فنــجان مقلـــوب
" أرجوك يا حبيبة لا تذرفي دمع عينيك، لأنني لا أطيق أن أراك حزينة وتعلمين كم أنا أكره الدمع والوداع، إنني راحلٌ عنك ومُحمّلٌ بأروع الذكريات التي كتبناها سوياً على صفحات الوجد والحب، ذكريات من المحال أن أنساها أو أتناساها مهما مرت الأيام. نعم إنه الزمان الخؤون يا حبيبة.
أرجوك لا تظلميني أو تتهميني بالهروب، لكن يؤسفني أن حساب القلب يختلف تماماً عن حساب المنطق. عليّ أن أعود إلى وطني وإلى جذوري، إلى أهلي وخلاني، بعدما كنت لي الحبيبة والصديقة، كنت السند والأمل، كنت كل شيء في حياتي.
ما أصعب لحظة الفراق، وما أصعب أن يرغم المرء على المشي في طريق دون رغبة أو إرادة. لكم كنت أود ألا نفترق، لكم حلمت أن تكوني لي الزوجة المخلصة، والأم الحنون لأولادي، لكنك لن تستطيعي الانسجام مع عاداتنا الشرقية.
لا. . لا تمسحي دمع عينيّ، دعيه ينذرف ويسيل، علّه يمسح بعض حزني على فراقك، فأنا لا أعبأ بمن حولنا، ولا بنظراتهم الغنية بآيات التعجب والتساؤل. نعم. . إن الرجال يبكون ولم لا، ما دام القدر مراً وقاسياً، وما دام الحب أشواكاً وأحزاناً، والوداع والفراق هما النهاية؟ " .
كانت هذه الكلمات المعتصرة من فؤاده الدامي والدامع قد خرجت مضطربة في ذلك المقهى الصغير المطل على البوسفور. المقهى نفسه والموسم نفسه، موسم الشتاء القارس الماطر.
الطاولات والمقاعد الخشبية القديمة نفسها، الرائحة المتميزة والعبقة نفسها، إنها رائحة الحبيبة، رائحة عطرها الذي كانت تنثره من أنفاسها العبقة.
أجل لقد عاد إلى المقهى نفسه بعد مرور /20/ عاماً، يا إلهي. . كيف مضت السنون دون أن يشعر بمرورها، فقد عاد بشعرٍ أبيض، وبوجنات تحمل بعضاً من خطوط الزمن القاسي. عاد لأمورٍ تجارية بعد أن أصبح رجل أعمال غنياً، وبعد أن صار له زوجة وأولاد. وأول شيء قام به بعد وصوله إلى الفندق، أن اتجه إلى ذلك المقهى القديم.
أعاد هذا المقهى إلى وجدانه ذكراها وذكرى أيام الدراسة، حين كانا يشربان القهوة، وكانت تأخذ فنجانه لتقرأ له. كانت دوماً تعطيه حلو الكلام المفعم بالأمل والنجاح. وصارت عادة أن تقرأ له فنجانه المقلوب، وصار العم أحمد صاحب المقهى صديقهما وهو يعرف قصة حبهما، بل يقدم لهما القهوة قبل أن يطلباها منه.
ولكن لم يجد العم أحمد، ووجد مكانه شاباً وسيماً تقدم منه بكل لطفٍ وأدب قاطعاً سلسلة أفكاره وذكرياته سائلاً إياه عما يود احتساءه، فتأمل وجه الشاب طويلاً ثم قال: "فنجان قهوة سادة لو سمحت".
جاءه فنجان القهوة الساخن وبرائحته المتميزة الرائعة، فبدأ يحتسيه رويداً رويداً، متمتعاً بنكهة القهوة التركية، عائداً للسباحة في فضاء الخيال وبحر الماضي العميق والغني بالأسرار والأحزان.
أسئلة كثيرة بدأت تدور في خاطره وهو يجتر الأيام ويعتصر كل بقايا الحلم، كان منها:
لماذا لم أكن جريئاً؟
لماذا افترقنا ؟
لماذا تزوجت على الطريقة التقليدية التي كنت أرفضها؟
هل كان ذلك لإرضاء والديّ؟
لماذا أنا هنا؟. هل هو دليل على ندمي وشوقي؟، أم هو دليل على أني لا زلت أحبها؟ أم أنني جئت آملاً أن ألقاها هنا ترى من يدري أو يعلم أين هي الآن، فمن المؤكد أنها قد تزوجت وصارت أماً لعدد من الأولاد. ترى أين أنت الآن؟ وهل مررت اليوم على هذا المقهى، أم أنك لم تعودي تزورينه بعد آخر لقاء كان بيننا؟ أتراك الآن تداعبين قطتك أم تلاعبين أولادك أم أنك تحضرين الطعام؟
بينما كان يتأمل مرور البواخر والقوارب في هذا المضيق الواصل بين البحر الأسود وبحر مرمرة، سمع قهقهة كانت السبب في عودته إلى شاطئ الواقع والحاضر. وبدأ يتلفت باحثاً عن المصدر، فوجد شاباً وفتاة جالسين عن كثب والفتاة بين يديها فنجان حبيبها المقلوب وكانت تقرأ له وهو يصغي إليها بكل دقةٍ وانتباه؛ لوحة رائعة بألوانٍ حية أعادت آخر الألوان الرائعة التي ارتسمت في وجدانه فرسم ابتسامة صغيرة وهو يتأمل هذا المشهد بعد خمسة عشر عاماً، ولكن الوجوه تغيرت، على الرغم من أن المكان هو المكان.
رشف آخر رشفة من فنجانه، ونهض تاركاً ورقة نقدية تحت طبق الفنجان، ثم توجه إلى الشاب رابتاً على كتفه هامساً في أذنه ثم خرج تاركاً كل شيء يذكره بالماضي، وبعد خروجه تساءلت الفتاة وبكل فضول عما همسه الرجل في أذن حبيبها، فأجابها متبسماً, قال لي: "يا ولدي إياك أن تبتعد أو تتخلى عنها، فالحب يا ولدي تضحية وعمل وإلا لن يتحقق أي شيءٍ من فنجانك المقلوب".