قصائدي أبنائي
أنس الفيلالي عاشق الشعر ورصانة البحث أديب مغربي شاب يتميز بجمال الكلمة ، وروعة اختيار اللفظ الموحي، يجمع بين مجالي الشعر بخياله الخصب والبحث بموضوعيته ، له نظرة متعمقة في ميدان التاريخ ، طموح يمتلك نشاطا متألقا يثير الإعجاب ، سيرته حافلة بالانجازات رغم سنه، أعجبت بتميزه ونظرته الثاقبة الى أمور الحياة ، فكان لي معه هذا الحوار:
– من هو انس الفيلالي ؟
– كائن يعيش في الضفة الأخرى من الاغتراب الميتافيزيقي، رمت به أمواج الخلو الى تلال بأخاديد الفجيعة، بين الرحيل الى اللامنتهى بمشيئة الحب، وبين الغربة الى اللاوعي حيث انبثقت حرقة أنس الفيلالي، الوشم و الحرق و اللهيب الذي أنار خلوة الغرباء، أينما كان الحب، حب العشق في الرماد الليلكي في أي مكان.
– أنت باحث و شاعر، أي المجالين تفضل؟
– أخلو الى الاثنين في غربتي، وهي حثمية، وتجعلني أنوء بجلد قارعة عرائسي بصفة متناسقة و متماسكة لا شعاب في سكراتها، فالبحث فضاء عامر بمكوناته، أولا من خلال الحلم ثم بالخلاص عن طريق الشعر. فولادة الإبداع بحركياته وتجليات آفاق الأسلوب أو المدرسة الجديدة التي يجد فيها الشاعرضالته، رهينة بما اكتسبه الشاعر من تجربة وبما خزنته رفوف مكتبته من تجارب السابقين، مفاهيم و أفكار كيفما كانت طبيعة الحقل المعرفي الذي تنتمي إليه، سواء في التاريخ أو الحضارة أو الأدب . حيث أنزوي في البحث والنبش والحفر العلمي والتنقيب الأدبي لإنارة صحوة الطريق التي سأسلكها في قصائدي من ناحية، و من أجل خلق رؤى ونتائج جديدة في بيئة أو موضوع قيد البحث من ناحية أخرى. وتبقى الكتابة في مفهومها العام تلبية لدافع خفي قادم من أعماق الاحتراق، الذي تخطى خطوات من النضج حتى كوّن وأسس رؤية تفرض عليه دخول عالم التحقق.
– كيف تجد نفسك في مجال البحث؟ وماهي الصفات التي تميز الباحث المنصف؟
– كما أشرت آنفاً، فقد غُصت بابي البحث المتعارف عليها، أي العلمية والمتعلقة بأمور التاريخ والحضارة، حيث تخصصت في مرحلتي الجامعية، و الأدبية و المتعلقة بالدراسات الأدبية التي استحوذت على اهتمامي كطالب، و قد خضت مرارا في هذه الأخيرة، في محاولة لإدراك محيط مدى الشاعر الحقيقي، أو المتجليات التي تؤسس لمرتكزات الشاعر الأكاديمي وتنميي موهبته بشكل علمي ومحكم. فالبحث في تاريخ و حضارة بني آدم، من فتوحات وغزوات وانهزامات وانكسارات ودراسات في الحضارات السابقة، يعطي للحياة نكهتها المشرقة، في محاولة لبناء حاضر متزن متوازن بلوعة المطر الرحب، و الثمر الثمل. فلولا الدراسة القبلية والأكاديمية لذلك التاريخ بسلبياته وإيجابياته لما كان من الإمكان إحداث التميز بمفهومه الإبداعي، والأهم من ذلك الاستفادة منه لبناء هذا الحاضر الذي من المفروض أن يكون مشرقاً لو خطونا خطو التتبع وعدم تكرار أخطاء الماضي، والمشي على خطى المخلفات الايجابية التي تنير حاضرنا. و التطلع للمستقبل، لإشراقة الصباح، بأفكار و رؤى وخطوات منسجمة ومدروسة، رهين بالدراسات والأبحاث التاريخية التي جرى استيعابها وتملكها معرفياً. أما البحث في الأدب كما أسلفت فهو محاولة لتأسيس مفهوم الشاعر وإدراك محيطه العام. فالشاعر الباحث له حظوته المعرفية في نصوصه الشعرية بشكل أوفر.
و الباحث أياً كان تخصصه يجب أن يتحلى بروح البحث العلمي أولاً وأخيراً، بعيدا عن الحساسيات الايديلوجية أو المذهبية الدينية أو السياسية أو تلك الخاضعة لحكم العشيرة او القبيلة...و من ثم يبحث عن روح البحث الأساسية التي تؤسس الكتابة أو البحث.
الأول مرتبط بالأصالة التي يجب أن يكون عليها العمل المقدم، والتي ترتكز قبل الوصول لتحقيق الغاية والهدف المقصود، على المنطق السليم و الأمانة العلمية الصرفة.
أما الشق الثاني فمتعلق بالجدة والابتكار الجديد قبل الوقوف على آراء جميع السالفين في الموضوع الذي هو قيد البحث أو الدراسة الجاري تحضيرها.
– التاريخ و الحضارة: عنوانان يتحدان ويختلفان، متى يتم التوحد وأين يكون الاختلاف؟
–
لا يمكن للحضارة ان تكون بدون دراسة للتاريخ ولقانون التاريخ، فأبرز الأنظمة العالمية الحالية المتقدمة، أصلها يعود للتاريخ الغابر، وحاضرها هو امتداد لذلك التاريخ، بقوانينه ومرتكزاته ومقومات حضارته.فمثلا مجلسي الشيوخ الأمريكي والفرنسي اللذان ينبني عليهما المجتمعين الفرنسي والأمريكي وحتى الروسي، من خلال المواقف التي تخرج من هذه الهيئة ورجالاتها، أصلها يعود للنظام والحكم الروماني، ومعظم الأنظمة المتقدمة تتخد من التاريخ الغابر منهجا في سلوكياتها السياسية والثقافية والحضارية. خاصة حين يعرف المجتمع وأصحاب مقاليد الحكم كيفية التعامل بشكل جدي وعلمي مع هذا التاريخ بأخطائه و سلبياته و ايجابياته، حيث بفعل التراكم تؤسس مفاهيم التاريخ والحضارة، منظومة تسير عليها مجتمعاتها وشعوبها، فالاتحاد هنا ايجابي يفضي إلى ماهو ايجابي. إما الشق الثاني من سؤالك، فجلي في مجتمعاتنا العربية، أنها تعيد بشكل عفوي إنتاج الحاضر اعتماداً على سلوكيات الأفراد، التي تمنهج القطيعة مع الماضي، والمشهد القاتم لا يأتي من عدم، وإنما لأن سوادهم لم يدرس لا التاريخ بشكل عام، و لا تاريخه بشكل خاص، فبالأحرى التعامل معه كضرورة إنسانية لا محيد عنها لبناء المدينة الجديدة.
– متى كانت بدايتك شاعرا؟ ومن وقف بجانبك مؤازرا؟
–
لا أستطيع تحديد الزمان المؤسس لحساسيتي الشعرية. ما أستطيع التأكيد عليه، أني وجدت نفسي متورطاً في حمى الكتابة مبكرا جدا، مع تورطي في الرسم والفن التشكيلي والمسرح، فبالنسبة للكتابة الأولى فقد كانت بنصوص في الشعر التقليدي، في المرحلة الإعدادية، ولا أنكر أنها كانت عشوائية تفتقد إلى العديد من المرتكزات الشعرية التقليدية التي عرفتها أثناء تخصصي الأدبي فيما بعد، وقد بدأت هذه المحاولات تنضج وكلما نضجت أحتسي منها عبق نشوتي و غربتي، أما خلال المرحلة الثانوية فقد ازداد إدراكي للمعنى الحقيقي للشعر والكتابة بجدية أكثر من السابق. ويرجع الفضل الكبير في هذا الإدراك إلى أستاذة اللغة العربية فاطمة السريفي التي كنت من أنبه تلامذتها في الفصل، وأذكر أني لم أرضَ حينها بأقل من التلميذ الأول في مادة اللغة العربية، فطالما ما كانت تشجعني وتخول لي عن غيري من زملائي، قراءة ما كنت أكتبه من قصائد في نهاية كل حصة من الفصل. وكَثُرَ ما أجلستني بمحاذاة الطاولة الخاصة التي تقاسمناها سوية مرارا.، لقراءة جديد كتاباتي. وشهادتها في الأخير كانت تزيد من إرادتي وتقويها كما كانت تحثني على المزيد من المثابرة وتأتي التجربة اللاحقة في الحصة التي تليها أحسن من سابقتها،. كانت هذه هي البداية الأولى، أما البداية الحقيقية للانسياق نحو عالم الكتابة بمفهومها العام، فكانت بعد حصولي على جائزة التلاميذ الشعراء. حينها أدركت حقيقة الوسط الثقافي المغربي انطلاقا من مدينتي، والذي اكتشفت أن القوى السياسية و المؤسسات الحزبثقافية هل التي تؤطره وتتحكم للأسف بزمامه،.
فبزوغي الشعري في مدينة جذورها التاريخية عميقة عمق البحر، و تاريخها الشعري يشهد على الريادة لا غير ذلك بالوطن. جاء في وسط ثقافي حالي لا يقبل الشاب المتفوق أو المبدع المستقل عن التوجهات السياسية أو المفاهيم الخارجة عن العمل الجماعي، و لا أظن أن هناك مبدعاً آخر كان سيقاوم الأساليب و الضغوط التي مورست علي من طرف المبدعين لقتلي إبداعيا، مالم أخطو إحدى التوجهات أو الجماعات الثقافية المتعارف عليها في المدينة، والتي لا تخلو في كل مرة من مرق الحلو، ودناءة القيم، وخروج الهيم عن المقيض، والقبيح عن الجميل. إلا أن من حسن حظي أني تعرفت من داخل ذاك الوسط الثقافي، عن الخارجين عنه، عن مبدع بحجم كبير و صديق بحجم الحب و العشق، أديب لطالما سمعت به من خارج جدران المدينة، فمحمد سعيد الريحاني الذي قرأت له من بعيد، صار منعطفا بارزا في مسيرتي الشعرية، بشكل عام . فقد احتضنني وأخد النصح بيدي وساعدني على توسيع المداريك العلمية والتقينة المتعلقة بعالم النشر، فمن خلاله زدت في قوتي وشعريتي التي كانت دون شك ستنخرها الرداءة السائدة في المجتمع الثقافي، وخاصة أن سني لم يكن ليحتمل ذلك، فمن خلاله تعرفت أيضا على المدارس الفلسفية الغربية ومرتكزاتها الدقيقة، ومن خلاله زاد ألق قصائدي بهجة بالعالم الجديد، حين نشرت أولى أعمالي وهي قصيدة "لا صعود للغرباء" إيدانا بواقع الأدب والأدباء بالمدينة، في صحف عربية عديدة، كان أولها "الزمان اللندنية" و "جريدة العرب اليوم الاردينة" ف"العرب العالمية" ومنابر أخرى لمدة طويلة قبل أن أنشر في أي من الصحف المغربية .
ما هي العوامل التي جعلت انس الفيلالي عاشقا للشعر ومنذ الطفولة ؟
لا أذكر أن هناك أي عامل عن آخر، جعلني عاشقا للشعر عن غيره من الفنون. فما أؤكد عليه هو أني تورطت بدون سابق تصميم في حمى الكتابة مند زمن بعيد، منذ أيام الطفولة.
– نلت عددا من الجوائز، هل تجد أن الجوائز الشعرية ثمثل حافزا للإبداع؟
–
بطبيعة الحال، فالجوائز لا تصنع من الشخص مبدعا، كما أنها لا تعطي الأحقية للفرد عن غيره بخصوص مكانة الابداع بنسبة معينة، لكن الجوائز حسب نوعيتها وطبيعتها لها مكانة خاصة لدى أي مبدع، وأخص بالذكر منها الجوائز المحكمة التي تخضع لمنطق الجدارة والتي يشرف عليها مبدعون أكفاء وحقيقيون، وغالباً لا تخضع إلى أي قوة خارجية أخرى، على غرار تلك الجوائز والتي كظاهرة غير صحية استشرت في وسطنا الثقافي، وأقصد تلك التي يتحكم فيها الكائن الايديلوجي والحزبي. أما الجوائز التي تأتي في هذا السياق في نسق الاعتراف بالمجهود الأدبي والتي هي في شق جوائز التكريم ، وتمنح لشخص أثرى الساحة الأدبية بأعمال جدية، أوتلك التي تأتي في إطار التشجيع والتي تمنح للشباب الواعد. تشجيعا له لما بذله في إطار مسابقة أو تنافسية ، فهما مهمين جدا لأي منهما ، فالاعتراف يفضي الى عمل أكثر من الأول. ولا أنكر شخصيا أن جائزة التلاميذ الشعراء التي حصلت عليها كان لها أثر كبيرعلى مسيرتي الشعرية ، فقد شجعتني لدخول عالم الكتابة بمفهومها الجديد، عبر الاحساس بالمسؤولية أكثر من السابق، مما أفضى إلى حصولي على جوائز أخرى في الجامعة، قبل أن أتوج على المستوى العربي.
– شاركت في عدد من الملتقيات، ما أهمية ذلك في تعزيز الثقافة؟ و توثيق عرى الصداقة بين المبدعين؟
–
صحيح أن الملتقيات الثقافية تساهم في توثيق عرى الصداقة بين المبدعين، الذين يجهلون بعضهم البعض في الواقع على الأرض، وان كان هناك تلاقح للأفكار و اللقاءات في العالم الافتراضي، ومن خلال كتاباتهم في الكتب أو الصحف والمنابر الاعلامية، فالملتقيات تعمل على قطع هذا الحاجز، لكن لا يمكننا الجزم بأنها تعزز من دور الثقافة، خاصة في بلدنا المغرب الذي نعيش في كفنه، ونعرف حقيقة جوهره الثقافي الذي ينخره "سوس الرداءة"، فاذا نظرت الى مصدر منظمي تلك الملتقيات و أيضا المشاركين في هذه الملتقيات، تجدها لا تخضع بسهولة للاعتبار الثقافي بالدرجة الأولى، لأن ليس كل المشاركين مثقفين أو حتى مبدعيين، فالملتقيات لا تخضع لمنطق اعتبار أن المثقف أو المبدع له حظوة عن غيره بما قدمه في المشهد الثقافي، فاستدعاء المشاركين يخضع إلى منطق أواصر الصداقة أوالايديولوجيلة أو الحزبية المشتركة مع الجهة المنظمة، وما غير ذلك فقليل جدا، وأنا جد سعيد بحضوري في ملتقيات متعددة وخالية من أي من الحساسيات المشبوهة التي ذكرتها سابقاً، مثلي مثل العديد من المبدعين الحقيقيين في هذا البلد.
– أحببت الشعر والمسرح و الفنون التشكيلية، ماحظ هذه الفنون من اهتمام المجتمع العربي؟
– بالنسبة للشعر، فلا أحد ينكر تراجع متتبعيه على حساب فنون أخرى في عالمنا العربي، فلاشك أن فئة قليلة جداً تقرأ الشعر، و التي تقرأ للرواد الذين سطع اسمهم في مخيلة المشهد الثقافي العربي منذ مدة، خاصة التي تدرج في مقررات المدارس، أما أغلب الأسماء الشعرية الرديئة فهي صنيعة للإعلام أو للمناصب الحكومية المعينة، فلنكن صرحاء مع ذواتنا ونعمل على أن لا يصيبنّن الغرور في التعليقات المتسرعة التي ترد على مانكتبه وننشره في الصحف والمجلات والمنتديات الثقافية. و لنبح بأن هناك أزمة عقيمة اسمها أزمة النصوص، وطغيان الرداءة و شعراء الرداءة على حساب فن الشعر في المشهد الثقافي، إلا أنه لا يمكن تجاهل الحساسية الجديدة التي انبثقت في بعض الدول العربية، خاصة في المشرق، والتي برهنت على أن المستقبل هو للشعر، و لقراء الشعر. أما حظ الفنون التشكيلية لدى الجمهور العربي، فلا يقل عن حظ الشعر، إلا أن المهتمون بالفن التشكيلي غالبا ما يتحدرون من فئة المثقفين ذوي الدخل العالي المرتفع والأغنياء من الناس. أما بالنسبة للحضور المسرحي لدى المشاهد والمتتبع العربي فمرتبط بالوضعية المتأزمة التي يعيشها الوضع المسرحي العربي، لقلة الكتابات المسرحية الجادة من جهة، أو للعروض المسرحية المائعة.. و حتى إن وجدت كتابات مسرحية في المستوى الذي توجد عليه في بعض الأقلام في المغرب و تونس ومصر، فهي تفتقد للمخرجين الذين سيترجمون هذه النصوص كما أرادها الكاتب أن تكون على خشبة المسرح. ومما زاد الطين بلة إغلاق العديد من دور العرض في العالم العربي، وقد شكل تراجعا بخلاف الدينامية و الحركية التي كان عليها مسرح الستينات و السبعينات . ولذلك فحظ المسرح لا يقل عن حظي الشعر و الفن التشكيلي لدى الجمهور العربي.
– ماهي الكتب التي حرصت على قراءتها ؟ وماهي أهمية القراءة في صقل الموهبة و تمثينها؟
– بطبيعتنا في الصف الدراسي في بدايته، نتعرف على الكتابات الممنهجة في المقرر الدراسي، مع اختلافها، إلا أنها ليس بالضرورة كافية لأن تترسخ لدى القارئ أو الدارس عن غير العشق الذي يكتزنه كل كتاب أو كاتب معين، وقد أتاح لي شغفي و بحثي عما هو جديد خارج عن المألوف، عن التعرف آنذاك على كتابات أخرى، ترسخت في ذاكرتي وكانت سراجا أنار طريقي نحو نضج أكبر في نحو الكتابة، إذ قادني بحثي في سني الطفولة، الى عشق ازلي لم يفتر الى الأن، عشق لكتابات محمود درويش ونزار قباني وأدونيس، قبل أن أنفتح على كتابات أخرى من قبيل بابلو نيرودا و كافكا.
فالإحصائيات تشير أن المغرب ليس مجتمعا قارئا، كأغلب الدول العربية، لأن طبيعته و منهجيته لا تخرج عن سواها العربي. فالقراءة تعوُّد وتربية وعشق لما بين الحروف والكلمات، والأمر كله يعود للجانب التربوي والبنيوي للأفراد ، ويتطلب جهدا أكبر من الدولة ومؤسساتها الثقافية والتربوية ، كما يحتم على البيت و المجتمع المدني والإعلام لعب ادوار طلائعية في هذا الشأن، و يتحمل كل من زاويته مسؤوليته في ذلك، بدل البهرجة في المهراجانت الفنية والثقافية التي تسود في مؤسساتنا الثقافية ، والتي تكلف مبالغ باهضة. القراءة دون شك تساعد على النضج الفكري والمعرفي لأي كان، فالمبدع تصبح له سلطة على مايكتبه كلما كانت سلطته على القراءة أكثر.
– نلحظ تراجعا في الاقبال على قراءة الكتاب المطبوعة، ماهي الأسباب برأيك؟
– و كيف يمكن ان نعيد للقراءة ألقها القديم؟
مما لا شك فيه أن للخدمات التي أضحى يقدمها النت للقارئ العربي، عامل رئيسي في ذلك، فالفرد يستطيع اليوم أن يقرا كتبا متنوعة ومتباينة في مدة وجيزة، وبأقل تكلفة .كما يستطيع الفرد اليوم السفر في أشهر الجامعات العالمية في القارات الخمس بمدة وجيزة، وأيضا زيارة كل المرافق الثقافية و المتاحف و المعارض في أماكن متباعدة، وهذا يسهل على العديدين عناء البحث في الأكشاك أو المكتبات التي قد لا يوجد فيها العديد من الكتب الممنوعة أو الكتب غير الربحية التي لا يعمل على توزيعها الناشرين. إلا أن علينا أن لا ننكر قيمة و أهمية الكتاب الورقي المطبوع، فنكهة القراءة لا تتأتى إلا به، و لوعة القراءة المفيدة فيه. فقد أضحى يعيش حالة احتضار حقيقي، لذلك ينبغي علينا أولا أن نذكي روح القراءة في ذواتنا، ومن تم نذهب كما اشرت عليه من قبل، ونعمل على تشجيع اقتناء الكتاب الورقي، بدعم الكتاب و صاحب الكتاب، و بتخطيط مشاريع تشجع على القراءة الورقية خاصة.
– كتبت الشعر التقليدي، ما سبب عدم مواصلتك هذا اللون؟
–
لوني الشعري، هو ذاك اللون الطافح بكل معاني الكلمات التي تضرب جذورها في بؤرة اللغة العربية الرصينة، من الشعر الجاهلي إلى وقتنا الراهن، لذلك فالانتقال من مدرسة شعرية إلى أخرى، باختلاف الرؤى والمسارات و المناهج ، التي غيرت ملامح النص الذي أكتبه، مرتبط بجانب التدريس في المرحلة الأولى من التعليم الابتدائي، لأن كل النصوص التي كنا نستنشق نفحاتها كانت نصوص تقليدية عمودية، فمن الطبيعي مادامت الموهبة حاضرة، أن يسير الركب مع التيار السائد خاصة في ذاك السن في المرحلة الإعدادية حين كتبت أول نص عمودي. قبل ان يتبدد الحلم ، و تختلف رؤيا العشق بعد التمرد على الأفكار واللغة والجمال، التمرد على كل ماهو إبداعي، مع الجيل لم يخرج أيضا عن هذه الحداثة التي وجد أغلبهم ذاته فيها، مع أني أختلف اختلافا جوهريا عن البقية، الذين تمردوا وقاطعوا المفاهيم الكلاسيكية التي هي مصدر لماهو حداثي بالنسبة إلي.
– من هم الأدباء الذين قرأت أعمالهم ؟
– وما الذي أثار إعجابك في تلك الأعمال ؟قادني شغفي للبحث عن الجمال أيا كان، بعد تأثري بالكتابات السابقة الى الانصراف الى كتابات أخرى، دفعتني الى درجة من الحلم والسحر والانبثاق نحو نافذة هي التي أنا عليها الآن، فأعجبت أيما إعجاب بقصائد "جوزيبي انغاريتي" و ما تحمله من مفاهيم مزدوجة المعاني، ملغيا كل الزخارف البيانية والموسيقية التي تؤسس للغة نظمها، خاصة باللغة الايطالية التي استقى من معجمها الكلامي قوة كلماته العارية التي يطغى عليها نوعا من السحر ميزه عن العديد من الشعراء . أما "كوازيمودو" فنصوصه تؤكد على أنه حي يرزق بيننا الآن، فشعر العظماء يبقيهم أحياء كالشهداء، بين القتلى في الجراح، جراح موتي الأول و القتل الذي تبعه، فحينما يصف كوازيمودو الأماكن و حالاته بالشكل الدقيق الذي برع فيه، و كأن نجيب محفوظ واقف في متكأ الشارع يصف لنا الحانة و المنازل وما فيها من الخارج و من الداخل، فحين يتكأ على قصائد "تنداري" ، " سنابل من حصاد كوازيمودو"، " أفتح راحتي بلهف" ، " يهرب مني حتى أصحابي"، و كأني أتكأ على نفس مواقفي و حالاتي في القصائد التي تؤسس للهم الذي أعيش عليه. بنفس النفسية و نفس الاتجاه الجمالي في الصور و الأسلوب، أما الشاعر الشيلي "بابلو نيرودا" فقد بسط في قصائده الوهاجة في الماء المتلاشي، خلق أشعة الظل الى ماوراء الأفق، في شجون ومرافئ أميركا الجنوبية . فشعر نيرودا لا يحتمل القراءة العادية أو التي نمر عليها مرور التسلية السريعة، فهو قوي بجمر أتونه، وقوي بمخالب عوالم الطبيعة التي لا تغادرالعديد من نصوصه، فمن غيره حدث النبات، وخاطب الغصن، و تضرع للعطر، جرحا بالأريج التائه. أما غوصي الآخر فكان في الأدغال الإفريقية واسحتوحيته من لوعة الماء، بالمعالم التي تطفح على شعر الشاعر النيجيري "رينيس أوسادباي" الذي عمل على سلالسة أسلوبه الى بناء قصيدة جمالية برؤى و مفاهيم جديدة تتلاقى في الرفض القاطع للتبعية والاستعباد ، والدعوة للحرية بإيقاعات خاصة، شأنه شأن الشاعر السنغالي "بيراغو ديوب"، الذي خلق في قصائده حيوية في الحديث، كأنما الإنسان يتحدث، مع العلم أنه ينصت للأشياء أكثر من الأحياء، ولا داعي لأن أعيد لما عشقته في نصوص أدونيس ومحمود درويش و محمد حلمي الريشة، فقد بُحتُ في لقاءات أخرى عن هؤلاء، إلا أنه على السائل أن يسأل عن محيطي بالمغرب، فأقول أن لا أحد أشفى غليلي شعريا مثل محمد الخمار الكنوني، محدث القصيدة المغربية الحديثة، بلغة لا مثيل لها في الوسط المغربي وربما حتى في العالم العربي في ذاك الوقت والوقت الحالي، فإن حظي بالاهتمام الإعلامي الذي حظي به جيله والجيل الذي يليه لوصل لما لم يصله الأولون والآخرون في المشهد الشعري المغربي و العربي.
– حدثنا عن ملتقى جون جنيه الثقافي، كيف شاركت؟
– و كيف كان وقعه على جمهور المثقفين؟ ما أشاد انتباهي في أول الأمر في الملتقى المذكور الأسماء الوازنة جدا في المشهد الثقافي العربي والمنتقاة بعناية والتي هي مبدعة حقيقية لا تخضع لغير منطق الإبداع، بخلاف الملتقيات التي أشرت إليها في بداية الحوار، مما أضاف لي نوعية خاصة بهذا الحضور الذي كنت الشاب الوحيد من بين أدباء كبار بحجم الروائي الكبير محمد الصيباري ، والشاعر والكاتب الكبير عبد المجيد بنجلون، والشاعر الفرنسي فيليب لوموان رئيس منظمة ألف شاعر، والشاعر والروائي عبد الواحد بناني سفير حركة شعراء العالم بالمغرب، والذي قدم لي الدعوة، من دون أي معرفة شخصية مسبقة، أو أي حساسية غير اسمي الذي اقتاده لاختياري في هذا الملتقى الباذخ و إلقاء نصوص شعرية مع هذه الأسماء و أسماء أخرى وازنة أيضا شملها الملتقى. وقد شكلت هذه المشاركة الوازنة نقطة أخرى لتحمل مسؤوليات الكتابة والحضور أكثر من السابق، بعد تربعي على جوائز شعرية، حيث فتحت خارطة نصوصي الشعرية والمقالات و البحوث العلمية أكثر من الشكل الذي كنت عليه في السابق، خاصة القصائد الشعرية، التي تلقيت بخصوصها ردودا كثيرة، والتي تذهب بتفتت التجربة، و نضج الموهبة، وهو ما نتج عنه أن أضع ديواني الأول قيد الطبع، في مؤسسة ثقافية الأولى في بلد ما، سأدع الأمر مفاجأة الى حين خروج العمل.* قدمت دراسات حول أعمال أنس الفيلالي، ما رأيك بها، وماذا أضافت لك إبداعيا و معرفيا؟
لا مراء أنها اعتراف نوعي جديد من المبدعين الحقيقيين لما أكتبه، فهي إضافة معرفية أيضا لما أكتبه، و توجيه من المبدع أو الدارس لما يجب أن أذهب عليه أو أتخطاه، فسعادتي بالنصوص التي أنسجها لا تكتمل الا بقراءة الدراسة لمحتوياتها.
– ما العمل الإبداعي الذي تعتبره الأفضل؟ وماذا؟
– القصائد التي أكتبها هي أبنائي، هي جزء مني، لذلك لا استطيع تفضيل نص عن آخر، إلا أن قصيدة "لا صعود للغرباء"، التي ترجمت للغات أخرى عديدة، ببساطتها و سهولتها، فلها حظوة خاصة عن البقية، لأنها تختزل معاناة وهموم عديدة في بداية حساسيتي الشعرية، وهي فاتحة نصوصي لدى القارئ العربي بالمشرق .هل يمكننا أن نطمح إلى بعض المقاطع منه ؟
النص قصير للغاية ومدلوله كبير علي وعلى نفسيتي، فلا أخفيك بأني كلما أتلمسه أعود لفترات من الزمن الحالك، ومرات عديدة يكون مرتعا لنصوص عديدة، فقد أثر في عديد من القصائد التي كتبتها، الطويلة منها والقصيرة، فهو:
حين تمر السراديب
ويورق الرمادعبر السحب قمرا يكسر السماء..يتسلق وهجيي أكفان المرايا
و الثلج الأسود
فتهجر ..
فتحات الغربان
والماء المطلي بالعبير
في صهوة الجبال
و أخاديد العواصف
أقول للغابة :
لا صعود للغرباء
نحو الأفق
فسمائي عالية..
ما السؤال الذي كنت تتمنى أن أطرحه عليك ، ولم أفعل ؟
مما لا شك منه، أنك سألتني أسئلة متشعبة معرفيا وشخصيا في تجربتي الشعرية، فما كنت أود أن اطرحه للقارئ العربي، ذهبت بي الى جوهره، أشكرك على هذا الحب الذي امتطيتني به في حديقتك المزدهية بوروده المعرفية والمكتنزة، بكل أمور الإنصات. أشكرك على إنصاتك الطويل لأسئلة أجوبتي، أما البقية فستأسسه قصائدي القادمة.ما ذا تقول في نهاية هذا الحوار؟
في نص " موسم الهجرة الى أي مكان" عن المجموعة القصصية للكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني التي تحمل نفس العنوان ،" موسم الهجرة الى أي مكان"، يكتب:
"الوطن صار مسرحا لأسوء أنواع الممثلين. الناس أميون ويمثلون دور الآباء المسؤولين ويأخذون أبناءهم للمدارس. المدرسون يمثلون دور المربي والمعلم والمنشط. والتلاميذ، منهكين بالمحافظ الثقيلة وساعات الدرس الطويلة والمسافات البعيدة بين المدرسة والبيت، يمثلون دور النجباء المتجاوبين مع الدرس. والتلفاز يذيع نتائج الامتحانات ويمثل دور المطمئن لتطور مستوى أبناء الشعب. والشعب مريض والأطباء يمثلون دور المعالج. والمحسوبون أقارب يمثلون دور المواظبين على زيارة القريب في المشفى. والمرضى يموتون ويحملون إلى ديارهم في سيارات يمثل بها سائقها كسيارة إسعاف. ويخرج أفراد عائلاتهم يصرخون ويندبون ليمثلوا دور المنكوب...
تمثيل في تمثيل في تمثيل... وأنا في حاجة إلى العيش ولو ليلة بعيدا عن هذه الخشبة الكبيرة. لذلك ، فقراري الرحيل قرار لا رجعة فيه" .
و كتب نيتشه:
" إنني لا أحب أعيادكم، إذ رأيتها مليئة بالممثلين، ورأيت المتفرجين أبرع منهم تمثيلا".
كلمتي لكل كاتب أراد كتابة كلماته البائرة، فأصابته جمرة الحمام الراكدة أن الكتابة عالم متشعب يلعب الجميع فيه دور الممثل على خشبة المسرح، فلنكن، على الأقل، رحماء بالنص المسرحي...