الأربعاء ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم سليمان أبو ستة

في البنية الإيقاعية لشعر خميس لطفي

ارتبط ظهور الشاعر خميس لطفي بالثورة الإعلامية الكبرى وخاصة على صفحات المواقع الإلكترونية في مطلع الألفية الثانية. ولا يعني ذلك أن بدايات الشاعر كانت مرافقة لفورة الإعلام هذه أو أنها نمت بنموه، كل ما في الأمر أن مخزون الشعر في داخله قد انفجر مع بواكير انفجار انتفاضة الأقصى، بعد أن ظل حبيسا في صدره أو أوراقه المخبأة طيّ أدراجه المنسية، ربما منذ زمن الطفولة أو الصبا المبكر.

إن الشاعر من مواليد عام النكبة الفلسطينية، وهو منذ مولده وحتى تاريخ خروجه من القطاع عام 1968م، لمواصلة تعليمه، لم يرفع يده بالتحية كل صباح مدرسي إلا لعلم واحد هو علم فلسطين. لقد كانت تلك الفترة من شبابه ملأى بالزخم الوطني وأحلام التحرير التي داعبت أذهان الكثيرين من مجايليه، وأنا أحدهم، ولذلك فإني أستغرب كيف لم تفجر انطلاقة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م مكامن الشعر الوطني عنده آنذاك. لقد ظل هذا السؤال يلح على ذهني، وكنت أود أن أسأله إياه بعد لقائي به مرتين، مع بعض الأخوة وقد دعانا في إحداهما إلى بيته. ولقد كان سبب إلحاح هذا السؤال الذي لم أسمع منه، أو من غيره حتى الآن، إجابة عليه هو ما لمسته من نضج فني في هذه القصائد (الأولى) لشاعر لم نقرأ له إلا بعد أن جاوز الخمسين من عمره، وكذلك فإن حدثا داخليا ظل ينبئني بأنه كان متصلا بالشعر نظما أو تذوقا في تلك الفترة، وهو ما أحسست به من تعليق له على بعض قصائدي القديمة، وكانت من الوافر، بأن هذا الوزن كان سائدا في تلك الفترة من الستينيات. وأخيرا، وأثناء إعدادي لهذا البحث، اطلعت على حديث أجري معه بتاريخ 4/10/2003م قال فيه: «لم تتح لي إقامتي في الغرب ولا طبيعة دراستي وعملي أن آخذ موضوع الشعر على محمل الجد، وكنت أكتفي بنشر ما أكتبه في بعض الصحف والمجلات أو أرسله إلى بعض البرامج الإذاعية. وما زلت أعتبر نفسي هاويا وأدين لانتفاضة الأقصى ولتلك التي سبقتها بكل ما كتبته من أشعار في السنوات الأخيرة، فهما اللتان حركتا ما كان كامنا في داخلي من موهبة شعرية، ومشاعر وطنية»

وقد قال في الذكرى السنوية الثالثة على انطلاقة انتفاضة الأقصى:

أعودُ لأقرأَ ما قلتُهُ عنكِ،
قبل ثلاثِ سنينَ هنا.
وأسألُ نفسي إذا كنتُ قد قلتُ
ذاكَ الكلامَ الجميلَ، أنا!
وكنتُ مجرَّدَ هاوٍ،
فكيفَ،
فرضتِ عليَّ احترافَ الغِنا؟!
وكيف دخلتِ لقلبي وفيهِ،
تربَّعتِ،
من دون أن آذنا؟

وكنت أتمنى لو أن خميس أرخ لقصائده كما هي عادة الكثير من الشعراء، إذن لكان جنبنا عناء تقدير ذلك التاريخ، خصوصا وأنه ضمّن ديوانه الأول بعض ما كتبه قبل الانتفاضة الثانية، قال في قصيدة "عندما حدثت البحر":

قالوا:«سنرجعُ»،
طفلاً كنتُ حينئذٍ
واليومَ قارَبَت الخمسينَ أعوامي

ثم إني أذكر أنه، رحمه الله، كتب لي عام 2005 م قائلا إن قصيدته "الكرسي الفنان" تعود إلى ما قبل خمسة عشر عاما، ما يعني أنه نظمها عام 1990م (بعد الانتفاضة الأولى التي انطلقت في ديسمبر 1987م)، أي وهو في نحو الأربعين من عمره.

إن مسألة تأريخ أرشيف كامل لقصائد الشاعر خميس تعتبر ضرورية للباحث وخاصة إذا علمنا أن هذا الأرشيف المؤرخ سيكشف لنا عن قصائد قديمة، وربما يتكشف أيضا عن حصيلة جديدة من الأوزان والضروب التي لم تدخل في هذه الدراسة بعد.

ولقد وضع الشاعر في العقد الأخير ثلاثة دواويين، أولها عام 2004م بعنوان (وطني معي)، والثاني عام 2006م بعنوان (عد غدا أيها الملاك) والأخير عام 2009م بعنوان (على خط التماس ). أما الأول منها فاطلعت عليه كاملا على الشبكة العنكبوتية، وأما الآخران فبشكل متفرق مما حاولت جمعه من المواقع التي نشرت له قصائده. وقد كان له موقع خاص به، إلا أنه لم يعد الآن قائما.

على الأول، إذن، من هذه الدوايين الثلاثة سأعتمد في بحثي عن ملامح البنية الإيقاعية في شعر خميس لطفي، وكذلك على ما تفرق تشره بأرجاء الشبكة العنكبوتية، آملا أن أجد فيها الكفاية لتحديد هذه الملامح التي تميز بها شعره العذب السلس والمناضل معا.

القسم الأول : الإطار الوزني

البحور المستعملة في شعره وضروبها عنده:

استعمل خميس من الأوزان الخمسة عشر التي ذكرها الخليل ثمانية بحور هي البسيط، والوافر، والكامل، والرجز، والرمل، والخفيف، والمجتث، والمتقارب. كما استعمل بحرين آخرين لم يذكرهما الخليل، هما المتدارك والخبب. وأما البحور التي لم ينظم عليها فبلغت سبعة وهي الطويل، والمديد، والهزج، والسريع، والمنسرح، والمضارع، والمقتضب. وقد نبرّر له عدم استعمال هذين البحرين الأخيرين بحجة ندرتهما في الشعر القديم والحديث، إلا أن ما بقي من البحور غير مستعمل عنده، وهو ليس بقليل، لا يمكن تبريره إلا بافتراض أحد أمرين: الأول أن ما وقفت عليه من أشعاره لا يمثل كامل شعره، والثاني احتمال أن يعود سبب تجنبه لها إلى غلبة الطابع الكلاسيكي على نظمها، لا سيما وأن أيا منها لم يستعمل استعمال الشعر التفعيلي الحديث إلا عند القلة من الشعراء المعاصرين.

وقد استعمل من البسيط ثلاثة ضروب، الأول كقوله:

هل هذه أنت؟! أم أن الخيال بدا
كواقع لي، وذاك الصوت كان صدى

والثاني كقوله:

رجعت لي بعد أحزان وآلام
فأشرقت، من جديد، شمس أيامي

والضرب السادس الذي سماه الخليل مخلع البسيط كقوله:

وقعت في الحب يا صديقي
وغرني أول الطريق

واستعمل من الوافر العمودي مجزوءه، كما في قوله:

أنا المدعو غزي
أصيل وابن غزية

ومن بحرالكامل بيته الرابع في قوله:

فقري هناك وأنت لي ترف
وغناي يا وطني هنا شظف

وبيته الخامس أيضا في قوله:

تجري دماك فترقب المجرى
وتموت أنت فتكتب الشعرا

واستعمل سداسي الكامل المرفل، الذي لم يذكره الخليل، في قوله:

لو كنتِ مثل الأخريات أكنتُ في
بحر العيون السود أغرق والكحيلة

كما استعمل منه ضربا، لم يذكره الخليل أيضا، هو السداسي المذال كما في قوله:

في كل أسبوع ـ كعادتها الجميـــ
ــلـة منذ أعوام ـ تراسلني دلال

واستعمل أيضا سادس الكامل المجزوء المرفل في قوله:

في البدء كنا نحن والـ
أقصى وكانت إيلياء

كما استعمل سابع الكامل المجزوء المذال، في قوله:

أنت المسافر في الغما
م وأنت للنفس المرامْ

واستعمل ثامن الكامل، وهو المجزوء، في قوله:

قل لي كلاما مقنعا
إن شئت أن نبقى معا

وأما الرجز فقد استعمل من ضروبه العمودية مجزوءه الذي ذكره الخليل وهو قوله:

أنا الذي قالت له
الأشجار حلق فوقنا

واستعمل أيضا مجزوءه المقطوع، الذي لم يذكره الخليل، في قوله:

أراك في الصباح والــ
ــمساء والظهيرة
في كل وقت من خلا
ل شاشتي الصغيرة

ومما لم يذكره الخليل أيضا، استعمل مجزوء الرجز، الأحذ الضرب، نحو قوله:

والآن حيث لم يزل
في زادنا عسل
واساقطت أوراقنا
وزهرنا ذبل

وكذلك استعمل مجزوءه الأحذ المذال، ولم يذكره الخليل أيضا، قال:

هاأنت منهك القوى
مكسَّر الأطرافْ
ما زلتَ حيث كنتَ والـ
أيام في انصرافْ

واستعمل ثالث الرمل، في قوله:

لم يمت من عند ياسين ذهب
ورأى عياش أو لاقى شنب

وخامس الرمل أيضا، وهو المجزوء، في قوله:

جئت في وقتي أم لا
افتحوا الباب وإلا

وكذلك سادسه، كما في قوله :

هذه المرة مرت
هكذا دون ألمْ

واستعمل هذا المجزوء أيضا ولكن بضرب مقصور، كقوله:

هكذا في كل مرة
داميا تأتي إليّ

وهذا النوع من القصر بجعل الضرب أقرب إلى (فاعلان) منه إلى (فاعلن) حين ينتهي بساكن مضعف..
واستعمل الخفيف في قوله:

عندما لا يمر وقتي بسرعة
وبقلبي المشتاق تعصف لوعة

ومجزوء الخفيف في قوله:

طلع البدر والغسق
زال ، فانتابني القلق

واستعمل مجزوء الخفيف بعروض مذال، كقوله:

أسعد الله لي مساكْ
يا ملاكي ، وجمّلهْ

وهو ما لم يقل به الخليل، والواقع أن كل شطر يعد بيتا بحاله ينتهي بضرب لا عروض ، وذلك لأن الوقف عليه تام.

واستعمل المجتث في قوله:

هواك في القلب جمرهْ
وحرقة مستمرهْ

واستعمل من المتقارب أوله وهو قوله:

على أرضنا لم يعمر دخيلُ
وتاريخنا شاهد ودليلُ

واستعمل ثاني المتقارب في قوله:

أيرثيك من لا يجيد الرثاءْ
ولم تك والميتين سواءْ

واستعمل ثالث المتقارب في قوله:

أعود لأقرأ ما قلته عنك
قبل ثلاث سنين هنا

واستعمل مجزوء المتقارب الذي ذكره الخليل، ولكن بعروض وضرب صحيحين، نحو قوله:

أعد لي آخر جملهْ
وقل ما تحاول قولهْ

واستعمل الخبب، الذي لم يذكره الخليل في نظامه، وذلك في قوله:

خشبيّ أصلي خشبيّ زانْ
صممني نجار فنّانْ

وأخيرا، استعمل منهوك المتدارك في قوله:

هكذا فجأة
نال منك الردى
لم تكن متعبا
لم تكن مجهدا

واستعمل من الشكل التفعيلي الحر ستة أوزان هي الوافر والكامل والرجز والرمل والمتقارب والمتدارك، وهذا أقصى ما يتبعه الشعراء في هذه البحور التي تقوم على تكرار تفعيلة واحدة. أما الهزج فإنه يدخل عندهم مع الوافر أو يتجنبونه تماما. ولعل من المستغرب هنا، أنه لم يستعمل الخبب في شكله الحر، ومع ذلك فاستخدامه العمودي له قليل أيضا.

في زحافاته وعلله:

قليلا ما نجد الشاعر يلجأ إلى زحاف مستقبح ثقيل، حتى وإن عده الخليل جائزا. ومن تلك الحالات القليلة التي لاحظتها في بعض قصائده، كف فاعلاتن في حشو الرمل وعروضه، نحو قوله من قصيدة "هذه ليلة رأسي":

كيف بالله (عليك)
قد قلبت الجد هزلا

وقوله:

أم تراه محض جهل
فيك (أنت)، ليس إلا

وقوله :

إنني أعجب (منك)
إنني أعجب فعلا

ومنها أيضا ما وقع في عروض قصيدته "قلعة"، وهي من الخفيف، حيث يقول:

ليتني كنتُ غيمةً في (سماكِ)
ليتني كنتُ ، في لياليكِ ، شمعة

وكذلك قوله في قصيدة "المهاجر" وهي من الخفيف أيضا:

هل تُرى صرتِ حرةً أم (تراكِِ)
لا تزالينَ عبدةً وسجينهْ؟

وقوله من قصيدة "لمن يغني المغني"، وهي من المقتضب:

ويعتريه (عليكِ)
من نسمة الريح خوفُ

ومع ذلك يغلب على خميس أن يتبع غريزته الإيقاعية في تحسس سلامة الوزن وتجنب الثقل فيه حتى وإن أجازه الخليل. قرأت له مرة رأيا ذكره في أحد المنتديات حول البيتين التاليين:
الأول:

لقد خلت حقب (صروفها) عجب
فأحدثت غيراً (وأعقبت) دولا
والثاني:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

قال: <<البيتان أعلاه من البحر البسيط ولكن المرء يحس هنا باختلاف النغمة بينهما ولكن في الواقع نادرا ما تجد أحداً يكتب على نغمة البيت الأول مع أنها صحيحة حسب عروض البحر البسيط .والخلاصة أن النغمة قد تخدع المرء أحيانا . ولذلك من الأفضل ألا يبتعد الشاعر كثيرا عن النغمة الأصلية للبحر.>>

وهو يعني أن في حشو البيت الأول زحاف القبض الثقيل الذي تلافاه الشاعر الآخر في البيت الثاني.

ولم يبتعد خميس كثيرا عن النغمة الأصلية حين شعّث ضرب المجتث، في قوله:

في صبحها ومساها
تشكو إلى مولاها
والشوقُ قد نال منها
والشكُّ قد أشقاها
تقولُ: هل خانني أم
ضلَّ الطريقَ وتاها؟!
ولم يذكر الخليل التشعيث في المجتث.

ومع ذلك، فليس كل تغيير بسيط في النغمة يعد مقبولا، فقد ظن، رحمه الله، أن التشعيث قد يصلح في عروض المجتث في غير التصريع، فجاء بذلك في بيت واحد من قصيدته "العراب"، وهو قوله:

وبينما من (جُحْرٍٍ)
قد يلدغ المرء مرّهْ

وظن أيضا أن عروض البسيط يمكن أن يجيء في غير التصريع على زنة (فَعْلن) بتسكين العين، فجاء بها في قصيدته "أمسكي الدفة" ست مرات، كما في قوله:

بل قلت طِرْ بي وحلّق عاليا (واصعد)
أعلى وأعلى وكن في غاية الخفّهْ

وقوله:

إلى "القطاع" أحيّي أهله (فرداً)
فردا وأهدي تحياتي إلى الضفّهْ

وقوله:

كان العدو عدوا واحدا (صرنا)
نرى صفوفا من الأعداء مصطفهْ

وقوله:

ما أتفه المدعي أن الذي (يجري)
حرب على بؤر الإرهاب، ما أتفهْ

وأخيرا قوله في هذه القصيدة:

صرنا نموتُ، وما من قائلٍ: " (يكفى) "!
يا عالَماً لم تعد في قلبه رأفهْ !!
لن ينزعوا الحب من أعماقنا (حتى)
لو حاصرونا ، طوال العمر في غرفهْ

وفي هذه القصيدة أيضا يقف الشاعر على الحركة في قوله:

ما قلتُ للحب يوما: أين تأخذني؟**ولا متى؟ أو لماذا الآنَ؟ أو كيفَََ؟

وقوله:

عامان مرَّا، ومازال الحصار على
أشدهِ، ودمُ الأطفال ما جفَّ

ولا تستقيم القافية إلا بافتراض هاء سكت في نهاية البيتين، وهو ما كان يجب كتابته أو التنبيه عليه.

وعلى نحو من ذلك، قال في قصيدته "الأخرون" وهي من خامس الكامل:

الآخرون كلامهم (هزْلٌ)
وأنا كلامي كله جَدّي
................
كل له وطن ولي (منفى)
والسيد المنفيّ كالعبدِ
..............
وأذود منفردا عن (الأقصى)
وكأنه ملكي ، أنا وحدي
بيدي أصفق بينما (شلت)
حولي ملايين من الأيدي

ومثل ذلك ما جاء في قصيدته "يا أيها الغزّي" وأولها:

تجري دماك فنرقب المجرى
وتموت أنت فنكتب الشعرا

وربما كان الحق معه في تصرفه في هذين المثالين ألأخيرين، وهما من الكامل وعروضه (متفا) وأصلها (متفاعلن) كما زعم الخليل، حيث حسب أن الزحاف فيه كالزحاف في الحشو. وأما عندي فعروضه في الواقع هي كعروض البسيط والسريع (فعلن)، وعليه فلا يمكن تغيير هذه العروض ولا زحافها.

ثم إنه في بحر الخفيف، حين لاحظ أن الضرب يأتي مشعّثا على (مفعولن)، حسب إن تغييرا (طفيفا) في مقطعه الثاني لن يكون مؤثرا إذا وقع في العروض وصار (مفتعلن). قال في قصيدة "أيها العيد كن سعيدا":

وإذا ما وجدتني (مكتئبا)
ولمستَ البرودَ في أعصابي

والواقع أن هذا التغيير مما يدخل في باب الكسر، كما يدخل الشطر التالي، وهو من الرجز، قال:

تباع ب "بلاش"
ولو قال بالبلاش، لتجنب الكسر.

غير أن مثل هذا الكسر في الرجز الحرّ قد لا يبدو مستهجنا كثيرا في بحر لقب منذ القدم بحمار الشعراء. وهناك كسر آخر ارتكبه غافلا في قوله من قصيدة "لبوا الندا":

فمن يَردُّ المعتدي
وقد تمادى واعتدى؟!
ومَن يحرر الأقصى
الجريح والمقيَّدا؟!

وقد لوحظ هذا الكسر الأخير في أشعار بعض المحدثين أيضا، وهو تحول تفعيلته إلى (مفاعيلن) كما في قول الشاعرة ملك عبد العزيز:

الروض رحب والغصون نامت بالثمرْ

ولذا فمن الممكن حل الإشكال مع الكسر في مثل هذه الحالات بالوقوف وقوفا تاما في موضع من الشطر تبدأ بعده تفعيلة الرجز بشكلها المقبول وذلك على النحو التالي:

تبا / ع ببلاش
متف / متعلان
أو على النحو التالي:
ومَن يحرر الـ/أقصى الجريح والمقيَّدا؟!

وهذا الحل مستوحى من وقوف المنشد لبيت من المتقارب على عروضه وسط الكلمة كما في بيت المتنبي التالي:

فلو كنتَ تجزي به نِلتُ مِنْــــ
ـكَ أضعفَ حظٍ بأقوى سببْ

ولكن هذا الحل إذا صلح في الشعر التفعيلي، فإنه يصعب أن يصلح في شعر عمودي، كقوله من قصيدة "فنان"، حيث يبدو الكسر في التفعيلة الثالثة:

وفي بلا/د الفقر أسـ/ـتطيع الحلـ/ـم بالغنى
متفعلن مستفعلن مفـاعـيلن متفعلن
وربما انتبه خميس لهذا الكسر لاحقا، لأني استمعت إليه يلقي القصيدة بصوته في تسجيل له على الشبكة العنكبوتية ولاحظت أنه عدّل البيت كما يلي:

وفي بلاد الفقر أطلب العفاف والغنى

وكذلك لا يستهجن في بحر الخبب أن يتوالى في حشوه أيّ عدد من الأسباب الثقيلة مهما كبر، وقد ورد في قصيدته "نعتذر إليكم" ثلاثة من هذه الأسباب قادته إليها غريزته الإيقاعية السليمة، حين قال: << وبسبب خيانتنا ، هدرا>>. إلا أن هذا لم يعجب أحد قرائه الذي استهجن أن تنحلّ تفعيلة (فاعلن) في الشطر إلى أربع حركات متتالية، وزعم أن ثقلا أحسّه في أذنه مع هذه التفعيلة، فما كان من شاعرنا إلا أن عمد إلى تغيير هذا الشطر ليصبح: <<من فرط خيانتنا ، هدرا>>.

وأنا لا أشك الآن في أن خميس كان سيتراجع عن كثير من (الخلل) الذي أشرنا إليه بأعلاه لو كان أحد نبهه إليه، كما رأيناه في بعض حواراته في أحد المنتديات يعدل شطرا ورد بإحدى كلماته خطأ نحوي، وذلك التراجع لا شك مقبول. ومع ذلك فإني سعيد لبقاء هذا (الخلل الوزني) دون تعديل لأنه صادر عمن يوثق بسلامة أذنه الإيقاعية ، ولأن ذلك (الخلل) يترك مجالا للعروضيين في بحث أسباب ما يظنه الناس خللا وزنيا يتراءى لهم، وقد لا يكون كذلك. وأذكر أن العروضي الفذّ خشّان خشّان قد تعرض في بعض دراساته إلى صحة (مفتعلن) في ضرب الخفيف من خلال المصطلح الذي دعاه باسم (المكافئ الخببي)، وبغض النظر عما يكون من قبول الآخرين لنتائجه أو عدمه، لا شك أن في ذلك إثراء للبحث العروضي لا يجب أن يتوقف أو يجمد.

وأما مسألة توالي أكثر من سبب ثقيل في بحر الخبب فقد تعرضت لها في كتابي "في نظرية العروض العربي" وذكرت فيه أن الشاعر معين بسيسو كان قد جاء بثلاثة أسباب منه في قوله: "سقط كحجر فوق الأرض الجرح"، وكنت أود لو أن خميس، رحمه الله، ظل على ثقته بغريزته الإيقاعية، لا يزعزعه فيها أحد كائنا من كان.

في القوافي

يحرص خميس على القافية حرصا شديدا إلى درجة أننا لا نكاد نجده ينوع في قوافيه أي تنويع سواء كان ذلك في قصيدة عمودية أو تفعيلية تتباين فيها الأبيات طولا وقصرا، إلا نادرا جدا. هذا الالتزام الذي يأخذ به نفسه يبدو مألوفا في القصيدة العمودية وقد مارسه الشعراء منذ أقدم الأزمان، وأما في قصيدة التفعيلة فإنه يعد من قبيل لزوم ما لا يلزم ، أو لعله من أثر التعود على نظم الشعر العمودي.

ثم إن هناك تنويعا آخر جاء به في قصيدة "ثلاث سنين" ، وذلك حين التزم قبل الروي حرفا معينا ، واستمر في ذلك عدة أبيات لينتقل بعدها إلى حرف آخر يلتزمه ، وقد وجدته ينوع في هذا الحرف إلى نهاية القصيدة ، الأمر الذي يجعل هذا الالتزام المتنوع بقصد التطريب يعد أيضا من قبيل لزوم ما لا يلزم، وقد أخذ خميس به تعبيرا عن مدى رهافة حسه بموسيقى القافية.

ولقد كنا عرفنا القافية بأنها صوت الروي وما قد يليه من أصوات، مع نوع الصوت الذي يسبق الروي مباشرة. فإذا كان هذا الصوت الأخير، ولنسمه (الردف) لأنه يردف الروي، حركة قصيرة، وكان ثاني صوت يسبقه حرف مد (يسمى التأسيس)، التزم هذان الصوتان بعينهما وليس بنوعهما فقط .

لكننا نلاحظ عموما أن خميس يلتزم في قوافيه بالروي وما يليه فقط، وأما ما قبل الروي، مما يتصل بنوع الصوت، فكثيرا ما لا يعبأ بالتزامه.

قال في قصيدته "الآن يمكنني الكلام" :

الآن يمكنني الكلامُ عن الذي أحتاج غيرَه
وعن الذي سمَّيتهُ، خطأً، "حبيبي .."، ذات مرة

فتجد الردف في البيت الأول (ياء)، وهو نوع من الأصوات اللغوية يسمى نصف مد. وأما في البيت الثاني فهو(راء) وهو نوع آخر من الأصوات التي تسمى الصوامت. والخليل يعد الجمع بين هذين النوعين من الأصوات في قافية القصيدة عيبا، يسميه سناد الردف.

وأما في قصيدة " عِدّي"، فيمكننا القول أنه ارتكب في قافيتها سناد الردف أيضا، قال:

قوليها في أذني همسا
يا أمة عندك كم جندي
سرك في بئر مهما كا
ن ولن أفشيه إلى أحد

فالردف في البيت الأول حرف من الصوامت هو النون، وفي البيت الثاني حركة قصيرة هي الفتحة. ولم يشر الخليل إلى هذا العيب الذي سمى بالتحريد، وهو اسم لاختلاف الضروب في الشعر كما جاء في كافي التبريزي.

ومن سناد الردف الذي يسمى التحريد قوله في قصيدة "لم يمت عبد العزيز":

مات مَن، وقتَ الكلامِ، انخرسوا
وغدا الصمتُ لديهم من ذهبْ
مات من لم يفعلوا للشعب إلاَّ
كلَّ ما لا يرتضيه أي شعبْ
تركوه عظمةً ينهشُها
كلُّ سفاحٍ، وشارونٍ، وكلبْ
قدرُ الأعراب أن يحكمَهم
شرُّ من هبَّ على الأرض ودبْ

فالصوت الذي يسبق الروي في هذه الأبيات يختلف ما بين حركة قصيرة وحرف صامت، وهو واضح النشاز. وأما البيت الأحير، فمع أن حرف الروي فيه مضعف مما يجعل التضعيف فيه حرفا يسبق الروي، إلا أن صوت هذا الحرف يبدو خافتا ولا يكاد يلاحظ ما فيه من نشاز، وقد ظهر في قوافي الشعراء منذ امرئ القيس، وهو عموما مقبول.

وقال أيضا في قصيدته "النصر لي":

كلاَّ، و لم أكُ هَشَّةً ليتمَّ كسرُ مفاصلي
هذي يدايَ، و قبضتايَ، وساعدايَ، و أرجلي

فتجد أنه أسس في قافية البيت الأول ولم يؤسس في الثاني، وهو عيب يسمى سناد التأسيس.

ولا شك أن خميس كان على وعي تام بهذين العيبين، سناد الردف والتأسيس، وحين نبهته إليهما في حوار دار بيننا على الشبكة العنكبوتية، كان مما أذكره أنه قال إن بعضا من الشعراء المجيدين كانوا لا يرون بأسا في ذلك ، ثم تبين لي من رده على ناقد آخر أنه استند في قوله ذاك إلى كتاب في العروض ، يظهر لي أن صاحبه ضلله.

ومع ذلك، فربما أخذ خميس نفسه في قوافيه بأكثر مما اشترطه الباحثون من أحكام للقافية. فإذا كنا نشترط في الصوت الذي يسبق الروي الالتزام بنوعه فقط ، ها هو خميس يلتزم به بعينه، وهو مما لا يلزم، كما في قصيدة "من يمثلنا"، ومنها هذه الأبيات:

ندافعُ عن قمحنا،
ثم نرجعُ، يوم الحصادِ،
لنسألَ: أين سنابلُنا؟
2
نعيشُ على حُلُمِ الدولتينِ،
وحجمُ الذي قد تبقى لنا،
من فلسطينَ، يُخجِلُنا.
3
غداً سوف تصغرُ أحلامُنا!
وسيكبرُ ذاك الجدارُ الذي،
بات يفصلنا.
4
يُشيرُ اليهوديُّ مبتسماً،
نحو مسرى النبيِّ ويهمسُ،
في أُذُنِ الصحفيِّ الذي معهُ:
ذاكَ هيكلُنا.

فالروي في هذه الأبيات هو النون، ولكنه قد التزم اللام قبله.

من المظاهر الإيقاعية في شعره:

قيل أن الأعشى لقب بصنّاجة العرب لأنه كان يستخدم الصنْج في إنشاده لشعره. فلم لا يكون خميس، إذن، هو صنّاجة العرب اليوم، بل ونايها وكمانها والدف، فكلماته التي يختارها بعناية لا شك أنها كالصنوج ، ولا شك أن الشعر عنده غناء يزخر بكل أنواع الموسيقى.

ولا بأس بالقول الذي نقله أبو الفرج عن عبيد من أن الأعشى سمي بذلك لأنه كان يتغني بشعره، فهذا صحيح بالنسبة لخميس أيضا، وإن لم أعلم أن أحدا معينا تغنى بشعره، كما تغنى محمد عبد الوهاب بشعر شوقي، وتغنى مارسيل خليفة بأشعار محمود درويش، وتغنى كاظم الساهر بأشعار نزار قباني، ثم إن خميس لا يقل عن هؤلاء الشعراء غنى في إيقاعاته، فكأن قصائده لم تكتب إلا للغناء.

وأدوات الشاعر خميس، في إبراز هذه الموسيقى وذلك الغناء، عديدة .وتتنوع ما بين بلاغية وبديعية وعروضية، ولذلك سنحاول أن نشير إلى بعض هذه الأدوات فيما يلي باختصار:
فأول ذلك استخدامه للتكرار كثيرا، ومنه قوله:

وهمنا على وجهنا لاجئين، وهمنا على وجهنا نازحينا.

وقوله:

وأصبح منا المعافي معاقا
وأصبح منا الطليق سجينا

ولاحظ استخدامه الجناس والطباق معا في (المعافى ، معاقا ) والطباق وحده في (الطليق ، سجينا ).

وقوله:

لا لست أول من يموت، ولست آخر من يموت، وموت مثلك، أنت، عادي
وكذلك تكراره الظاهر للكلمات باستخدام واو العطف أو بدون استخدامها، وتكراره لعبارة ما، كعبارة (يقولون عيد)، في قوله:

يقولونَ: عيدُ
له سحرهُ الخاصُ،
حَلواهُ،
ذكراهُ،
طلَّتُهُ ،
وله نكهةٌ،
ومذاقٌ فريدُ.
يقولونَ: عيدُ
له رنةٌ،
في جيوبِ الصغار،
وتكثرُ فيه الهدايا،
ويُلبَسُ فيه الجديدُ.
يقولونَ: عيدُ
تُقدَّمُ فيه التهاني
وتُرسَلُ فيه البطاقاتُ،
للأصدقاءِ،
ويجتمعُ الأهلُ فيهِ،
ويأتي القريبُ،
ويأتي البعيدُ.
يقولون: عيدُ.
غناءٌ، ورقصٌ،
إلى آخر الليلِ،
والكلُّ مبتهجٌ وسعيدُ!

وفي هذا النص الأخير يستعمل الشاعر آداة إيقاعية أخرى هي الوقف، كقوله:

يقولونَ ....
لكنّ حزني يزيد
وفي نص آخر تجده يقول :
صَهٍٍ، لا تُجِبْنا
فمن ذا الذي سَيُصَدِّقُ مثلكَ،
يا ابنَ الـ ..
لذينا ....؟!
وفي آخر من بحر الرمل، كقوله :
يا أخانا
يا أبانا
يا ...
خذ الألقاب أيضا كلها والصولجانا

وتتكرر ظاهرة الوقف هذه كثيرا في أشعاره، فنجدها ترد في قصيدة "لماذا قطعت الطريق عليا" وقصيدة "كليك"، بل إن الوقوف على بعض الكلمات قد يعمل على يشكيل قوافيه كما في قوله من قصيدة "هذه المرة مرت":

والذي خلناه حبا
وهوى لم يك، لم ..

وقوله:

فتعلم يا أنا منها، فكم أخطأت، كم ..

ثم إنه يستخدم علامات الترقيم في قصائده العمودية بشكل يجعلنا نحس وكأنه يطلعنا على قصيدته إنشادا ، قال:

صادفْتُهُ ودموعي
على خدوديَ تُسكَبْ
فقالَ : حبٌ جديدٌ؟!
فقلتُ: لا .
فتعجَّبْ!
وراح يسخرُ مني
وقالَ لي: تتهرَّبْ ..
فقلتُ ويحكَ يا صاحبي وعفوكَ يا ربْ!
وهل فَرَغتُ أنا مِن
حبي الجديد لأنصب؟!

وفي هذه القصيدة وغيرها من القصائد العمودية يحاول خميس أن يسمعنا إيقاع قصائده بشكل مرئي عبر توزيعه للبيت على عدة أسطر، وهو ما يبدو واضحا في هذه القصيدة من البسيط:

كيف التقينا؟
ولم أسمعْ هنا أبداً
صهيلَ خيلٍ،
ولا وقْعاً لأقدامِ!
ولا رأيتُ جيوشاً حولنا رفعت
أعلامَها،
أينها، يا بحر، أعلامي؟!

وقد يلجأ خميس لشكل المسمطة القديم، وهذا الشكل على قدمه غني بموسيقاه وتنوع فوافيه، قال:

لقد كان هذا المساءُ طويلاً
بدونك، جدا، وكان ثقيلاً
فقلتُ: أُدرِّبُ نفسي قليلاً،
قليلاً، على قول ما لا يُباحْ!
فأرجوكِ لا تغضبي واعذريني
فطول غيابكِ، أذكي حنيني
وأكَّد حدسي، وزاد يقيني
بقُرب انتهاء الليالي المِلاحْ.
*
غداً، سأصيرُ مجرد ذكرى
وقد لا أعود لأكتبَ شعرا.
وداعاً .. وداعاً إليكِ وشكرا.
فنجم الشهادة في الأفق لاحْ!

وحتى شكل الموشح كما في قصيدته "عد غدا أيها الملاك":

أسْعَدَ اللهُ لي مساكْ
يا ملاكي ، وجَمَّلَهْ
ساقك الشِعرُ أم رماكْ
يا ترى الشوقُ لِي وَلَهْ؟
مُنذُ أنْ غبتَ، عن هواكْ
لَمْ أَحِدْ قيد أُنْمُلَهْ

كما يلاحظ عليه تمسكه بشرط وحدة القافية بالغا ما بلغ طول القصيدة عنده. والشيق أنه يستمر في تمسكه بهذا الشرط حتى حين يستخدم النوع التفعيلي الذي تتفاوت فيه أطوال الأبيات أو الأشطر تفاوتا كبيرا. قال خميس في أحد حواراته على الشبكة بتاريخ 28/8/2002م:

<<ونظراً لوجود مساحة واسعة يتحرك فيها الشعراء فمنهم من لا يهتم حتى بوجود قافية موحدة لكل القصيدة بل تكون هناك عدة قواف وتكون هناك وقفات على كلمات بدون قافية متبعة ولكن كلما كان الشعر الحر قريباً من العمودي بموسيقاه وقوافيه كلما كان (مستساغا) أكثر خاصة من قبل أولئك الذين يعارضون الشعر الحديث من أساسه>>.

وكما كان الشعراء القدامى يدوّرون البيت ذا التفعيلات المحدودة العدد، فقد رأينا خميس يدوّر البيت الذي تبلغ تفاعيله عددا غير محدد منها، تتوزع على عدة أسطر في جملة شعرية طويلة لا تكتمل حتى يجد للبيت المدور القافية التي التزم بها من بداية القصيدة إلى نهايتها.
هذه مقاطع ثلاث من قصيدته "أحتاج بعض الوقت"، حيث كل مقطع منها يمثل بيتا:

هذا أنا، قالت ليَ الأولى،
انتظرتُ لكي يطالعني صغيرٌ،
أو كبيرٌ،
أو غنيٌّ،
أو فقيرٌ،
أوْ ، وَ ، أوْ،
مَرُّوا، و كانوا كلهم مستعجلينَ،
يُقلِّبون، بلا اكتراثٍ، صفحتي
لم ينتبه أحدٌ إليَّ،
و بِتُّ مهملةً،
على ورق الجريدةْ.
***
و أنا ذهبتُ إلى الأميرِ،
تقول أخرى،
كي أقولَ له: تحرَّكْ .. !
أين مالُكَ؟ أين نفطُكَ؟،
أنت في يدك الكثيرُ،
فكيف تجلسُ يا أميرُ،
بلا حراكٍ هكذا؟!
أين الضميرُ،
الحيُّ فيكَ؟،
ألم تعدْ بكَ نخوةٌ؟
قال ارجعي، من حيثُ جئتِ،
و لا تعودي مرةً أخرى و إلاَّ..
سوف أجعلُ مَن وراءكِ،
عبرةً للآخرينَ، جميعهم،
و ضحيةً أخرى،
تُضافُ إلى ضحايايَ العديدة.
***
و أنا رجعتُ، تقول ثالثةٌ،
لتوِّي، بعدما حاولتُ،
لكنْ، دون جدوى،
أن أثيرَ مواطن الإحساسِ في،
أعصاب، أمتنا، الـ …
- مجيدة ...!

إلا أن هناك حالات يلجأ فيها خميس إلى تنويع قافيته، ومع ذلك يلاحظ عليه فيها حفاظه على قافية واحدة رئيسية، وتركه لغيرها بحيث تبدو كالقوافي الداخلية نحو ما نرى في المقطع التالي من قصيدة "غيرتنا الانتفاضة":

غيَّرتْنا الانتفاضةْ!
جعلتنا نبصر الدنيا بمنظارٍ جديدْ.
ونرى في الطيف ألواناً جديدةْ.
جعلتنا ندرك المعنى الحقيقي لمفهوم " العقيدةْ ".
جعلت " محمودَ " يمضي قبل أيام شهيداً
جعلت " آياتَ " تمضي مثل " محمودٍ " شهيدةْ.
أخذت منا الكثيرين وطارت
بجناحيها إلى أعلى سماءْ.
علمتنا ما الذي يعنيه تقديم التهاني
لأهالي الشهداءْ.
علمتنا الحزن والفرحة في وقت العزاءْ.
ما علينا إن بكينا من غضاضةْ!
غيَّرتْنا الانتفاضةْ!

وإذا كان خميس لم يحظ بمن يغني له قصائده، لقد وجدت في هذه القصائد من الإيقاع ما يبدو وكأنه غناء فردي أو عزف على الناي والكمان والدف. بل إني استمعت في قصيدته "لبوا الندا" إلى وقع خطى وهتاف يتردد على تفعيلة الرجز التي أكثر فيها من زحاف الخبن، وبدت القصيدة وكأنها مارش عسكري، قال:

لبُّوا النِّدا..
فقد طغى عدوُّكم وعربدا
على عيونكم بنى
جداره ، وشيَّدا
والآن ظلت خطوةٌ، وبعدها
قد تفقدونَ " المسجدا "!!
لبُّوا الندا
لبُّوا الندا
لبُّوا الندا

ويتردد في هذه القصيدة _ النشيد لحن فيروزي معروف اقتبسه الشاعر بما يحويه من أبعاد، وقد طعم به قصيدته للتعبير عن مدي خيبة الشعب الفلسطيني بالصمت العالمي المريب وضعف الأمة الإسلامية وإحجامها عن تحرير مقدساتها، قال بل أنشد:

والليلُ طالَ،
الليلُ طالَ،
الليلُ صار سرمدا.
ولم نعد نرى " صلاحَ "
بيننا أو " خالدا " .
فمن يَردُّ المعتدي
وقد تمادى واعتدى؟!
ومَن يحرر الأقصى
الجريح والمقيَّدا؟!
" ما في حدا " !
" ما في حدا " !
" ما في حدا " !

ولاحظ كيف تجنب الشاعر في قصيدته زحاف الطي ذا الإيقاع الهابط ولم يستخدمه إلا قليلا، وغالبا للتعبير عن حالات الانكسار. وانظر كيف حافظ في القصيدة على سيادة زحاف الخبن، وهو كما ترى ذو إيقاع صاعد يعبر عن النشاط والحركة واضطرام المشاعر.

وأخيرا، بلغ شعر خميس أوجه في الغناء والإيقاع حين شاركته في نظم القصيدة الشاعرة مريم العموري وقد شكلا معا (دويتو) شعريا عفوي النظم. افتتح خميس القصيدة بقوله:

وكبرت يا عمري سنه
وبدأت تنتبهين لي،
ولدمعتي، لمَّا تسيلُ،
وتسألين بحرقة، مُستَبِينة:
ـ ماذا جرى لك يا أبي؟!
ـ " لا شيء،
كنتُ أقول في الماضي،
وكنتِ صغيرةً،
لا تفهمينَ معانيَ الكلماتِ،
مثلَ: مَن اليهود ُ؟!
وما هي المستوطنة؟!
واليوم تبدو لي الإجابة ممكنة..
هم ، يا ابنتي ، من شرَّدونا،
من فلسطينَ الحبيبةِ،
كنتُ حينئذِ أنا في الثامنة
ما كان ينقصنا الطعامُ ولا الشرابُ،
وكان للأيام نكهتُها،
وموجُ البحرِ كان لنا،
وأقمارُ السماءِ،
وضفَّتانِ على امتداد النهرِ،
كنَّا طيبينَ وحالمينَ،
ولا نخاف من الغد الآتي
وننعم بالسكينة والحياة الآمنة

فتلتقط الشاعرة النغم وتجاوبه على الإيقاع نفسه، ليستمر من جانبها العزف والنشيد:

(كنا نرتـّل مع هديل الطير
فوقَ الغيمِ أحلامَ الربيع
ونوزِّعُ الضحكاتِ للدني
فترقُصُ سنبلات الحقلِ،
يرتَبِكُ القطيع
ونظل نركُضُ،
والنسيمَ على بساطِ الوردِ،
ما أحلاهُ ما أحلاهُ من ماضٍ بديع
ماض يمرجحني كطفلٍ،
ليس يعبأ بالمشيبِ،
وبالهموم الراهنة)

ثم تنمو القصيدة عبر هذا الحوار الغنائي المشبع بالنغم، ويتناوب الصوتان كأنهما صادرين من آلتين موسيقيتين في كونشرتو، إلى أن تقول:

سنعود ..
إنا ما نسينا يا حبيبة ما لنا..
فإذا قضيتُ ولم أطأ أرضي هناك
فلا تـَنِي،
ولتكملي مشوارنا
فيلتقط قولها (سنعود) ويجيبها بقوله:
سنعود
إنَّا قد نسجنا من دمانا فجرنا
سنعود مهما شيَّدوا
مستوطناتٍ حولنا

ثم، وقبيل اكتمال القصيدة (المشتركة) يتسارع الحوار بين الصوتين على النحو التالي:

(سنعود رغم حصارهم)
سنعود رغم جدارهم
(ستفرُّ من أضلاعنا للنور أحلى سوسنةْ)
وستنتهي عمَّا قريبٍ،
رحلةُ الطيرِ الذي
لفَّ الفضاءَ وعاد يَنشُدُ مسكنه.
طوبى لنا ..
(طوبى لنا ..)
طوبى لمن عشق الترابَ ولوَّنه

كأن الآلتين الموسيقيتين اتحدتا في عزف مشترك متعدد الأصوات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى