام 1989م.
عمل في عدة صحف منها، جريدة صوت الشعب، الدستور، ثم مديراً للتحرير في جريدة العرب اليوم الأردنية، ثم مديراً لمكتب جريدة الرياض السعودية في عمان، ثم كاتباً ومحرراً في جريدة الدستور، حيث لا زال يعمل فيها مديراً للدائرة الثقافية ومدير تحرير لملحق الدستور الثقافي. وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين وعضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب وعضو نقابة الصحفيين الأردنيين وعضو الهيئة الادارية لاتحاد كتاب الانترنت العرب.
بدأ الحوامدة بنشر قصائده حينما كان طالبا في الجامعة، وقد صدر له مجموعة من الأعمال الشعرية والنثرية ومنها:-

شغب،(شعر)، عمان، 1988

خباص الضايع (حكايات ساخرة)، دار أزمنة، عمان، 1995.

تزدادين سماءً وبساتين،(شعر)، المؤسسة العربية، بيروت، 1999

حكايات السموع (كتابات ساخرة) دار الشروق في رام الله وعمان،2000.

شجري أعلى، (شعر)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999.

زوجتي ضربتني، (حكايات حب ساخرة)، المؤسسة العربية، بيروت،2000

اسفار موسى العهد الأخير، (شعر)، المؤسسة العربية بيروت، 2002

من جهة البحر،(شعر)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004.

سلالتي الريح عنواني المطر،(شعر)، دار الشروق،رام الله، عمان، 2007.

كما يليق بطائر طائش، دار اليازوري، بدعم من الدائرة الثقافية في أمانة عمان الكبرى، 2007.
سلالتي الريح عنواني المطر وقصائد أخرى ( مختارات شعرية)،سلسلة آفاق عربية، الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، القاهرة، 2010.

موتى يجرون السماء،(شعر)، دار أرابيسك، القاهرة، 2012.

وقد حصلت بعض قصائد موسى حوامدة وأعماله الشعرية على العديد من الجوائز العالمية والعربية جائزة (الريشة) وهي الجائزة الكبرى والتي تمنحها مؤسسة اورياني الفرنسية عام 2006 ، وجائزة مهرجان تيرانوفا الفرنسي. وكذلك حصوله في عام 2011 على جائزة المهاجر الاسترالية للشعر عن ديوان (سلالتي الريح).

شارك في عدة مهرجانات شعرية عربية وأوروبية، وترجمت قصائده الى عدة لغات منها الفارسية والانجليزية والفرنسية والالمانية والسويدية والرومانية والكردية والبوسنية والتركية، ونشرت له جريدة الجمهورية التركية عدداً من القصائد المترجمة. كما كان واحداً من شعراء انطولوجيا الشعر العربي المترجمة للتركية، ووواحداً من الشعراء العرب في كتاب موعدان لبزوغ الشمس وعازفان الذي صدر بالفارسية من ترجمة الشاعر الايراني موسى بيدج، كتب عن شعره العديد من النقاد والكتاب العرب من بينهم: المرحوم الشاعر بلند الحيدري، د.صلاح فضل، طراد الكبيسي، محمد علي شمس الدين، راسم المدهون، علي بدر، د.سلطان المعاني، د.محمد عبيدالله، حكمت النوايسة، د.محمد القواسمة، د.عبير سلامة، جعفر حسن، نعيم عرايدي، خالد زغريت، راشد عيسى، فخري صالح، د.ابراهيم خليل، يوسف يوسف، محمد العشري، عهد فاضل، زهير كاظم عبود، مكي الربيعي، عبد عون الروضان، مسعود مقداد، إيهاب خليفة، عمر شهريار، مجدي ممدوح، د.ليندا عبيد، د.عبدالرحيم المراشدة، محمد القاسم الياسري، وجدان الصائغ، جلال برجس، نضال القاسم، وغيرهم.

قام المخرج ناصرعمر بإخراج فيلم سينمائي عن تجربته الشعرية ضمن برنامج هؤلاء الآخرون، والذي بث على قناة اوربت وبعض القنوات الفضائية.

وبمناسبة صدور مجموعته الشعرية السابعة ’موتى يجرون السماء’ عن دار أرابيسك في القاهرة مؤخراً كان لنا معه هذا الحوار.

’هل لنا أن نعرف كيف تسلل إليك هاجس الكتابة، وما هي طبيعة التصور الشعري الذي تم على أساسه ديوانك الأول (شغب)، والصادر في عمان عام 1988، وما هي المؤثرات التي شكلت وعيك وأسهمت في تكوين تجربتك الابداعية؟

كلمة ’تسلل’ كلمة جميلة، هكذا فعلا تبدأ الأشياء الحقيقية بالتسلل، ثم قد تعشش أو تستوطن، أو تهرب من الجهة المقابلة، دون أن تترك أثراً، فتح لي سؤالك الآن الذاكرة على مداها...

ولدت ونشأت في قرية فلسطينية زراعية، تقع آخر الضفة الغربية جنوباً، تم احتلال أكثر من ثلثي أراضيها عام 1948، وتعرضت إلى اعتداءين إسرائيليين، رأيت وشاهدت الهجومين، ورأيت ركام البيوت المهدمة بعد معركة السموع الثانية عام 1966، وقبل حرب ال67، شاهدت تحضيرات الجيش العربي قبل الحرب، وهم يحفرون خنادق الدبابات، ويقومون بتدريبات عسكرية، والناس وخاصة الشباب يملأهم الحماس، وهم يتدربون في الحرس الوطني، لكن كل ذلك ذهب هباء، فتمت هزيمة حزيران، أو نكسته ولحقت الضفة وغزة بفلسطين المحتلة.

منذ صغري كنت أعرف ماذا تعني كلمة فلسطين، وربما منذ الرابعة من عمري كنت أسمع هذه الكلمة وكأنها سلاح مهرب، ورأيت يوما بعض الفرسان يقتادون شابا وقد ربطوه بذيل حصانهم، وكانوا يضربونه، وهو موثق بكوفية مرقطة، وظللت أسأل أبي، وهو يحاول إسكاتي، ويبدو عليه الخوف، ويطالبني بالحذر والصمت، ولما لم يجد مهربا من أسئلتي التي استمرت دون أن أعرف النوم، قال لي هامسا: هذا فدائي، وإياك أن تعلم أحداً، وفتحت الكلمة الجديدة على مسامعي شلالا لا يتوقف من الأسئلة، أدت إلى تهديدي بالنوم أو العقاب.

بعد الاحتلال شاهدت الدبابات الاسرائيلية، والجيش الاسرائيلي يمشط البلدة، أو يجمع رجالها، وينسف بعض البيوت، فكنت أحس بالقهر، وأشعر أن تلك القوات المسلحة الغريبة تحتل جسدي وروحي، كنت أحلم كل ليلة، بكيفية تدميرها والخلاص منها، لكن الإحساس بالعجز صعب. وكما كنت أرى بيوت بلدتنا مهدمة، كنت أشعر بالأسى، على تلك الخنادق التي حفرها الجيش العربي، قبيل الحرب، ولم يتم استعمالها، وظلت حتى اليوم شاهدة على الندم والمرارة. كانت أحلامي تدور حول تلك القصص، وكان شيء يغصُّ في حلقي، كأني كنت سببا في تلك الهزيمة.

البلدة زراعية كانت، وكما بقية قرى بلاد الشام تحفل بالكثير من الأغاني الشعبية التي تردد في المناسبات والأعراس وحتى المآتم، وأيام الحصاد وأيام البناء، كان خالي ’علي’، واحدا ممن يحبون المشاركة في ليالي الدحية والغناء، وكان هو البدّاع، الذي ينشد أمام طابور المشاركين من الرجال، وكانت الأغاني التي تقال، تحمل نفسا شعبيا مقاوما، وكانت المواويل تصدح باسم الحب والوطن والغربة، وتتحدى الأنذال، وسيارات الإحتلال الصهيوني، التي تجثم غير بعيدة، كنت ألتقط من تلك الثقافة الشعبية الكثير، حتى من غناء الحصادين والبنائين والحجارين والرعيان والعمال، ومن حكايات العمات وكبار السن، لكن من دفعني للتفكير بلعبة الكلمات وتغييرها، فقد كانت والدتي رحمها الله، حيث كانت تحكي لي حكايات عن مذابح دير ياسين، وعن ثوار ال36، وعن تعذيب الانجليز للناس وخاصة المشتبه بتعاونهم مع الثوار، وكانت تغني بعض الأغاني الشعبية، وكنت كثيراً ما أطلب منها أن تعيد الحكايات أو الأغاني، وخاصة أغاني الثوار وأغاني الميتين، أو حتى أغاني الفرح والاعراس، خاصة وداع العروس، وزفة العريس، فكانت لا ترفض لي طلبا، فتعيد سرد الحكايات والأغاني، وحين تنسى كلمة معينة تستبدلها، بكملة مختلفة، لكنها تجيء مناسبة، وحسب القافية والوزن. من هنا تعلمت أن الكلمات ليست مقدسة، وأن تغييرها ممكن.

كان صوت السامر أو الشبابة يسرقني من نومي، فأركض عبر الجبال، وفوق الأشواك، لأحضر الأعراس، وأراقب الدبكة، وأصغي للغناء الذي يطلقه أحد الذين يملكون صوتا شجيا، وأسمع وأحفظ المواويل، وحتى فقرة الدحية، كنت أحفظ الكثير من الجمل والأبيات، وأظل مستيقظا حتى آخر الليل، حين يحين موعد السامر، أو الهجيني، الذي فهمت أنه من أغاني البدو.
أجمل ما كانت تفعله أمي، أنها لم تكن تغضب، وأنا أواصل الغناء والصراخ، وترديد ما أشاء من كلام سمعته من قبل، أو يأتي عفو الخاطر، لم تكن تغضب كما تفعل أمهات اليوم، بل تتركني بحريتي، حتى لو قمت وضربت الجدران، حيث كنت أحيانا أجن، وأقوم بضرب الجدران بقبضتي يديّ حتى الوجع والتعب.

ربما بعد تلك الفترة، تسلل هاجس الكتابة إلي دون أن أعي ذلك، لكنه تبلور نوعا ما في المدرسة الإعدادية في السموع، حين أصبحت أمين مكتبة المدرسة (التي كانت عبارة عن خزانة واحدة فيها بعض المجلدات الدينية والكتب التاريخية)، وصرت أستعير ما فيها من كتب، لأن الطلاب كانوا يحجمون عن الإستعارة، وكان أن استعرت ’ألف ليلة وليلة’ بالصدفة وقرأته وأنا في المرحلة الإعدادية، هذا الكتاب طيَّر عقلي، وجعلني خياليا أكثر مما كنت، وفي نفس السنة، أو في السنة التي تلتها؛ ربما جاءت أول كتابة لي، تقليدا لقصيدة أبي تمام في فتح عمورية، والتي كانت مقررة علينا في المناهج.

حاجتي للخيال دفعتني لإعادة قراءة ’ألف ليلة وليلة’، وما فيه من سحر، وسع خيالي أكثر، ونمّى لدي بابا للأمل، بامكانية هزيمة العدو، ولو في الخيال على الأقل.
هل كان كل ذلك، مبنيا على إحساسي بالعجز، وهو الذي دفعني للتشبث بالتخيل والكلمات وكتابتها، مسحورا بطريقة أمي في تبديل الحكايات وحروف الرَّوي، معتقدا أنها تحررني من العجز، وتعبر عن رغبتي في التحرر، وتحرير الأرض التي ولدت فيها، قد يكون ذلك صحيحا، وربما يكون هناك شيء غامض داخلي، جعلني أعبر عما أحس به أحياناً، وربما ولد هاجس الكتابة معي منذ الطفولة، وكان يحتاج إلى سبب وظروف لينفجر.

*إضافة الى الدواوين التي صدرت لك (شغب)، و(تزدادين سماءً وبساتين) و(شجري أعلى) و(أسفار موسى العهد الأخير) و(من جهة البحر ) و( سلالتي الريح عنواني المطر)، هناك ديوان صدر مؤخراً بعنوان (موتى يجُرُّون السَّمَاء)، ماذا عنه، وما هي مشاريعك القادمة، وماذا عن تصورك للمستقبل؟

لعل موت جزء من الذاكرة والطفولة التي حدثتك عنها سابقا، ووفاة أبي وأمي في أقل من عشرين يوما؛ في شهر أيار 2003، وسقوط بغداد في نفس العام، وإحساسي أن فلسطين صارت بعيدة، مطوقة بالحواجز والطرق الالتفافية والمستوطنات، وغياب الجدار الذي كنت أستند عليه في لاوعيي، وهو أبي، جعلني أبحث عن ضياعي، في ’سلالتي الريح’، ورغم أني كتبت عن موت أبي وأمي في نفس المجموعة، لكن يبدو أن قضية الموت تغلغلت في روحي، وصار السؤال الأبرز لدي، هو سؤال الموت، لذلك كتبت مجموعة من القصائد اكتشفت فيما بعد أن غالبيتها تتناول الموت، مثلا، (حين يأتي الموت)، قلت فيها:

حين يأتي الموت
سأزرع الغروب في حديقة الوداع؛
أعلنُ هزيمةَ الإنسان
وألقي فلسطين،َ
في دفتر الغياب.

وقصائد مثل؛ (ليست ميتة هذه القصيدة)، (الشبيهة) عن موت أبي وأمي:
آه غابوا في التلاشي؛
غابوا في سكون الريحِ.
آه!
غابوا،
تركوا كلّ الأماني وراء ظهورهم،
وما نزعوا ملابس الصلاة.
و’شجرة الموتى’، و’موتى يجرون السماء’، و’للندم الذي يخلفه الموتى’، وغيرها، هكذا تناولت قضية الموت حتى في قصيدة ’لنهتف للوردة سلاماً أيتها الحمراء كلون الدم الفلسطيني’، وهي عن مجزرة غزة وعن تلك الحرب المدمرة، عليها.

بعد هذه المجموعة جاءت قصائد مختلفة، نوعا ما، تطرقت للفراشات، وللوردة، والموسيقى، والبحر، والزمان والوجود، وغير ذلك من المواضيع، ربما أحاول الهروب من سرداب الموت، ربما تجاوزت هذه القضية، لا أدري ولكن تبلورت لدي مجموعة جديدة تقريبا، إضافة إلى وجود فكرة لطباعة تلك المقالات النقدية التي كتبت عن المجموعات الشعرية أو الحوارات، مستقبلا؛ لا أدري ماذا سيحدث، لكني سأواصل كتابة قصيدة النثر، وربما أكتب سيرة أبي، أو شيئا من سيرتي.

*ما هو أثر شعرك خارج الحدود؟ وهل تعتقد أنك قمت بواجبك في هذا المجال، وكيف يمكن من وجهة نظرك للشعر أن يصل إلى أوسع قاعدة في الجماهير، وهل صحيح أن العمل الناجح يُبشِّر بالثورة ويعد بولادة أمة جديدة؟

لا أزعم أن شعري وصل خارج الحدود بشكل مؤثر، ترجمت لي عدة قصائد الى اللغة الانجليزية، وفي اللغة الفرنسية ترجمت لي الشاعرة ثريا إقبال قصيدة عنوانها ’قصائد ليست شعرية’ نشرتها في مجلة فرنسية، وترجم لي المترجم الجزائري مدني قصري قصيدتين نشرتا في بعض المواقع، والمطبوعات، وترجمت لي الشاعرة التونسية آسيا السخيري قصيدتين، وكذلك فعلت الشاعرة المغربية حبيبة زوكي، لكن هذه الترجمات لم تطبع في كتاب. في إيران قام المترجم د.موسى بيدج بترجمة قصائد لي إلى اللغة الفارسية، ومنها تلك القصائد التي تحكي عن الشهداء، وعن المقاومة في فلسطين، وقرأت بعضا منها هناك، ونشر بيدج العديد منها وقرأ كذلك منها على طلاب الجامعات الايرانية، ووجدت أحد المترجمين الأتراك قد ترجم قصيدتي سلالتي الريح عن الفرنسية، وصدرت لي بعض القصائد في انطولوجيات مشتركة، في ألمانيا، ومنها انطولوجيا تركية عن الشعر الفلسطيني، ومثلها عن شعر الحب العربي، ترجمها متين فندقجي، كما ترجم لي عدد من الشعراء الكرد بعض القصائد، حتى أن بعض القصائد ترجمت أكثر من مرة، وترجمت بعض القصائد الى اللغة الألبانية والبوسنية، والسويدية، وحتى العبرية، وهنان نية لترجمة بعضها للكورية، لكني لا أزعم أنني وصلت خارج الحدود، فكل هذه الترجمات محاولات بسيطة في بحر متلاطم الأمواج، ربما تحتاج بعض قصائدي إلى المزيد من الترجمات، وإصداراها في طبعات، لكن هذه مهمة ليست بسيطة، لا أطمح كثيرا لتخطي الحدود، لكن إن جاءت بشكل طبيعي وسهل، ودون أن يأتي ذلك بطلب وتخطيط، فليكن.

أما بخصوص إن كان العمل الناجح يبشر بالثورة، وبميلاد أمة، فهذا كلام كبير يا صديقي، لا أظن أن مجموعاتي ستصل إليه، وقد نظلم الشعر إذا اعتقدنا، أنه وصفة ثورية ناجعة، والشاعر وحده لا يمكن له أن يصنع زلزالا، إذا كانت الأمة تغط في نوم عميق، وتهرب من مواجهة الحقيقة والإحتلال والتخلف، وتفلي شعر رأسها، وتنتظر حدوث المعجزات، لا معجزات على الأرض، والقوة يصنعها البحث العلمي والإرادة الحقيقية، والتواضع ضروري، والإعتراف بالعلل الموجودة في جسدنا، بداية لتشخيص المرض وعلاجه، ودون ذلك، وبلا وعي، لا نثير سوى الغبار، ولن نجني سوى الخيبة.

*موسى حوامدة، بصراحة، هل أنصفك النقد؟ وما هو تقويمك للنقود التي كُتبتْ عن تجربتك الشعرية التي امتدت لأكثر من عقدين ونصف؟ وكيف ترى النقد العربي اليوم؟ وماذا يقدم النقد للأدب؟

لم يقصر النقد معي، فقد كتب د. صلاح فضل، وبلند الحيدري، ومحمد علي شمس الدين، وعبير سلامة، وطراد الكبيسي، وراشد عيسى، وابراهيم خليل، وعمر شهريار، وايهاب خليفة، وعلي بدر، ووجدان الصائغ، وراسم المدهون ويوسف يوسف وخالد زغريت وعلي سفر، ومحمد قاسم الياسري، ومحمد العشري، وليندا عبيد وعبدالرحيم مراشدة وسلطان المعاني وأنت أيضا ود.محمد القواسمي، ومجدي ممدوح، وغيرهم كثيرون.

من هنا لا يجوز لي أن أدعي أن النقد قصر معي، فقد سلط الضوء على تجربتي وعلى أعمالي، لكن مشكلة النقد ليست في الكتابة عن تجربة ما بقدر ما هي غربة النقد عن التجارب الإبداعية، فالكتابة التي لا تحفر وتؤسس منهجا نقديا لا تفتح آفاقا جديدة، والنقد العربي ما زال نقد مجاملات للأسماء المكرسة، وتنقصه الجرأة للقول أن بعض الأسماء المكرسة نالت شهرة مضخمة، بينما نقديا لم تكن عظيمة، بل هناك عتب على النقد الذي يصم أذنيه عن سرقات كثيرة، لشعراء معروفين، فضحت سرقاتهم، ويتعامى النقد عن الحقيقة، ولا يجرؤ على الكتابة، وفضح غير الموهوبين، والقول أن الكثير من الشعراء مؤلفو شعر وليسوا شعراء، وللأسف حتى النقاد الذين بشروا بنقد حداثي، عادوا وانضووا تحت عباءة المجاملة العربية، النقد العربي يفتقد الجرأة، ويخشى قصيدة النثر الحديثة، ويكتفي بتكريس المكرس، وتعريف المعرف، ومن هنا لا تبتكر المدارس النقدية لدينا نمطا خاصا، كي لا نقول منهجا حديثا للنقد، بل تسعى لإعادة ترديد نظريات غربية قد تنطبق أو لا تنطبق علي شعرنا وآدابنا عموما، فتقرأ نقدا عبارة عن كلام مكرر يصلح أو ينطبق على كل الشعراء، وحين نتحدث عن النقد العربي نحن لا ننطلق من فراغ؛ فأجدادنا القدماء أسسوا العديد من النظريات الشعرية والأدبية، والقطيعة التي حدثت بين المعاصر والقديم لم يتم ردمها من داخل الأدب العربي نفسه، خذ مثالا على ذلك؛ قصيدة النثر، فمن المستحيل أن تجد ناقدا عربيا كتب عن قصيدة النثر دون الاستشهاد والتأثر بكتاب سوزان برنار، وكأن من لم يكتب وفق قصيدة النثر الفرنسية، ووفق نظرية برنار، لا يكتب قصيدة نثر، ألم يحن الوقت للكتابة عن قصيدة النثر العربية بعيدا عن كتاب برنار هذا، والنمط الغربي، واقتباس الوصفة الغربية لقصيدة النثر والاكتفاء بهذا الوصف، دون حك المخيلة العربية، وإيجاد نظرية بديلة عميقة في تراثنا وجذورنا الأدبية؟ للأسف فإن قصيدة النثر، تحارب على أكثر من جبهة، التزمت السلفي العام، الذي لا يؤمن بالتجديد، ويريد شعراً على نمط معين، والجمهور الذي يفتقر لذائقة حديثة للقصيدة، والنقاد الذين لا يسيرون في المقدمة، بل ارتضوا السير خلف إمام معين، ولا يهمهم إحداث تغيير حقيقي في الذائقة العربية، بل تكريس الماضي، وتغيير الشكل النظري فقط.

*التراث كموضوعة جدلية قائمة، كيف تنظر إليه، وما مدى تأثير التراث العربي القديم والأدب الغربي باتجاهاته المختلفة في تجربتك، وكيف تنظر الى التجريب في الشعر؟ وما مدى توظيف الأسطورة والرمز في شعركم؟

لا أنظر إلى الرمز والأسطورة نظرة تقليدية، ولا أكتفي بنقل هذه الرموز لتدعيم القصيدة فقط، إن لم يكن هناك فهم جديد للأسطورة نفسها، وإعادة نظر فيها، وتأمل كيف ترد في القصيدة فلا داعي لاستخدامها، وهذا ينسحب على الرموز نفسها، أما التراث العربي فهو جزء رئيس من ثقافتنا عموما، ولا يمكن لأي شاعر أن يتخطى هذا التراث، بل عليه أن يعتمد عليه بداية لتأسيس ثقافته، وأن يملك قدرة على هضمه، لا أن يتعامل معه ككتلة صماء ثقيلة لا فكاك منها، سواء شعرا أو نثرا، أما بعض الذين يدعون أن ليس لهم علاقة بالشعر القديم، وأنهم يكتبون قصيدة حديثة، وليسوا معنيين بمعرفة المتنبي وامرئ القيس وأبي تمام وأبي نواس، فهؤلاء سطحيون جدا، وجهلة. إن تجاوز التراث لا يكون بانكاره، والتفذلك بمعرفة لغة غربية، وكتابة قصائد شبه مترجمة، فهذه ألعاب بهلوانية، لأن الشعر رؤيا، وليس مجرد تقليد، وفبركة كلمات.

التجريب ضروري، وأنا أجرب باستمرار، ولا أخاف من الزلل، وأترك للقصيدة حرية التنفس، وشق طريقها وحدها، وهذه مشكلة قصيدة النثر، فهي تحرث أرضا لم يسبق حرثها، وتنمو وسط بيئة معادية لا تؤيدها، وتحاربها، وتنهض من تلقاء نفسها، دون أسلاف لها، وهي مطالبة بدغدغة، وتطريب ذائقة جمهور، عاش آلاف السنين على رتم واحد، إنها مهمة صعبة حقا، وعسيرة فعلا، لكن كل من لا يعتقد أنه فدائي فلا يهبط إلى أرض الشعر والتجريب، بامكانه ترديد: فعولن وفاعلاتن، ومفاعلتن وفعولن حتى الأبد. لكن النبع بلا ماء ليس نبعا.

*برأيك، من الذي يمثل عصره أكثر، الشاعر أم الروائي؟ وكيف تنظر إلى خريطة الشعر العربي اليوم؟ ومَن من الشعراء جذب اهتمامك وشعرت عبر أعماله بنكهة التجديد والأصالة والعمق؟ وهل ما يزال الشعر ديوان العرب وشاغلهم، أم أن القصة والرواية باعتبارهما فنّاً مدينياً احتلا الساحة الأوسع؟

لعل بعض الروائيين قد نجح في تمثيل عصرهم وكتابة سرد يمثل الحقبة التي عاش فيها، من خسارات وهزائم، مثل نجيب محفوظ وغسان كنفاني وعبدالرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا، وإيميل حبيبي وغالب هلسه وغيرهم، لكن الشعر يحمل الألم أكثر، ويعبر بطريقته، ليس عن استعراض تركيبة المجتمع، ومسحه جيوليوجا، بل الشعر يسبر غور الحياة أكثر، يدخل إلى أعماق التاريخ والبشر، ومن المفروض أن يكون الشعر رائد بقية الفنون والآداب حتى الفكر والفلسفة، وإلا فهو ليس شعرا. أما إذا كان المقصود فقط تأريخ مجتمعي، فقد وجدنا أن حلاقي دمشق وبعض قضاتها أرّخوا للحياة الاجتماعية ولم يكونوا روائيين.

الشعر العربي اليوم مظلوم من المجتمع، ومن الوسط الثقافي والإعلامي، ومن الشعراء أنفسهم الذين فر كثير منهم باتجاه الرواية، ومواءمة شروط السوق، والذين تقبلوا الهزيمة أمام السرد، وصاروا روائيين، واكتفوا بدور هامشي للقصيدة، ربما جرى تحول في الشعر، من شعر منبري إلى شعر مكتوب، وهذا ما جعل صوته أخفت، ومن الضروري أن يكون كذلك، لكن ما زالت اللغة العربية، قادرة على إنتاج الشعر، وفي الوقت الذي تتوقف فيه أي لغة عن إنتاج شعريتها، تكون بداية انقراضها، مشكلتنا تكمن في الأحكام القطعية التي تلقى علينا ولا نمحصها، من مثل ’إن هذا زمن الرواية’، ’قصيدة النثر لا تصلح للإلقاء’، ’تراجع الشعر العربي’، و’غياب النجوم الكبار في الشعراليوم’، ’قصيدة النثر صار يكتبها من هب ودب’، ’الشعراء أكثر من القراء’، كل هذه المقولات السطحية، يتم تعميمها وترديدها، بلا تفكير، والمصيبة التي تتربع في عقولنا، أننا نغلب الثقافة الشفهية وثقافة النميمة، فنؤمن بهذه المقولات الجاهزة، ولا نقبل التجديد، وهذا يدل على أننا تقليديون في أعماقنا، وإن تظاهرنا بالحداثة.

*ما هي حدود العلاقة بين الأدب والحرية من وجهة نظرك؟ وكيف ترى مسؤولية المبدع في صنع المستقبل العربي، خصوصاً في الأيام العصيبة والأوضاع العربية المتردية الآن؟

إذا كان المبدع مؤمنا بالحرية فلا بد أن يتغلغل ذلك، فيما يكتبه ويمارسه، كثيرون ادعوا الحرية وحينما اصطدمت بالطائفية أو الاقليمية تبين أنهم مكبلون وصغار، الحرية أكبر من الكتابة، والكتابة التي تخفي نواياها السوداء تجاه الحرية كثيرة، لكن الوعي ضروري هنا للقارئ، وليس للمبدع فقط، لكشف الجوهر من الهامش، وكشف الحقيقي من الفاسد والمزور. مسؤولية المبدع العربي كبيرة، لكننا تعرفنا على نماذج من كتاب، ساهموا في اغتيال مبدعين ووأدهم، وهنا يجب التحذير من خطورة انزلاق المبدعين إلى السلطة، مهما كان شكلها وجوهرها، في الأوضاع العصيبة تبدت مواقف العديد من المبدعين العرب، مع حرية شعوبهم، وهي مهمة وضرورية، لكي يكون المثقف طليعيا ولا يكتفي بخربشة الكلمات والتخفي وراء المبررات والأعذار.
أدب بلا حرية لا معنى له، وأدباء بلا حرية يشبهون موظفي الدواوين السلطانية، بل لعل بعض الموظفين في دواوين الدولة الإسلامية، كانوا يملكون داخلهم حرية كبيرة، فكتبوا خارج وظيفتهم كتبا وأعمالا عظيمة، لكن الحرية التي نعنيها ليست حرية القول والانتقال من موقف إلى موقف، إنها الحرية التي تسكن داخل المبدع والتي يؤمن بها ويفهمها باعتبارها تحررا كاملا من التبعية والمصلحة، تحررا من إرث ثقيل لكنها ليست تحرر المهزومين، والساعين إلى إيجاد ملجأ في الغرب، أو مع حزب أو نظام أو سلطة معينة.

كل حرية تسجد وراء حاكم ليست حرية، وكل حرية لا تقود نفسها ليست حرية، أما الكتابة التي لا يتمتع صاحبها بحرية كبيرة نابعة من داخله، فهي تراكم كمي لا معنى له، ولو نظرنا في كتابة نجيب محفوظ بعمق لوجدنا أنه كان حرا، قبل أن يكون كاتبا، غالب هلسه كان حرا، فدوى طوقان كانت حرة، نزار قباني كان حرا، إدوارد سعيد كان حرا، سعدي يوسف شاعر حر، صلاح عبدالصبور كان حرا، وحين فقد حريته مات، أمل دنقل عاش حرا، ومات حرا.

أما مسؤولية المبدع في صياغة المستقبل العربي، فالمبدع ليس حزبا ولا تنظيما ولا جيشا، لكن عليه أن يمارس الحرية في كل ما يكتب ويفعل، وألا يسكت عن الخطأ والظلم، حتى لو دفع الثمن وحده، وحتى لو كانت السلطة والمجتمع ضده، لكن المبدع وحده لا يصنع التغيير، إن لم يجد أرضا خصبة لكتاباته وآرائه وأفكاره وكلماته. فالعملية لا يجب أن ترمى على كاهل المبدع وحده، وفيما نراه اليوم فإن المبدعين والمثقفين منفيون عما يسمى الربيع العربي الذي تقوده تيارات لا تؤمن بالفكر، وهذه هي الطامة الكبرى، فقد تحرك الشارع قبل أن يتشكل الوعي الكامل، ومع ذلك لا نقف ضد التمرد، لكن المجتمع مطالب بالنظر للفكر والثقافة باعتبارها قيمة أساسية، ولا أريد الأكثار من كلمتي لا بد، لكن الحرية مثل السكين، إن لم يقبض عليها من يعرف استخدامها، قد تجرح وتؤذي.

*حصلت بعض قصائدكم وأعمالكم الشعرية على العديد من الجوائز العالمية والعربية ومنها جائزة مؤسسة أورياني الثقافية الفرنسية في مدينة نانسي وجائزة ’لابلوم’ من مهرجان تيرانوفا الشعري وكذلك حصولكم مؤخراً على المركز الأول من جائزة المهجر الاسترالية عن ديوانكم (سلالتي الريح)، وهذا يُعدُّ إنجازاً مهماً، فما هو الأثر الذي تركته هذه الجوائز في نفس موسى حوامدة؟

*لا أدري، لأني لا أعول كثيرا على الجوائز، فهي تأتي وفق سياقات مختلفة، ربما لو هيئت لغيري لحصل عليها أيضا، لكن ما يأتي من الخارج قد يكون اعترافا بقصيدة عربية، ترجمت إلى لغة ثانية، والغريب أن الجوائز جاءتني من خارج العالم العربي، لكني لست مسكونا بالحصول على الجوائز لأن القصيدة التي أكتبها لا تنساق ضمن شروط لجان التحكيم، وتلك القصيدة التي تكتب من أجل برامج الشعر، أو مسابقات الشعر العربية، لا تعنيني، ولا أفكر حين أكتب بجائزة أو تقدير، لأني لا أتحاشى استفزاز القارئ، حين أكتب ولا أسعى إلى تصفيقه ورضاه، لذا أعلم أن ما أكتبه لا يناسب الكثير من اللجان والمؤسسات، فلا أتورط في انتظارها.

*أنت واحد من الأدباء المبدعين الذين أنتجتهم مرحلة الثمانينيات في الحياة الثقافية في الأردن، ما الذي ميَّز تلك المرحلة وجعلها علامة مميزة وبارزة في مسيرة الأدب الأردني؟

 ربما كانت فترة الثمانينات فترة تعلم بالنسبة لي، كان النضال السياسي أكثر مغزى ومعنى، كانت فلسطين حاضرة في المشهد العربي والأردني، وكان دمها طازجا وصوتها مسموعا، والمبدعون كانوا يعتبرونها هما شخصيا، ورغم الأحكام العرفية التي كانت سائدة في تلك الفترة، كان المثقفون يتعرضون للكثير من التعسف والمطاردة والسجون والمنع من العمل والسفر، ومع ذلك كانوا لا يتوقفون خوفا، بل تجد لديهم إصرارا حقيقيا على التغيير والتحرير والمعرفة، فترة الثمانينات كانت فترة تأسيس للأصالة والجدية، على كل المستويات وكانت الساحة الثقافية في الأردن تشهد بناء حقيقيا، وتمسكا بالثوابت الوطنية والإنسانية، وكانت رابطة الكتاب ملجأ حقيقيا للمثقفين، بل تعرفت فيها على العديد من المبدعين، وحتى مع إغلاقها عرفيا، ظلت حاضرة عربيا ومحليا، وكان للكلمة والقراءة في ذلك الوقت طعم مختلف، حيث كانت تقام العديد من الندوات والأمسيات والحوارات، ورغم الرقابة والمنع كانت تهرب الكتب الممنوعة نقرأها، وكانت الملاحق الثقافية جادة، وحريصة على تقديم التجارب الشابة، كل هذا قبل أن نشهد التحولات الكبرى في التكنولوجيا، وقبل أن نشهد الهزائم والإقليميات والتشظي السياسي والتغير المعرفي والسطحي، وكانت الكارثة في غزو العولمة والصهينة التي تحاول فرض نفسها بكل السبل.

*برأيك، لماذا اختفى الأديب والشاعر الظاهرة، وهل انتهى عصر وجيل العمالقة في الشعر، ما هي أسباب حالة الركود، وما السبل الكفيلة بإخراج المشهد الثقافي من ركوده؟ وما مدى تأثير الصراعات الشخصية في انزواء الحوارات الجادة التي تدعم المسيرة الثقافية؟

 ظاهرة الأديب والشاعر، ظاهرة تعني أن المجتمعات لا زالت بدائية تبحث عن ظواهر إدراكية ونجوم سماوية تتعلق بها، وحين تصبح الكتابة أمرا طبيعيا يستحيل أن يصبح الكاتب أي كاتب طاووسا أو صنما أو ظاهرة، أرى أن الطبيعي والصحي ألا تكون هناك ظواهر شعرية وعمالقة، وهذا يذكرني بكلام الراحل كارلوس فوانتيس الذي قال (إن الأدب لا يصنعه فرد ولا مجموعة أفراد ولا حتى جيل، إنه تعاقب ومشاركة حيث نقبل التراث ونأتي بالإبداع). لكن نحن نتشبث بالرموز والظواهر في الدين والثقافة والسياسة والفن، لذا فالمشهد الثقافي قد لا يكون راكدا، هناك أقلام تكتب وتبدع في ظروف أصعب بكثير من ظروف المعلم الظاهرة والشيخ الظاهرة والزعيم الإله، أولئك الذين حصلوا على موقع الريادة لأنهم انوجدوا قبل غيرهم، لا أكثر. لنهبط قليلا عن ثقافة الديكتاتور والنجم، وننزل إلى القناعة أن الأدب نهر واسع يملأه الشعراء والكتاب والفنانون والروائيون والنقاد والمفكرون والفلاسفة وحتى القراء الواعون، الكل يساهم في دفقه وجريانه.

أما غياب الحوارات الجادة، فهو لا يعني أن هناك انزواءً او انطفاء، بل عدم فهم لتقديم الثقافة، وتعزيز دورها في حياتنا، المهم ألا يبحث المبدع عن ثمن ما يصنع، وألا ينتظر مكافأة على ما يقوم به، الغريب لدينا أن كل كاتب ولا أقول كويتب وأصغر الصفات، أو شاعر، أو ناقد، يبحث فورا عن ثمن ما يقترف، ويريد تكريسا وتفرغا وراتبا وسفرا وقراء ونقادا وصحفيين، هذا يدل على أن غايتنا ليست الكتابة نفسها، بل مكاسب الكتابة السطحية، وهذا أسوا ما يقترف بحق الإبداع والأدب عموما، لا بد أن ينتهى زمن الأتاوات والخاوات والأجور. من شاء فليكتب لنفسه أولا ، ولسنا مطالبين بالعبودية لأحد مهما كان.

*يقول لوركا ’لم تُنظم بعدُ القصيدة التي تنغرز في القلب كما ينغرز السيف’ ما رأيك؟ هل كتبتَ القصيدة التي تنغرز في القلب كالسيف؟

 لم أكتب القصيدة التي أريد، إن كل ما كتبته محاولات للوصول إلى الطعنة الكاملة، أو إلى الكمال، ولا أظن أن هناك نصا سيبلغ الذورة، وحين نبلغها سنكف عن المحاولة، وحين يصدق الشاعر أنه كتب تلك القصيدة ينتهي، ويذوي من الداخل كما تذوي حبة المشمش، لكن تعبير لوركا تعبير شعري بامتياز، فالشعر هو ما يطعن الخاصرة، وما ينغرز في قلب كاتبه قبل أن يصيب الجرحى.

*في (موتى يجُرُّن السماء) مرارة شديدة، وما يميزها أنها قصائد عابقة بكل ما في المنفى من تفاصيل اللجوء والشقاء والحرمان والحنين، وما يميز هذه التجربة فنياً هو استخدامكم للعديد من التقنيات الإبداعية من تداعي وتذكار وتقطيع سينمائي، إضافة إلى بعض الحيل السردية والروائية، فهل تعود هذه المرارة إلى نزوع خفي نحو الوحدة والتأمل الروحي؟ أم جدب الواقع الإنساني والاجتماعي؟

 نعم هذا سؤال مشروع، هنا ألم كبير يربض في الروح، يتجلى ظهوره في أشكال عديدة، لكن مصدره واحد وأشكاله متعددة، ألم البعد عن الوطن، وسوء أحواله، وفقدان متعة كراهيته، لو كان حرا ومستقلا وناضجا. شقاء الحرمان من صياغة الوجود، ألم الحنين إلى المعنى المستحيل، ألم القيد الثقيل والسجن الذي يخنق الروح، وندم المكان المتلاشي في الذاكرة. هذه بعض الآلام، أما التقنيات فهي ليست درج سيراميك أرتبه وفق مشيئة حداثوية، الكلمات وطريقة ولادتها تفرضها حالة الشقاء والألم، التي تدفع قطعان الكلمات التى تشكل القصيدة إلى برية الورق، وفضائها الملموس، تلك غريزة البقاء والتشبث، التي ربما تتخفى في ثنايا المقاطع، وتحت أصابع الكلمات.

أما حالة الجدب التي أشرت إليها؛ فهو ما يغلق باب الروح ويفرض شروط العزلة رويدا، في واقع يتشظى مثل مرايا متكسرة، تتوزع الشظايا داخل حنايا الصدر، ثم تنتشر بطيئا في خلايا العقل والقصيدة، هل نحن محتومون بالعزلة، وهل يمكن للشاعر أن يصعد خارج الغلاف الجوي، ويرى نفسه سعيدا في ظلال النعيم، ربما تساعده المخدرات على ذلك، لكن الشاعر ابن الأرض، ولا يخطو فوق الغيوم، وهذا مصدر العذاب الحقيقي.

*السموع ..ماذا تعني لك الآن بعد كل هذا الغياب عنها، هل تفتقدها ؟

 أفكر بالمستحيل كي أدفن فيها كما قال ماركيز، ربما لا تلائم روحي لكنها تلائم جثتي، وفي إهدائي إلى أبي وأمي، في ’سلالتي الريح’ كتبت: (رَحَلا دون أن أراهما، وَدُفِنا وأنا بعيدٌ عنهما؛ إليهما معا أُرَقِّي هذه الريح، آملاً أن تنعشَ روحيهما، وهما يهيئان لي قبراً جميلاً بينهما).

نعم أتمنى، ولعلي أجد بين قبريهما، مكاناً يحضن جثتي، هذا ما أطمح إليه بعد كل هذه السنوات من المنفى، لا أستطيع أن أعرف إن كانت تلائم روحي أو لا، فلست حراً، ولا أملك العودة إليها وقتما أشاء، تلك القرية التي ضمت رفاة الذين أحبهم، ورفاة تلك الذكريات، وجثة الماضي كله، تستحق أن أستذكر أيضا ما قالته إحدى شخصيات ماركيز، حين دفنوا أحد الموتى في أرض مروا منها، (هنا صار لنا مكان نحن إليه)، والحنين وحش المنفى بلا منازع، كما أن الندم وحش الهناء، لكن من يملك إعادة ترتيب الحياة، ومن يقدر أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء؛ لقد فشلنا في كل درج صعدناه، وخسرنا كل معركة خضناها، وفقدنا الحضن الأول، والعتبة الأولى، ولم نربح إلا الخسارات والهزائم والفقدان، هل يكون لائقا أن نكابر اليوم، وندَّعي أننا انتصرنا، وكتبنا، وربحنا الخلود، لم نفز إلا بالمرارة، وحتى النساء اللواتي تعلمنا الحب والحبو على أيديهن، لم يعدن ناضجات مثل أغصان العمر، الذي بدأ ينشف، ويلملم أوراقه باحثاً عن مأوى في قبر، بين والدين تركا عناء الأساطير، ومضيا بلا أسف إلى راحة الطين.

* موسى حوامدة، أخيراً، وبعد أن تُرجمت بعض قصائدكم للفرنسية والانجليزية والألمانية والكردية والتركية والرومانية والسويدية، وبعد الكثير من المهرجانات والمشاركات الخارجية في العديد من الدول ومنها على سبيل المثال لا الحصر، إيران وتركيا وجمهورية مصر العربية، كيف تنظر إلى الكلمة؟ وما الذي تريده من الكتابة؟

لعل أول ما أريده من الكتابة؛ معرفة نفسي وكينونتي وهويتي، تغيير ما لا بد أن يطرأ جراء إحساسك؛ أن بعض ما تكتبه قد يتحول إلى لغة ثانية، وقد يطِّلع عليه قارئ غير عربي، ترويض ذئاب شرسة تمور داخلك، لا كراهية في الآخر، بل إحساس بأن الظلم الذي وقع عليك، قد يكون مفهوما لدى آخرين، لا يتكلمون لغتك، لكنهم يحسون بك، وبقصيدتك، وبجزء من ألمك الشخصي والعام.

وما أريده من الكتابة أيضا؛ فهو تغيير الكثير من المفاهيم السائدة، تغيير النظرة للقصيدة وللأدب، وأن ليس الأدب والشعر مجرد كلمات سهلة مجانية، يكتبها إنسان يحس بالسأم والملل من الحياة، أو بغرض تقليد ابن جيرانه، أو زميله في المدرسة والجامعة، أو لجذب قلب امرأة أعجب بها، بل نار داخلية تسعى لحرق الكثير من الأوراق الجافة، والنظريات البالية، والعادات السيئة، وطرق التفكير التقليدية.

كثير ما أسعى له من وراء الكتابة، لكن هذا ما يدور في رأسي، وما أحلم به حالياً، أعرف أن الكلمة ما زالت تحمل خطورتها، لكنها خطورة ذات حدين؛ خطورة تتضمن سوء الفهم، وقوة الوصول والإدراك، والترجمة مسار من مسارات الوصول، إن أحسن استثمارها، ربما تصل إلى لغة أخرى بطريقة أفضل.

نضال القاسم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى