ليلة رأس السنة
أختي الحبيبة والغالية...
في هذه الليلة الباردة، ومع تساقط الثلوج بغزارة، وبينما خرج الجميع نحو شوارع مدينة نيويورك، سعيداً مبتهجاً لقدوم عام جديد، شعرت وكالعادة بوحدة مرة قاتلة، وبمشاعر حزن واكتئاب تتناحر في أعماقي وتود الخروج والهرب، فتنهمر الدموع من مقلتي يا أختاه وأجد أنني بحاجة ماسة إلى الكتابة، فآثرت وكعادتي أن أسكب إليك بعضاً من بنات أفكاري وآهاتي، عبر رسالتي هذه المخطوطة بدموع ملتهبة تأكل من أعماقي وكياني.
أُختاه إنها ليلة رأس السنة الميلادية، ولا أملك القدرة على التعريف بما ينتابني من مشاعر متوقدة، أهي مشاعر سعادة وفرح لاستقبال عام جديد، نجد فيه الأمل والتفاؤل، أم أنها مشاعر حزن وألم على عام قد مضى من دون أن نستغله أو نوظفه بالشكل الصحيح؟
ياإلهي كم تمر السنون بسرعة، أقرب إلى سرعة البرق، ونقف بين الحين والآخر وقفة تأمل وعبرة على أطلال ذكريات قد جمعتنا مع الأهل والأحبة، وبات من المحال أن نستعيد تلك الذكريات.. أو نسترجع من رحل عنا..
أجلس يا أختي هذه الليلة وحيدة، بعد أن خرج زوجي وابنتنا آمنة إلى شوارع نيويورك كي يستمتعا بمتابعة الألعاب النارية، وقد أصرّا على أن أرافقهما، بيد أني آثرت البقاء في البيت وحيدة، لأتابع سقوط الثلج من نافذتي الواسعة والمطلة على الشارع الرئيس، وأنا باحثة عن الوحدة التي نحتاج إليها بين الحين والآخر، فلطالما باتت لحظات الوحدة والصفاء والجلوس مع النفس من اللحظات النادرة في حياتنا، بعدما سرقنا العمر بكَمّ هائل من المسؤوليات والارتباطات، ولم نعد نملك الوقت الكافي لنجلس مع أنفسنا ولو للحظات، أو لاسترجاع ذكريات الطفولة والمرح، ذكرياتي معكم يا أختاه.
أختي الغالية.. يجتاحني حنين عارم إليكم، فتحملني أمواج ذاك الحنين وتقذفني نحو شاطئ الذكريات، وتتحول تلك الذكريات إلى مصدر سعادة أو ألم في بعض الأحيان، فأتذكر بيتنا القديم بفنائه الواسع، وأتذكر غرفه المحيطة به، وأتذكّر أبي رحمه الله.. كيف كان يجلس بجوار النافورة المتوسطة صحن البيت، محتسياً فنجاناً من القهوة، وهو يلاعبنا ويمرح معنا، وأذكر معاناته المريرة مع مرض السكر، وقد انعكس على بصره، ليفقده رويداً رويداً، ولطالما نصحه الأطباء بأن يبتعد عن الحلويات، والأطعمة الدسمة، ولكنه لم يرحم نفسه، ولم يرحمنا معه، فرحل عنا وهو في سن الشباب، لتقع على عاتق والدتي المسؤولية الكبرى في تربيتنا، وكانت مصرة على تعليمنا ولو كنا بناتاً، فلجأت لتعلّم مهنة الخياطة، وبدأت تحقق لنا هذه المهنة دخلاً مادياً يغطي تكاليف الدراسة، وكنت يا أختاه أنموذجاً مصغراً عن والدتي، بالحب والحنان، وأنت تتابعين دروسي وواجباتي المدرسية، وتساندينني، وتساعدينني إلى أن أتممت المرحلة الجامعية، رغم توقفك عن الدراسة وعملك مع والدتي بالخياطة.
وأذكر تأييدك لمشروع زواجي من المعيد الذي تقدم إليّ في الكلية، وأذكر دموع السعادة وهي تنهمر من عينيك، وأنت تحضرين لي ملابس الزفاف، فقد آثرت أن تبقي عزباء، وتضحيّ بسعادتك لأجلي ولأجل والدتنا العظيمة، التي فقدت صحتها ولم تعدّ تستطع الحياكة.
وأذكر اليوم الذي أعلمني فيه زوجي بأنه قد حصل على منحة دراسية في أمريكا، لمتابعة تحصيله العلمي، وللحصول على درجة الدكتوراه، حينها شعرت بألم شديد عندما طلب مني أن أرافقه، وتعلمين مدى تعلقي بكم.
يا إلهي.. يا أختاه أتذكر دعمك وإصرارك أن أكون دائماً القوية والمتماسكة، وأذكر لحظة الوداع في المطار، وأنت تحتبسين الدموع الملتهبة في مقلتيك، كيلا أشعر بالضعف أو الانهيار، راجية منك أن تعتني بوالدتنا العجوز التي لم تستطع أن تأتي إلى المطار.
ووصلنا إلى أمريكا يا أختاه، وغادرنا مطار (جون كينيدي) في نيويورك وأنا متفحصة ما حولي وبتعجب، الناس، الشوارع الواسعة، الأبنية البرجية المرتفعة، الساحات، الحدائق، الأنفاق والجسور، وغيره من معالم تلك المدينة المخيفة للوهلة الأولى. وبعد فترة قصيرة دخل زوجي في دوامة الدراسة والتحضير للدكتوراه، وبدأت أنا أيضاً محاولة شغل وقتي بتعلم اللغة الإنجليزية، وبعد سنة تقريباً أكرمنا الله بأجمل وأروع هدية تزين حياتي وتملأ وقتي، فقد رزقنا الله بمولودة رائعة، ولا يمكن أن أنسى ليلة ولادتها، فقد كانت ولادتها في شهر مارس، وكانت الثلوج تغطي نيويورك وشوارعها، وكان هناك عواصف ثلجية، وكميات هائلة من الثلوج المتراكمة، التي شلّت حركة السير، ونقلني زوجي وبصعوبة بالغة إلى أقرب مشفى، وبعد ساعات طويلة من المخاض وأنا أصرخ باكية وممسكة بيد زوجي، سمعت صوت بكاء ابنتنا العذب، وبدأنا نبكي معها، وبكت الممرضات معنا أيضاً، وبعد أن استحمت ولفت بغطاء زهري رائع قدموها إلي فبدأت بتقبيلها، وأرضعتها قليلاً، ثم تناولها زوجي ليؤذن بإذنها باكياً، ثم قال لي: "حبيبتي.. ما رأيك بأن نسميها آمنة.. على اسم والدتك.. رحمها الله"، عندها صرختُ وببكاء هستيري، فاق بكائي وصراخي أثناء الولادة: ماذا؟
– هل توفيت أمي؟ متى؟
– وكيف؟ ولماذا لم تخبرني؟
وكثير من التساؤلات كنت أطرحها على زوجي، وعانقني زوجي باكياً قائلاً: بل إنها لم تمت يا حبيبتي، إنها انتقلت إلى الرفيق الأعلى، وأكرمنا الله ببديل عنها، انظري إلى ابنتنا كم تشبه والدتك بنورانية وجهها وسماحته.
أجل يا أختاه كانت والدتنا متوفاة قبل يوم من ولادة آمنة الصغيرة، ولم يعلمني زوجي، كيلا أحزن أو أتأثر. وأذكر يا أختاه اتصالك بي وأنا بالمتشفى لتباركي قائلة: أختي الدلوعة.. أريدك أن تظلي قوية ومتماسكة كما عهدتك، فكوني لزوجك السند، ولابنتك الصديقة والمرشدة..
مضت خمس سنوات وصارت آمنة أختي الصغيرة، وصديقتي، وصرنا نرسم ونلّون ونلعب معاً، وأشرح لها عن بيئتنا الشرقية، وعن عاداتنا وديننا ومفاهيمنا وتقاليدنا.. أشرح لها عن الياسمين وعن رائحته الزكية، أشرح لها عن الفلّ والزنبق، عن الورد الجوري والقرنفل، أشرح لها عن قطتنا الشقراء المدللة، أشرح وأشرح وأقول لها بأننا سنعود قريباً يا حبيبتي إلى ديارنا.
وأخيراً تخرّج زوجي، وبتقدير ممتاز حاصلاً على درجة الدكتوراه، وقد فاجأني بأنه قد حصل على عرض مغرٍ من الكلية ويودّ البقاء بأمريكا، وتضايقت لهذا القرار ورجوته بالعودة، لأن الوطن بحاجة إليه ولأمثاله، وبعد إصرار وافق على العودة.
بالمناسبة أود أن أزفّ لك نبأً ساراً آخراً مؤمنة بأنه سيسعدك، فأنا حامل بالشهر السادس، وأعلمتني الدكتورة بأن الجنين أنثى، وقد قرّرنا من الآن أنا وزوجي أن يكون اسمها على اسمك أنت، لما قدّمتِه لنا من دعم ومساعدة.
أخيراً أعدك يا أختاه أن نعود قريباً وبعد ولادتي بياسمين، لنزور حيّنا القديم وبيتنا المهجور، وبالطبع سنزورك يا أختاه، وستشعرين بسعادة وطمأنينة، عند زيارتنا، ولو كنت يا أختاه.. تحت الثرى!