في تغير القيم وبناء الهويات الرقمية
حالة طلبة جامعة ابن زهر / أكادير
بالمقارنة مع العقود الماضية، عرف المغرب تحولا عميقا على مستوى وسائل الاتصال، بحيث كان له نصيب وافر من تواجد وسائل الإعلام الاجتماعية الرقمية، التي وجد الشباب المغربي نفسه أمامها دون الانتباه إلى ما تحمله هذه الوسائل من قيم وهويات جديدة، قيم ثقافية وسياسية واقتصادية ثم هويات عابرة للحدود. فإذا كان، الحراك السياسي والاجتماعي، الذي عرفه المغرب الكبير والعالم العربي، أبان على دور وسائل الإعلام الاجتماعية في خلخلت المشهد السياسي بهذه الدول، فإننا نروم من خلال هذه المداخلة، إلى طرح إشكالية لا تقل أهمية عن الإشكالات، التي تطرحها وسائل الإعلام الاجتماعية. أقصد هنا، دور هذه الوسائل في بناء هويات جديدة للشباب الجامعي ثم مساهمتها في تغير القيم الاجتماعية والسياسية لدى الشباب، فإلي أي حد استطاعت وسائل الإعلام الاجتماعية، أن تغير القيم في أوساط الشباب الجامعي، بجامعة ابن زهر ؟ ما هي الهويات الجديدة التي بدأت تنشأ داخل المحيط الجامعي؟ وما أثر ذلك على اختيارات الطلبة؟ تلكم أهم التساؤلات التي سوف نحاول الإجابة عنها في هذه المداخلة.
– تقديم
ما يميز الثقافة المغربية لدى الشباب الجامعي اليوم؛ كونها أضحت تتغذى من صناعة القيم والهويات الرقمية، التي باتت تنتجها وسائط تكنولوجيا حديثة، ميزت عصر ما بعد الحداثة بالنسبة للدول الصناعية الكبرى حيث هيمنت الثقافة الرقمية، التي تسعى إلى التحكم في الإنسان، من أجل إخضاعه للثقافة الرأسمالية أو ما يسمى بثقافة السوق وذلك من خلال استهلاك الإعلانات والأفلام ثم التواصل الاجتماعي عبر مواقع عدة، كل هذا يمثل مستوى رمزي ما بعد الحداثة في الدول المتقدمة.
ما يميز كذلك، هذه المرحلة في علاقتها بصناعة القيم والهويات الرقمية، كون الوسائل التكنولوجية المنتجة لها، تهتم في الغالب بالأشكال الخارجية بدلا من اهتمامها بالمحتوى tمما جعل من القيم التي تروجها سلعة أو بضاعة تأتي في إطار تنافس الشركات المنتجة لها بهدف تنميط الإنسان وإخضاعه بشكل كبير لقيم الرأسمالية. وإذا كانت العلوم الاجتماعية، قد اهتمت منذ وقت مبكر بتناول وسائل الإعلام التقليدية في علاقتها بالتنشئة الاجتماعية، مثل الصحافة المكتوبة والإعلام المسموع والمرئي، حيث تم الاهتمام بشكل كبير بفهم وتحليل هذه الوسائل ، فإن وسائل الاتصال الحديثة مازالت تفتقر إلى هذا الفهم والتحليل. كما أن ما يميز تناول وسائل الإعلام الحديثة عن التقليدية، كونها أضحت خارج محيط الأسرة، التي كانت تخضع هذه الوسائل إلى المراقبة والتوجيه. لقد غزت وسائل تكنولوجيا الاتصال الحديثة كل الفضاءات، حتى إن محيط الجامعة المغربية والعالمية، لم يعد وحده المنتج للقيم الطلابية، سواء تعلق الأمر بالأنشطة الثقافية والمحاضرات المبرمجة أو من خلال التنظيمات الطلابية والشبابية، حيث أصبحت تكنولوجيا الإعلام منافسا حقيقيا ومهيمنا على مستوى القيم الطلابية.
فإذا كانت الجامعة من أهم المؤسسات، التي تساعد على بناء القيم ومأسستها؛ وذلك من خلال تفاعل الطالبة أو الطالب مع مكونات عدة، طاقم التدريس والإدارة ثم التفاعل مع المحاضرات والتنظيمات الطلابية، هذه العوامل وحدها كانت إلى عهد قريب هي المؤثر في نضج شخصية الطالب أو الطالبة.
لقد أصبح للطالب الجامعي بالمغرب له فضاؤه الخاص، الذي يربطه بعوالم أخرى لم تتح للأجيال السابقة. مما جعله ينفتح على ثقافات وقيم وهويات مختلفة، تقاطعت بشكل كبير مع مواقفه واتجاهاته الفكرية والسياسية.
نروم اليوم، من خلال هذه المداخلة إلى تسليط الضوء على بنية القيم الجامعية والهويات الصاعدة بجامعتنا المغربية وبالضبط، حالة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر كنموذج.
الإشكالية
الإشكالية، التي ننطلق منها في معالجتنا لهذه الظاهرة، تسعى إلى البحث في دور وسائل تكنولوجيا التواصل في بناء هويات جديدة للشباب الجامعي ثم مساهمتها في تغير القيم الاجتماعية والسياسية لدى الشباب، فإلي أي حد استطاعت وسائل الإعلام الاجتماعية، أن تغير القيم في أوساط الشباب الجامعي، بجامعة ابن زهر؟ ما هي الهويات الجديدة، التي بدأت تنشأ داخل المحيط الجامعي؟ وما أثر ذلك على اختيارات الطلبة؟ تلكم أهم التساؤلات التي سوف نحاول الإجابة عنها في هذه المداخلة.
المنهجية المتبعة في البحث
أنجز هذا العمل، خلال دورة الربيع الصيف من السنة الماضية2011 في إطار برنامج حول الهجرة والثقافة، تكلفت الطالبة Sara Cullen بانجاز العمل الميداني، الذي شمل 67 طالبة وطالب من شعبتي علم الاجتماع واللغة الانجليزية وآدابها. كما شمل بعض المكونات السياسية والفعاليات الطلابية من الساحة الجامعية. لقد شاركت في إدارة بعض ورشات النقاش الخاصة بهذا الموضوع بحضور الطالبة المعنية بمقر شعبة علم الاجتماع. أما فيما يتعلق بتقنيات جمع المعطيات، فإننا زاوجنا بين الاستمارة ومجموعات النقاش/ المجموعات البؤرية.
الخلفية الاجتماعية لعينة البحث
ينتمي الطلبة الذين شكلوا عينة البحث، إلى مناطق مختلفة من جنوب المغرب، تراوحت أعمارهم بين 19 و 25 سنة. كما شمل البحث ثلاثة مشاركين تراوحت أعمارهم بين 25 و 29 سنة، في حين بلغت أعمار أربعة مشاركين 30 سنة فما فوق. تألفت عينة البحث من 67 طالبا منهم 41 طالب و26 طالبة. أما عن الأسئلة، فإنها إلى جانب أسئلة اهتمت بمتغيرات أساسية في البحث من قبيل السن والمستوى الدراسي ومسقط الرأس، فإن العديد من هذه الأسئلة ومجموعات النقاش، انصبت أساسا حول الإعلام وتكنولوجيا الإعلام ومختلف استعمالاتها، إلى جانب البحث في التغيرات الاجتماعية والثقافية، التي أحدثتها هذه التكنولوجيا على مستوى الهويات ثم على مستوى الأفراد وسلوكياتهم.
مفهوم الهوية
تتخذ الهوية عدة تعاريف وذلك تبعا للحقل، الذي توظف داخله ، فالتحديد القانوني يعتبر الهوية؛ هي عملية لتمييز الفرد لنفسه عن غيره؛ بمعنى أنها تحديد لحالته الشخصية من السمات، التي تميز الأفراد عن بعضهم البعض، من حيث الاسم والجنسية والسن والحالة العائلية والمهنة. كما أن القوانين، عادة ما تنص على إثبات صفة الفرد، بمقتضى بطاقة شخصية التي تساعده في معاملاته المختلفة مع الجهات، التي تطالبه بإثبات شخصيته. أما من الناحية السيكولوجية فالهوية لها مميزات خادعة؛ بحيث قد تكون ذاتية أو موضوعية وقد تكون فردية أو اجتماعية. بينما يذهب الطرح السوسيولوجي؛ إلى ربط الهوية بالثقافة، واعتبار هذه الأخيرة المكون الرئيسي للهوية الاجتماعية لشخص ما أو لمجتمع ما؛ ذلك لكونها كيفية خاصة لرؤية الوجود والحياة، وأسلوبا خاصا في العيش والسلوك والإحساس والإدراك والتعبير والإبداع. كما أنها ترتبط بالظروف والبيئة الجغرافية ومن هنا يتم الحديث عن (هوية بدوية / هوية ريفية / هوية حضرية ) أيضا؛ ترتبط الهوية بالتطور التاريخي والحضاري للمجتمعات. فمن الصعب، إذن؛ إعطاء مفهوما محددا ودقيقا «للهوية» على اعتبار أنها مرتبطة بأشكال متعدد وغير محدودة من الممارسات الثقافية والاجتماعية.
الهوية إذن؛ من منظور سوسيولوجي، تعتبر ملازمة للثقافة الخاصة للمجتمعات، وكذا للوحدات الاجتماعية، التي تنتمي للمجتمع، فالأمر هنا يتعلق إذن بتحديد الهوية والقيام بوصفها انطلاقا مما هو مشترك (الوراثة / السلالة) ؛ كاللغة والثقافة والدين والارتباط بأرض معينة أو بجغرافية معينة. فالهوية إذن؛ فعل اجتماعي يكمن في تصور الأفراد وليست مجرد معطى، فهي ليست وهما يتعلق بذاتية الفاعلين الاجتماعيين، بل هي مرجعية ثقافية، يستمد منها الأفراد تصوراتهم ومواقفهم. إن تكوين الهوية يتم داخل الأطر والتنظيمات الاجتماعية، التي تحدد موقع الفاعلين وتوجه تصوراتهم وخياراتهم. كما أن هذا التكوين لا يعتبر مجرد وهم؛ لكونه يتمتع بفاعلية اجتماعية وله آثار اجتماعية حقيقية.
الهوية إذن هي بناء؛ يتكون ضمن علاقة تضع إحدى المجموعات في مقابل أخرى أو على تماس معها. هذه العملية كذلك؛ تجعل الفرد يميز نفسه عن غيره، بمعنى أنه من خلال الهوية، يمكننا تحديد حالته الشخصية. كما أنها، تتجلى في الشعور بالانتماء إلى الذات وإلى المجتمع ثم إلى الجماعة الصغيرة داخل المجتمع، ثم بوصفه منتميا إلى هذه الجماعة أو هذه الفئة الاجتماعية أو القبيلة أو الفخذة أو "الاخص"، أي أننا أمام هويات داخل المجتمع الواحد، هوية كبرى تحدد انتماء الفرد إلى مجتمع كبير، يتميز عن باقي المجتمعات، ثم هويات صغرى بمقتضاها يتم التميز بين أفراد المجتمع الواحد، حسب الانتماءات الاثنية والاجتماعية.
إن طرح الهويات المحلية لا يعني، بتاتا إقصاء للهوية العامة أو الهوية الكبرى للمجتمع، غير أن طبيعة التركيبة الاجتماعية للمجتمع المغربي، وغناه الثقافي واللساني، تفرض على الباحث الحديث عن الهويات المحلية، فالهوية هي منتوج اجتماعي ثقافي تاريخي، يتفرد بها المجتمع الواحد من أجل أن يتميز عن باقي المجتمعات.
إن الهوية هي سيرورة ثقافية واجتماعية ورمزية، يحدد من خلالها الفاعل الاجتماعي نفسه وموقعه وجماعته التي ينتمي لها. كما أنه من خلالها يحدد انتماءه إلى المجتمع العام، وذلك من خلال بنائه للعديد من المعاني والرموز حول بعض السمات الثقافية والاجتماعية التي تميزه عن الآخر، سواء على المستوى المحلي أو الوطني والإقليمي. تذهب بعض الدراسات السوسيولوجية في تناولها لمسألة الهوية إلى اعتبارها مكونة من عناصر ثقافية ونفسية، تراكمت عبر التاريخ وعبر التجارب التاريخية، التي مر منها المجتمع أو التي خضعت لها الجماعة. فالمحددات الأساسية للهوية، هي العناصر الثقافية والتراكمات الثقافية التي يعرفها كل مجتمع حسب تجاربه التاريخية.كما أنه من الصعب كذلك؛ ضبط، هذا المفهوم، لأن الأمر يتعلق في الغالب بهويات ثقافية ودينية ووطنية وسياسية. لكن؛ المفهوم الذي أتبناه في هذه المقالة، كون الهوية الثقافية للمجتمع المغربي سيرورة لتجارب تاريخية وثقافية ولغوية عديدة.
مفهوم القيم
القيم؛ هي كل الأحكام والعادات المكتسبة من خلال التنشئة الاجتماعية، التي تتم داخل مؤسسات المجتمع، من الأسرة والمدرسة وغيرها. كما أنها؛ هي التي تحدد وتوجه سلوك الفرد وتفكيره وبناء توجهاته السياسية والفكرية.
تؤثر القيم كذلك، في عمليات التعلم وبناء الشخصية. كما تساهم بشكل كبير في بناء مواقف الفرد من المحيط والقضايا التي تعترضه في حياته. تختلف هذه القيم من مجتمع لآخر، بل من مجتمع محلي لآخر، بحيث نميز بين القيم داخل نفس المجتمع. أيضا؛ كل المؤسسات تساهم بدورها في بناء قم من أجل ضمان السير العادي لها. ويمكن التميز كذلك في هذا الباب: بين القيم المعيارية والقيم الموضوعية.
أما القيم المعيارية هي تلك القيم المثالية، التي يرغب فيها الفرد أو يخضع لها في سلوكياته وممارساته اليومية، هذه القيم تختلف من فرد لآخر حسب انتماءاته الطبقية والثقافية. أما القيم الموضوعية، فهي المرتبطة بقيمة الأشياء الواقعية أو الموجودة في الواقع. وبناء عليه، نجد أنفسنا أمام قيم جمالية، قيم أخلاقية قيم منطقية أو عقلية وغير ذلك من القيم. لكن القيم الجامعية المقصود بها تلك الأعراف والعادات، التي تنتجها الجامعة، بهدف المساهمة في بناء تصورات وتوجهات الطلبة بشكل عام.
الهويات المحلية: بين نظام المجتمع العام ووسائل الإعلام الاجتماعية
مما لا شك فيه أن الهويات المحلية (الإثنية / القبلية) ساهمت على مر العصور وعلى امتداد التاريخ في لعب أدوار اجتماعية واقتصادية وسياسية أساسية في بنية المجتمع المغربي. كما لا يمكن تجاهل، دور الهوية الاجتماعية؛ في تشكيل ملامح المجتمعات المحلية، ونذكر في هذا السياق دور الهوية الأمازيغية والحسانية بشكل خاص والهوية الثقافية للمجتمع المغربي بشكل عام؛ في تشكيل البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع، نظرا لامتداد الثقافة الأمازيغية في حيز جغرافي واسع وامتداد الثقافة الحسانية في التاريخ العربي وتلاقحها مع الثقافة الأمازيغية بالمغرب، مكنهما من بناء هويات محلية متعددة، استطاعت أن تصمد على مر التاريخ.
هذه الهويات كان لها قدر أن تتواجد داخل جامعة ابن زهر، وأن تعبر عن نفسها من خلال حلقات وأنشطة طلابية. كما أن وسائل الإعلام الاجتماعية، ساهمت بشكل كبير؛ في إغناء النقاش حول الهويات المحلية، بحيث لعبت دورا أساسيا في تغيير منظومة القيم الجامعية لدى الطلبة، حيث استطاعت هذه الوسائل أن تقفز على أشكال الرقابة الاجتماعية والسياسية، التي اعتادها الطلاب داخل الجامعة بشكل عام . كما ساهمت من جهة ثانية في نمو الهويات المحلية بشكل خاص.
على الرغم من كون الهويات المحلية في المغرب من الناحية السوسيولوجية والأنثروبولوجية، قد تميزت بالتنوع. فإن هذا التنوع يؤسس من جهة توحدا ومن جهة ثانية يؤسس لصراعات إثنية وثقافية، تبدو واضحة بين الفصائل الطلابية داخل جامعة ابن زهر، خاصة على المستوى الهوياتي، إذ يتضح من خلال البحث الميداني أن 69.1% من المبحوثين عبروا عن انتماءاتهم المحلية أي تقديم الهوية الأمازيغية والحسانية عن الهوية المغربية. لقد ساهمت وسائل الاتصال الاجتماعية، في صعود الهويات المحلية، عن طريق النقاش والتواصل بين الشباب المنتمين لهذه الهويات، ليس على مستوى المجتمع المغربي بحسب، بل على مستوى المحيط المغاربي والعالمي، إذ يتفاعل العديد من الأفراد الذين ينتمون إلى الهويات المحلية أمازيغية كانت أم عربية داخل الفضاء الرقمي من خلال قواعد وطقوس معينة، تربطهم من جهة بهوياتهم المحلية؛ كاستعمال اللغة أو إحياء بعض المناسبات الثقافية وتبادل الصور الخاصة باللباس التقلدي، إنهم يمارسون أدوارا إجتماعية مختلفة إنطلاقا من مرجعيات محلية داخل فضاء تتقاطع فيه العديد من الهويات. ما يميز هذا التواصل، كون الأفراد يتحررون من معظم القيود، التي يفرضها المجتمع وأحيانا الدولة، كأن تفرض الإدارة مثلا على كل أفراد المجتمع التواصل باللغة الفرنسية أو أن تلقى جميع المحاضرات داخل الجامعة باللغة العربية أو الفرنسية، كلها قيود يتحرر منها الطالب أو الطالبة أثناء التواصل عبر تكنولوجيا الاتصال. طقوس التواصل هذه أذكت روح الانتماء إلى المحلي والعالمي أو الكوني في الوقت نفسه، حيث عبرت نسبة 41% من المبحوثين كونهم واعون بهويتهم المحلية من جهة وبالهويات التي تتواجد في الفضاء الرقمي من جهة ثانية.
هكذا، إذن تكون وسائل الاتصال الاجتماعية تعمل على تطوير هوية رقمية كونية إفتراضية نتيجة الكثافة الديموفغرافية المتفاعلة داخل الفضاء الرقمي وتنوع المشاركين واختلاف مستوياتهم ومرجعياتهم الثقافية وتوجهاتهم السياسية وكذا اهتماماتهم، مما يجعل من الطلبة داخل كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة ابن زهر، يعيشون هذه الازدواجية في غياب هوية المجتمع الكبرى، إذ يتفاعلون مع هويات كونية ويتقاسمون همومها، حيث عبرت في هذا الاتجاه نسبة 4.5% من المبحوثين عن كونها أضحت أكثر وعيا بالقضايا العالمية من قبيل الفقر وقضايا التنمية المستدامة في كل أنحاء العالم. إن الابحار كونيا بالنسبة للطلبة في العالم الرقمي يتجاوز الحدود الثقافية والهويات المحلية، إذ تنشأ قواعد وعلاقات افتراضية بين الأفراد، تؤسس لعالم رقمي يدافع خلاله كل الأعضاء عن الهويات المحلية، كالدفاع عن اللغة الأمازيغية بالنسبة للطلبة، متجاوزين هوية المجتمع العام، لأن في المجتمع الافتراضي أو الرقمي تغيب الرقابة الاجتماعية. كما أن مرجعية المجتمع الرقمي، تتشكل من قواعد ثقافية أكثر تحررا تساعد على نشوء طقوس جديد ينشؤونها لأنفسهم تتناسب مع المجتمع الرقمي، الذي ينتمون له من جهة ومع الهوية المحلية من جهة ثانية، وبالتالي نجد أنفسنا أمام هوية رقمية لها حدود وأهداف تحررية من الرقابة السياسية خاصة. لكن، تدافع عن ما هو محلي وخصوصي، تدافع عن الجماعات المهمشة وعن الثقافات الصغرى.هذا ما نلمسه من خلال تصريحات الطلبة عن كونهم يتواصلون من أطراف متعددة. كما أنهم يندمجون اجتماعيا وثقافيا، بحيث يساندون بعضهم البعض ويعبرون عن اهتماماتهم كشباب، هذا الاندماج الذي عبرت عنه نسبة 44 % من عينة البحث، مرده في اعتقادنا إلى غياب تواصل تام بين الطلبة والتنظيمات السياسية والاجتماعية، الموجود في المحيط، والتي ينبغي أن تساهم بشكل فعال في تحقيق إندماج إيجابي لهؤلاء الشباب في الواقع حتى يتسنى لهم ممارسة أدوار واقعية على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
إن ما يبرر طرحنا هذا، هو قدرة العديد من الشباب على تحويل هذه التكنولوجيا إلى شبكة من أجل التواصل والتعبئة السياسية للمشاركة في الاحتجاجات والدفاع عن الهويات الصغرى، والثقافات المحلية، ضدا عن الثقافات الكبرى وثقافة النخبة التي هيمنت بشكل آلت معه ثقافات بعينها إلى الزوال من المشهد الثقافي والإعلامي.
لقد ساهمت الهوية الرقمية بشكل كبير في خلق تنظيمات طلابية جديدة لها ثقافة وهوية صلبة تجعل من المحلي منطلقا للكوني دون المرور من الوطني أو المرور من الهوية الكبرى للمجتمع. مما جعل معظمهم ينخرطون في ثقافة تتجاوز الحدود وتبني نماذج عالمية بدأت تظهر على مستوى القيم الجديدة وكذا على مستوى التوترات، التي بدأت تظهر بين الفينة والأخرى سواء بين الطلاب أو بين الطلاب والأساتذة.
هكذا، بدأت السلوكات والممارسات الاجتماعية، التي تمارس داخل الجامعة، تجد مصدرها من العالم الرقمي، أي أنها نتيجة تلاقح للعديد من الهويات والثقافات، وقد عبر الطلبة في هذا الاتجاه بنسبة 45 % عن كون الانخراط في العالم الرقمي فتحهم على ثقافة جديدة وهويات مختلفة وأفكار قيم مغايرة للفضاء الجامعي مع تشكيل هويات رقمية بحسب الاختيار، بدل من الموضع الجغرافي الذي يعيشون فيه / أقصد هنا الفضاء الجامعي، هكذا أضحى الفضاء الجامعي، فضاء للهويات المتعددة، حيث الهويات الصغرى أو المحلية والتي تتميز بالتنوع، فالهويات الرقمية، الشيء الذي يعكس تحولا ثقافيا في المجتمع المغربي، إذ يعد هذا التحول مؤشرا حقيقيا على صعود الهويات المحلية واضمحلال الهوية الكبرى للمجتمع.
إن مسألة الاختلاف بين الهويات الصغرى بالجنوب المغربي أمر يمكن تجاوزه على اعتبار أن هذه الهويات تلتقي جميعها في الهوية الكبرى للمجتمع؛ لأن هناك مشتركا تاريخيا بينها، هناك إذن ؛ نوع من التقارب والتعاون بين الهويات الصغرى. كما أن هذه الهويات؛ هي التي تساهم في إغناء الهوية الكبرى للمجتمع وفي تمييزها عن مجتمعات أخرى. غير أن، التواصل عبر وسائل الاتصال الرقمية، جعل العديد من الطلبة يتمثلون هوياتهم المحلية من خلال هويات كونية، بعد ذلك يبدؤون في إعادة إنتاج المجتمع بشكل رقمي، ثم بناء هويات محلية رقمية تأتي كردة فعل لمؤثرات سياسية واستجابات خارجية. هذا الوضع الهوياتي الرقمي جعل من الجامعة وخاصة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير مجالا للصراع وللتوتر بين معظم مكونات الفضاء الجامعي، لأن التواصل الرقمي ساهم في إلغاء التواصل اللفظي في غياب الحاسوب، الذي يعد وسيطا في التواصل الرقمي. إن التفاعل الرقمي داخل بيئة رقمية، تعرف كثافة الهويات المحلية، تساهم في إنتاج هوية رقمية، تعد في النهاية امتدادا لهويات محلية مختلفة، يشكل فيها الحاسوب عنصرا أساسيا، أدت إلى استغلال ظاهرة اختلاف الهويات الصغرى داخل المجتمعات، من طرف اتجاهات أيديولوجية ومنظمات عالمية، مما ساهم في نشر أفكار التمييز والتفرقة، من أجل تفكيك دول العالم وإنتاج هوية المجتمع الرقمي، التي تتلاءم مع ثقافة التحرر من القيم المجتمعية. ومن هذا المنطلق يمكننا أن نتساءل عن حدود الهويات الرقمية داخل مجتمع.
حدود الهويات الرقمية
إن اكتساب الهوية؛ يساعد على الاندماج الاجتماعي داخل المجتمع. كما أنه يؤسس للاختلاف في الوقت نفسه . أيضا؛ فالأهم في عملية اكتساب الهوية هو إرادة وضع حد بين الجماعة الصغرى والجماعة الكبرى وبالتالي إقامة ما يمكن تسميته بالحدود والحفاظ عليها، وبشكل أدق ؛ فإن الحد الموضوع ينجم عن اتفاق بين ذلك الحد الذي تعتقد الجماعة بأنها وضعته لنفسها وبين الحد الذي يريد الآخرون وضعه لها. إن الحد المقصود هنا هو الحد الاجتماعي الرمزي. غير أن الحدود التي تضعها الهويات الرقمية، تشكل جدارا قويا بين الفرد وبين أقرب الأفراد إليه، أي أفراد الأسرة والأقارب ثم الجيران، بل حتى الأفراد الذين يتفاعل معهم، يكون تفاعله محكوما بوجود الآلة، إنها هوية ذات حدود قوية، فالأفراد يتفاعلون من خلال قضايا متعددة ومتنوعة. لكن، كل منهم في عالمهم الرقمي الخاص به، و بناء عليه فقد صبت معظم آراء المبحوثين في اتجاه أن الهويات الرقمية، قد نجحت بشكل كبير في تعطيل الروابط الاجتماعية وبناء روابط بديلة عن تلك الأصلية، حيث عبرت نسبة 72.3% من المبحوثين، كونهم يستعملون الفيس بوك في التواصل مع الآخرين، خاصة مع أفراد من الخارج وفي أحيان أخرى يتواصلون مع ما يمكن الاصطلاح عليه "بالمجهولية"، بينما نجد نسبة 58.5% صرحت بكونها تلجأ للفيسبوك من أجل التعرف على أشخاص آخرين، في حين أن الاستعمالات الأكاديمية والثقافية ظلت نادرة خلال هذا البحث.
إن ما يعمق صعود الهويات الرقمية، ليس تكاثف تكنولوجيا الاتصال كما يرى البعض، بل وجود فجوة بين الأجيال، فالأطر الجامعية غير قادرة على بناء علاقات متينة مع الطلاب. كما أن الطلاب أنفسهم غير قادرين على التواصل مع الأطر الجامعية من جهة ومع بعضهم البعض من جهة ثانية. إن الأمر هنا يتعلق بصعوبة التواصل بين الأجيال، ناهيك عن كون هذه الفجوة آخذة في التفاقم مع تسارع إيقاع التطور المجتمعي، الذي تحركه تكنولوجيا الاتصال. إن حدود الهوية الرقمية، مرتبطة كذلك، بالتفاوت الحاصل بين الأجيال على مستوى استعمال تكنولوجيا الاتصال، فالكبار من أباء وأمهات وعلى حد تعبير المبحوثين بعض الأطر الجامعية، يعانون من أمية تواصلية أو أمية وسائطية، تحد من قدرتهم على استخدام وسائل التواصل الالكتروني والوسائط الرقمية الحديثة، الشيء الذي يجعل الطلبة يتجهون نجو بناء علاقات افتراضية بعيدة عن محيط الجامعة ومحيط العائلة. لم تقف حدود الهوية الرقمية عند هذا الحد، بل لها حدود على مستوى اللغة، بحيث أن الهوية ترتبط باللغة، هذا المعطى، ولد فجوة لغوية بين الكبار والصغار. كما ولد فجوة رقمية بين الطلبة أنفسهم، بين الطلبة المتمكنين إلكترونيا وأولئك، الذين تنقصهم التجهيزات والقدرات وهو ما يمكن أن نطلق عليه بطبقية التواصل بين الطلبة، وهذا يجعل من الهوية الرقمية هوية طبقية.
هذه القضايا تجعلنا نطرح مسألة الحدود بين الهويات المحلية، حيث أن ما يفصل بين الهويات الصغرى داخل المجتمع الواحد، ليس حدودا ثقافية أو جغرافية، كما يذهب في ذلك الطرح الأيديولوجي أو كما يتصور الثقافويون، بقدر ما تعود هذه الحدود، إلى إجراءات الجماعة في التمييز، مع استخدامها لبعض السمات الثقافية كمحددات لهويتها النوعية. وهو ما يغيب على مستوى الهويات الرقمية، بحيث أن الحدود تتحكم فيها التكنولوجيا وإتقان مهارات التواصل عبرها وكذلك اللغة المهيمنة، ففي غياب التحكم في اللغة وخاصة اللغة الانجليزية، فإن التلقي السلبي يظل هو المهين داخل المجتمع الرقمي. كذلك، يظل المرسل الذي يتحكم في اللغة وينتج المادة هو المسيطر على وسائل الاتصال هذه، هذا الوضع، يجعل معظم أفراد المجتمع الرقمي، ينظمون إلى الأغلبية الصامتة، التي تستهلك قيما ثقافية وهويات جديدة دون أن تكون شريكة في إنتاجها، مما يجعل من حدود الهويات الرقمية مسألة غير ثابتة، إذ يتم تغييرها في كل لحظة. الشيء الذي يجعل من تكنولوجيا معلوميات الاتصال، تمثل من جانب آخر معول هدم للحواجز الفاصلة بين فروع المعرفة والقيم والهويات الكونية، بل معول هدم لما تنتج هي نفسها من قيم وهويات رقمية. مما يجعل من الجماعات/ الطلبة الوافدون من نفس المنطقة، القريبة من بعضها ثقافيا، نفسها غريبة تماما عن بعضها البعض. بل ومتعادية، خاصة حينما تختلف حول عنصر منعزل في المجموعة الثقافية. إن الأمر لا يتعلق هنا بامتلاك هوية خاصة بشكل آلي أو هوية صلبة، بقدر ما يتعلق الأمر بتقسيم أيديولوجي، يستخدم الجغرافيا والثقافة الرقمية ليعبر من خلالهما عن ديناميات المجتمع في تنوعه الثقافي. لكن، ليس بهدف خلق إطار للوحدة والتنوع، بل بهدف خلق انقسام مختلف وعميق داخل المجتمع/ الجامعة، مما يجعل من حدود الهوية الرقمية، حدودا صلبة تنكسر أمام كل إبحار في المجتمع الرقمي، هذا الاضطراب في الهوية الرقمية، يزيد من صعوبة تعامل الإطار الجامعي مع الطلبة، إذ عليه أن يواكب هو نفسه سرعة تكنولوجيا الاتصال، حتى يكون قادرا على التواصل مع هذه الأجيال.
أعتقد؛ أن العلاقات بين الهويات المحلية والهوية الرقمية، لا ينبغي أن تؤدي بالضرورة إلى إلغاء الاختلاف، مثلما تطرحه/ الهوية الرقمية، بل ينبغي أن تساهم في تنظيم هذه العلاقات الاجتماعية داخل الجامعة، بشكل تحافظ معه على الاختلاف. لكن، ينبغي الانتباه كذلك، أنه في أحيان أخرى سوف يزيد هذا الاختلاف عن طريق استراتيجيات الدفاع ( الرمزي) عن حدود الهوية الهويات الرقمية، هذا الدفاع يكون مضطربا، نظرا لكون وسائل الاتصال الرقمي زعزعة تماسك المجتمع وساهمت في تشرذم بنياته الثقافية والسياسية والاجتماعية، لكون المجتمع يعاني من أمية تواصلية وفقر في اللغة المهيمنة في الفضاء الرقمي. إننا أمام حدود هنا غير ثابتة، بل هي دينامية؛ بحيث يشكل الحد فرزا اجتماعيا يمكن تجديده باستمرار، من خلال المبادلات الثقافية والرمزية والاجتماعية والاقتصادية، التي تتم بين المجموعات الاجتماعية الرقمية.
إن طرح، مسألة الحدود بين الهويات الصغرى داخل الجامعة المغربية بشكل خاص وداخل المجتمع المغربي بشكل عام في علاقتها بالهوية الرقمية، ينبغي أن توظف في دراسة العلاقات بين المجموعات الاثنية والقبلية لتفسير التداخل ـ عبر الحدود الرمزية ـ بين مختلف الوحدات الاجتماعية وبين مختلف الهويات الثقافية، سواء من خلال علاقات التبادل الاجتماعي والثقافي القائم بين الطلبة أو في تفسير الصراع القائم بين التنظيمات الطلابية.
لتوضيح هذه الحدود أكثر، يجدر بنا أن نسلط الضوء على الحدود الفاصلة بين الهويات الصغرى، والتي قد تتخذ أبعادا مختلفة؛ اقتصادية أو أيديولوجية أو سياسية أو عسكرية أو اجتماعية. لكن؛ في كل هذه الحدود يكون هناك تداخل الثقافي ثم تبادل للعناصر المكونة لهذه الهويات، لتنتهي في نهاية الأمر إلى هوية المجتمع العام. وهذا ما يقتضي غياب حدود جغرافية لأن هذه الأخيرة تعمل على تسريب الظواهر الاجتماعية؛ كالهجرة السرية والانحرافات والرذيلة. لكن، في حالة الهويات الرقمية، نحن في مجتمع تكون الغلبة فيه لمن ينتج البرامج ولمن يسيطر ثقافيا واقتصاديا. كما تتحكم فيها أشكال تكنولوجية متنوعة. مما يحول العديد من أفراد المجتمع الرقمي، إلى مجرد كائنات تستهلك ثقافة الآخر، وبالتالي يكون التفاعل في اتجاه أحادي، الشيء الذي يجعل الأطراف المهيمنة هي المتحكمة في حدود الهوية الرقمية.
صحيح، أن هناك صعوبة اليوم في تحديد الهوية، نظرا لتغيرها المستمر تبعا لتحولات البنية الداخلية للمجتمعات على مستوى العالم، سواء في علاقاته مع الخارج ومع التكنولوجيا أو على مستوى ما ينتج عن ذلك؛ من أزمات وصدمات، قد تؤدي إلى اللجوء إلى هويات جديدة، هويات قطرية أو رقمية، سواء منها العرقية أو الطائفية أو الدينية.
إن العصر الحالي؛ عصر تغير في هويات الأفراد والفئات الاجتماعية وحتى في هويات الشعوب بكاملها أو جزء منها. إلا أن هناك اختلاف على مستوى الهويات، لكن ينبغي أن نعلم، أن هذه الهويات تخضع لأولويات، تجعل من بعضها أثبت نسبيا من بعضها الآخر، وهي التي أسميناها سابقا بالهوية المطاطية؛ بحيث تتسع لكل الهويات الصغرى؛ فالهوية السياسية والاجتماعية والدينية هي هويات فرعية لأصل واحد؛ وهو ما يعطي معنى للمجتمع، غير أن الهوية الرقمية تغيب عنها هذه الخصائص، بحيث تفتقد لغة واحدة، بل أكثر من ذلك، نجدها تعتمد على لغة تمزج بين العربية والأماوزيغية والفرنسية أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية وغيرهما الشوائب، التي ترتبط بهذه الهوية.
الهوية الرقمية والدولة
إن ظهور الدولة، أضحت معه الهوية شأنا من شؤونها؛ بحيث هي، التي تدبر قضية الهوية وتضع لها القواعد والضوابط، وفي هذا الإطار ينبغي للدولة أن تكون صارمة في ضبط الهوية والحفاظ على كل العناصر المكونة لها. غيرأن الهوية الرقمية، خرجت عن هذه الرقابة، التي تفرضها الدولة، وبدأت تؤسس لمجموعة من الطقوس التواصلية، سواء على مستوى اللغة أو على مستوى المعتقد، هكذا انفلتت الهوية الرقمية من مراقبة الدولة ومن الضوابط، التي تضعها لضبط الهوية، وهذا ما صرح به المبحوثين، حيث ذهب أغلبهم، أنهم يتعلمون الدين بل يقتنعون بأفكار دينية من خلال التواصل عن طريق الفيسبوك، هكذا ينفلت الدين من مراقبة مؤسسة العلماء والمسجد ومراقبة الدولة، ليصبح شأنا فرديا يناقش مع أفراد ينتمون إلى مذاهب إسلامية مختلفة وأحيانا يناقش الدين مع أفراد من توجهات دينية أخرى. لقد أظهرت نتائج البحث الميداني، أن نسبة 33% من المبحوثين، صرحوا أنهم يستخدمون تكنولوجيا الاتصال لمدة تفوق ستة سنوات، تعرفوا من خلالها على مجموعة من الأفراد ينتمون إلى مرجعيات مختلفة. كما اقتنعوا بأفكار عدة من خلال هذا التواصل. لكن، أهم ما ينبغي أن ننتبه إليه هو أن فكرة الدولة أضحت غائبة لدى الأفراد حينما يتحدثون عن الفكر وعن الانبهار بالآخر، بينما تحضر الدولة من أجل "الجلد" أي حينما يتعلق الأمر بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الدولة تنتقد وبشدة، حتى لو تعلق الأمر بالمناقشة مع الآخر.
إن من أهم القضايا، التي ينبغي أن تعمل عليها الدول العربية اليوم ، حتى يتسنى لها تجنب الصراع، من جهة ، وضمان وجودها، من جهة ثانية، هو العمل على تنمية الهويات المحلية وعدم إقصائها من المشهد السياسي والإعلامي والثقافي، وذلك بهدف توحيد الهوية المغربية، من خلال الاعتراف بكل العناصر الثقافية المكونة للمجتمع، هذا الأمر هو مطروح حتى بالنسبة للغرب، ففي الوقت الذي عملت فيه فرنسا على توحيد الهوية، بحيث أنها لا تعترف إلا بهوية واحدة، نجد فيه الولايات المتحدة الأمريكية، تعمل على قبول التعددية الثقافية في طار الهوية الكبرى، وبالتالي حددت مرجعية اتخذتها الهوية الوحيدة، فيما تبقى دول أخرى، تميل إلى الهوية الوطنية المتعصبة، وهي دولة أيديولوجية تقوم على استبعاد الاختلاف الثقافي، وتتخذ منطقا متطرفا يترجمه الإقصاء الثقافي.
غير أنه، ومن خلال مجموعات النقاش مع الطلبة تبين لنا أن كل إقصاء للهويات الصغرى، يولد هروبا للهويات البديلة والتي تأتي الهوية الرقمية في مقدماتها. كما يولد ردات فعل عنيفة قد تؤدي إلى اللجوء إلى العنف ضد الدولة ورموزها، التي تتجسد في مؤسسة الجامعة وأطرها، وفي هذا الإطار يمكن أن نستنتج أن العلاقة المتوترة بين الطالبة والأستاذ هي نتيجة تهمش الدولة للهويات الصغرى. ومن فإنه بات لزاما على الدولة المغربية اليوم، أن تحمي الهويات الصغرى، لأن إقصاءها سيولد العنف. كما أنه سيؤدي إلى إضعاف الهوية الكبرى للمجتمع. هذا الوضع سيعطي الغلبة للهويات الرقمية وبالتالي تفكك المجتمع كليا. إن أي إقصاء للهويات الصغرى سيؤدي إلى تنامي المطالبة بالهوية. بمعنى آخر؛ فإن مركزية الدولة هو السبب في الصراع الهوياتي، الذي أصبح يظهر بين الفينة والأخرى في العديد في الساحة الجامعية. فالهوية؛ إذن هي تدبير مشترك بين مختلف الجماعات المحلية. كما أنه ينبغي تجنب منطق الإقصاء، لأن هناك هويات نسبية تتراجع بفعل التغير الاجتماعي لصالح الهوية الكبرى.
الوعي بالهوية الوطنية ودوره في التنمية البشرية
قد يتساءل كثير ممن ينشغل بالتناقضات التي تهدد المجال القيمي في إطار هيمنة المجتمع الرقمي بهوياته وقيمه، في زمن أضحت فيه الهوية الوطنية خاضعة لمؤثرات عدة تزعزع أسسها وتحجب أصولها لاسيما مع بروز استقلالية الفرد، عن الأسس التي تقوم عليها الهوية الوطنية وعن دور الوعي بهذه الأسس في التنمية البشرية بما فيها تنمية قيمة الشخص.
ومما لا شك فيه أن الخلاف القائم حول هذه الأسس يشكل جوهر الصراع السياسي، ففي الوقت الذي نجد فيه أن البعض ينطلق في تحديده للهوية الوطنية من خلال استعاره لنماذج جاهزة إما مستوردة وإما إقصائية ويحاول استغلال العمل السياسي في فرض هذه النماذج على أفراد المجتمع، نجد في المقابل أن البعض الآخر يعمل جاهدا في البحث عن تحديدٍ للقيم المؤسسة للهوية الوطنية باعتبار أن هذه الهوية هي وحدها الكفيلة بضمان وحدة المجتمع ومشروعية الدولة وبالتالي تتيح للمواطن الانخراط الصحيح في تنمية ذاته وفي تنمية المجتمع.
بيد أنه لا يخفى، حتى بالنسبة لإنسان بسيط من مجتمعنا لا يكلف نفسه عناء البحث في جذور الهوية المغربية وفي امتداداتها، أن القيم المؤسسة لهويتنا الوطنية ذات بعد مزدوج: الخصوصية والانفتاح، هذه الازدواجية تتأسس بدورها على الإيمان بالتنوع وبالكونية. لكن تمت زعزعة هذا الوعي بل وتشويهه بفعل الصراع الإيديولوجي الذي طغى في العقود الأخيرة من القرن الماضي، والذي لا زالت أثاره تطبع حيزا كبيرا من الحقل السياسي.
إن تحديد القيم المؤسسة لهويتنا وصونها، في زمننا الحالي، زمن الهويات الرقمية، لهو من الأهمية بما كان، خصوصا بعد الاهتداء إلى الغاية المثلى للدولة والمجتمع المدني ألا وهي التنمية البشرية. هذه الأخيرة التي تقتضي من الشخص أن يدرك أهمية الهوية الوطنية في بناء هويتة الشخصية، على اعتبار، أن شرط الإنسان يستدعي الوعي بالانتماء إلى وطن يعترف به غريزيا، هذا الوعي الذي يكفل للفرد القيام بدوره في التنمية من حيث أن هذه الأخيرة هي عملية تقوم أساسا على تقدير الذات وحبها وأيضا تقدير وحب الآخرين، إنها عملية أخذ وعطاء’تلغي كل أشكال التمييز وتسعى إلى تنمية متكاملة للبشر وللمؤسسات المجتمعية بغية تحقيق الغايات الإنسانية ا لأسمى: الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. لعل هذا ما يمثل جوهر القيم المؤسسة لهويتنا الوطنية القائمة على الولاء للوطن وللإنسانية وعلى قيم التضامن والتسامح والتعايش والإيثار. إن الانفتاح لا يعني في نظرنا التخلي عن الجذور العميقة للهوية، الإفريقية والأمازيغية والحسانية والعربية الأمر الذي يفرض على الجميع الانخراط في عملية التنمية البشرية، وتركيز كل الجهود نحو هذه الغاية عبر التحلي بروح المواطنة والكونية، أي عبر الوعي بالهوية الوطنية.
خاتمة
إن المجتمع المغربي اليوم، يتعرض أكثر من أي وقت مضى، إلى التغير في بنياته التقليدية. ولأننا أمام ديناميات تغير قوية وتفاعل مع ثقافات عديدة أضحت تفرضها وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، فإن هذا يعرض الهوية المغربية إلى تغير ويصيبها أحيانا أخرى بإضعاف. كما أن هذا التحول يساهم في صعود الهويات الصغرى، التي تم إقصاؤها لمدة طويلة، والتي تتخذ المنظمات الحقوقية والهيئات السياسية، من التهميش والحرمان مدخلا للدفاع عنها والمطالبة باستقلالها.
لا نسعى من خلال هذه المداخلة؛ إلى أي إقصاء للخصوصيات الثقافية أو الهويات الصغرى. لكن، ما نود التأكيد عليه؛ هو أن هذه الهويات وعلى الرغم من الحدود الرمزية، التي تضعها الجماعات؛ فإنه يبقى من الصعب حصرها؛ لأنها في تفاعل مستمر مع التاريخ ومع الهويات الأخرى، سواء منها المحلية أو الكبرى. غير أن صعود الهويات الرقمية، سوف يؤدي من جهة إلى صعود الهويات المحلية، فيما سيؤدي من جهة ثانية إلى تدمير جزء مهم من رموزها الثقافية واللغوية.
يبقى في الأخير أن أشير، إلى أن موضوع الهويات الصغرى، ينبغي أن يحضر في مشاريع التنمية وفي تحديد الحاجيات الأساسية للجماعات المحلية. لكن؛ لا ينبغي أن يستغل، كاستراتيجيات في الصراع بين الدولة الوطنية ومكونات المجتمع، هذا الصراع الذي تساهم اليوم الهويات الرقمية في إذكائه ومحاولة إقصاء الدولة وتدميرها بشكل نهائي. كما أن الطرح الذي تتخذه التوجهات السياسية والأيديولوجية، ينبني أساسا على النظر إلى هذه الهويات في حدودها الضيقة، مقصية بذلك التاريخ والتفاعل القائم بين كل مكونات المجتمع.
إن مستقبل وجود المجتمع المغربي؛ يرتبط أساسا بمدى القدرة على التغلب على هذه الصراعات وتحقيق التنمية المستدامة في كل المناطق وفي كل جهات المملكة، مع إشراك كل الهويات الصغرى في اتخاذ القرارات. كما أن أية محاولة للإقصاء سوف تؤدي للصراع الذي يهدد مستقبل الدولة.
المراجع
– الدواي ، عبد الرزاق. « عناصر تصور جديد لإشكالية الثقافة» المجلة العربية للعلوم الانسانية ، مجلس النشر العلمي /جامعة الكويت/ العدد 96 السنة24 خريف 2006 .
– الشناوي ، أحمد عبد الموجود. الهوية الثقافية للمجتمع البدوي : دراسة انتروبولوجية للثقافة البدوية النتغيرة، دار مصر المحروسة، القاهرة 2008.
– بدوي ، أحمد زكي. معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية ، مكتبة لبنان الطبعة الثانية المجلة العربية للعلوم السياسية ، العدد 14 ربيع 2008م.
– عبده ، مختار موسى. « صراع الهويات ومستقبل السلام في السودان : منظور سوسيولوجي لمسألة الجنوب»
– كونشي ، دوني / ترجمة المقداد قاسم . مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، منشورات اتحاد كتاب العرب ، دمشق ، 2002.
– كامل ، عبد المالك. رؤى العالم المتغير، دراسة في الاتصال الثقافي للمجتمعات الحدودية ،دار مصر المحروسة، القاهرة 2008 .
– عطية ، عاطف. «لبنان المجتمع والهوية» المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 15 صيف 2007.
– علي، نبيل. « الخلوة المعلوماتية» مجلة الدوحة، السنة الرابعة، العدد الثالث والأربعين، مايو 2011.
– رحومة، علي محمد. علم الاجتماع الآلي: مقاربة في علم الاجتماع العربي والاتصال عبر الحاسوب، عالم المعرفة، العدد 347 يناير2008.
– صالح، سليمان عبد العظيم «الانترنيت ولغة حجرات الدردشة: دراسة حالة لاستخدامات اللغة العربية/ البال توك ودلالاتها الاجتماعية » مجلة العلوم الإنسانية، جامعة البحرين، العدد 12 ـ صيف 2006.
– Eva, Evers Resader.«Identité féminine musulmane dans un village frontalier Hispano-Marocan »Femmes culture et société au Maghreb , Volume , Afrique Orient 1996.
– Jane Kroger Monica Martinussen , James E. Marcia « Identity status change during adolescence and young adulthood: A meta-analysis » Journal of Adolescence 33 (2010)
– Patchanee, Malikhao. Jan, Servaes. « The media use of American youngsters in the age of narcissism: Surviving in a 24/7 media shock and awe – distracted by everything » Telematics and Informatics Volume 28, Issue 2, May 2011