الاثنين ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم هدلا القصار

قصص لمدينة

كانت أفكاري تائهة مشلولة
تتمايل كخريف الأشجار،
تتأرجح كغواصة في عمق البحر

حينما سمعت أصواتا من قبب المساجد تدعو للصلاة
بينما ارسم الحاضر بأصابع الذكرى في وسط السواد

استدرجتني الذاكرة حين أتيت للبلدة السرية وللأمل الساخر
حيث انسحبت أطراف التاريخ الذي عرفته، ليصبح الماضي كصوت البوق اسمع صفاراته

التفتت ويدي بحركة بليدة من خلف زجاج العربة أشير للوطن بنظرات متمايلة مودعة للذكرى

كلما اقتربت القافلة من المدينة
كلما ابتعدت رائحة الصنوبر عني
وانتشرت رائحة الأزقة والشوارع

قطعت القافلة أميالا صحراوية وأميالا حتى وصلت لهذه المدينة التي امكث فيها اليوم .

لم أكن اعلم عنها إلا القليل أو بالأخص لم اعرف سوى تاريخها القديم . حيث وجدت نفسي كالحية أدفء نفسي بالطمأنينة بين خيالات الليل التي تفتقد للفوانيس الملونة كما رأيتها في بعض البلاد التي زرتها . والتي كانت تضيء الليل لتحيي عشاق الكسل فيها .

هنا استبدلت الفوانيس بالبشر الجالسين عند عتبات البيوت يتكلمون بصوت مرتفع سعداء بقدوم أبنائهم العائدين من الشتات والموزعين بين المنافي العربية والأجنبية .

في هذه المدينة التي تحمل ألواح الموت على أكتافها كل يوم، لا تستقر فيها روح الطفولة، كما لو أنها أصابع العبقرية تولد لتموت .

بعد بضعة أيام ذهبت صباحاً لأزور قبر احد الأشخاص من بين الذين سمعت عنهم ولم أراهم،
هنا في هذه المقبرة

لوحات لقبور ...

وقبور بلا ألواح

وقبور ليس لها حتى أسماء

تحيطهم أسوار مخربشة ومهدمة

شردت عيناي في القبور العارية، ما أثار خيالي حول سكانها، وكأن الأموات فيها سوف يخرجون أو يظهرون من نحت التراب عند أول عاصفة هوجاء .

هربت من خيالي وعدت للمنزل في حالة من الاهتزازات الشاردة, كالجراد حائرة وأنا أفكر بالوجوه الجافة والحزينة, أفكر وأسال نفسي كيف لو مت في هذه المدينة هنا من سيعرفني؟!

وهل سيأتي أحدً غيري يذكر العالم بمعاناة تلك المقبرة؟

إن الناس يعيشون هنا في حالة الخوف والتساؤلات الدائمة .

جلست بتأملات واسعة ولاذعة أسال نفسي، كيف يمكنني أن أتغنى في خواطري وصوري لهذه المدنية الغير صالحة للفرح .
بينما كنت جالسة استنشق رطوبة الليل وأطلق لنفسي العنان، مستغرقة في ملاحظاتي وراسي يتكئ على يدي، تعرق وجهي /دمعت عيناي/ ثم بكيت اليوم بكيت لحسابي وليس لحساب احدَ سواي، إلى أن رحل ضوء القمر من نافذتي لأغفو على أمل أن اصحوا على رؤية أشياء مفرحة .

هنا في هذه المدينة حياة البشر ليست كالبذور تنمو لتعيش، أنهم مجرد تكملة للسابقين كي يكتبوا على الجدران والطرقات العزاءات والأفراح والمستقبلين والمودعين والراحلين منهم .

لم أكن اعلم أنني سأكتب يوماً عن هذه الأشياء لكنت احتفظت ببعض الأسماء المكتوبة على تلك الجدران، التي ما زالت الأشياء عندي كالخيال في راسي لكني سأحاول حصر ذاكرتي دون التملص حتى من الأشياء المحزنة والتي قد تلقي بي في غمرة أكثر حزناً

إن تلك السياسات المأساوية التي تعيشها مدينة غزة تلغي الأمل من نفوس البشر، فالبعض منهم يغني الماضي والبعض الآخر يلعن الحاضر/
ان هذه المدينة لا يمكث فيها زائر ولا يطأ فيها عابر كما قال بعض الأشخاص/

من داخل مربع الشارع اسمع صراخ الأطفال يأتي من خلف الجدران، كأصوات الفئران الصغيرة

الطرقات تختنق بتنهدات المارة
أعضائها تقص عليك قصص الآلام
عالم ممزق من الخلف
أصوات مرتفعة بحناجر الرفض
عاطفة ممزوجة بقلق يعلو الوجه
براءة ضئيلة تشير لك بالصمت
أنوثة النساء تحجبها الألبسة الزائدة
خشونة الرجال مطبوعة بمشاكساتهم اليومية
بينما تشعر بابتسامات النميمة تعلو مع تنقل نظراتهم
كما إن الجميع هنا متساويين في ملامحهم الحزينة والمتصنعة بالفرح

ما زلت ابحث عن الفرح داخل البيوت المدهونة بالألوان القاتمة، والثياب المعلقة على امتداد خطوط أسوار المنازل، وكأنها تحمل طباع أصاحبها ومزاياها .

بينما آخرون يرقصون في صالات الأفراح المخصصة يحاولون إخراج أحزانهم مع ارتفاع صوت الموسيقى ليطلقوا عبارات نكاتهم وكلماتهم المزدوجة المعاني دون وضع حواجز لتصرفاتهم، يثيرون ضحكاتهم بما يناسب ملابسهم المزخرفة، محاولين صراخ بهجة أشكالهم من خلف المطابخ والمشاحنات اليومية .

قضيت أيامي الأولى بين الزائرين والمتعارفين والمتطفلين والمتفرجين وهم يتكلمون بأحاديث سطحية وبنصف ابتسامة خاصة لأشكال البشر والوجوه الغير المألوفة لهم، كان هذا ما يثير غضبي الداخلي .

هربت في أحد الأيام من فوضى الجدران لأتعرف على بعض الأماكن في المدينة أكثر ولأقتل جميع الأسئلة التي تجول في داخلي التي أصبحت كاختناق البحر في هديره .

ولأدخل فلسفة التاريخ حين قيل: "أن الإنسان عامة لا يرى كل الأشياء على الخرائط وإنما بالمخالطة والتجارب" . لذا قضيت عدة سنوات وما زلت أحاول التجانس مع طباع هذه المدينة التي ما زلت اجهلها وما زالت تجهلني .

وبينما تسترسل الأسئلة في داخلي عن المخاطر الذي تهدد هذه المدينة راودتني الأفكار عما يريد هذا العدو المحتل أكثر من ذلك ؟

والى أين يريد إن يصل؟

الم يكتفي انه يمتلك سماء غزة وثلث أرضها؟

تزاحمت الأسئلة في خاطري حول سبب مجيئي إلى هنا . كنت طوال الوقت اشعر أن أحدا ما وراء قراري،!! نعم هذا ما شعرت به
في هذه المدينة ابتعد أمتاراً عن رجلَ واحد أحببته كثيراً من بين أبناء هذا الشعب!

أحاوره دون أن يسمعني
يحاورني دون أن اكلمه
يأمرني بالقناعة والصمود
له سحرًَِ ألحقني به أينما ذهب
سمعته رايته / دون أن أقف أمامه

كانت صورته تطمأنني، تشحن في صدري قوة التحمل كلما رايته عبر التلفاز، او سمعته من خلال الإذاعات، تهدر نبرة صوته أرجاء جسدي حينما يتكور الخطر حول أبناء شعبه،

ترتجف كلماته بين شفتيه
تبرق عيناه المدورتان
تتلاوح يداه بإشارات الغضب

كان هو رئيس شعب هذا الوطن "ياسر عرفات" الذي لم يكن يعرف اليأس، ولا الاستسلام،

لم أكن اعرف عنه الكثير قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان .

كنت قد تزوجت رجلاً من شعب هذا القائد لأدخل عالم "الرقم الصعب" عالم الشتات والمعاناة كبعض النساء .

كان زوجي يحاول إن يشرح لي طوال الوقت عن تاريخ هذه القضية، هناك أشياء لم أكن اعلم عنها، وأشياء لم أكن استوعبها .
لكن الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أتكلم عنه هو ما رسخ في ذاكرتي من ذلك العدوان الإسرائيلي حينما فرض سيطرته على أهالي بيروت لإخراج هذا القائد وجنوده من لبنان بتحذي المناشير والقصف المتواصل على بيروت .

رويداً رويداً وجدت نفسي أتعاطف كثيراً وأكثر مع هذا القائد وشعبه حتى لو اختلفت مع البعض في بعض المسائل .

لكن اليوم أصبحت ساعة الزمن أكثر وضوحاً بالنسبة لي بعد حصار الرئيس في هذا الوقت حاولت أن اجمع جوانب التاريخ، ومعالم الأوضاع فيه، وقد رسمت على وجهي ملامح الضياع بقلق شديد حيث راودني الحلم بالعودة إلى الوطن من جديد .

هنا تحملت كل أنواع الصور والانتقادات كثيرا ولم ينل التحول من عزيمتي، ما زلت احرص على نفسي وعلى هويتي، لكني اليوم أحاول البحث عن طير يقودني خارج هذه الحدود .

يكفي أن عواطف البشر قد جمدت

يكفي معاناتي التي قلدت بالأحزان كفراغ أصابعي من الخاتم .

انتهي كل شيء بالنسبة لي هذا ما كنت من اكتئاب ذلك اليوم .

فالمهم أنني دخلت هذه الحياة وانتهى كل شيء توقف كل شيء في خاطري حتى شعرت بخطورة السنين القادمة .

في هذا اليوم تحديداً نهضت من سريري بين الوعي واللاوعي ساعة أشعل التلفاز دون هدف لأقتل قلقي، وساعة العب بأزرار الراديو .

حتى خرجت من المنزل بينما تترنح نظراتي هنا وهناك :

رأيت المدينة في حلة سوداء
رائحة الحرائق تعبر السماء!
هنا تحمل الناس الإعلام الفلسطينية !
وفوق أسوار الشوارع شرائط سوداء!
أعلام تخرج من نوافذ السيارات!
أعين الناس منتفخة من البكاء!
نساء تمسح دموعها بأغطية رؤوسها !
رجالاً بذقون ذابلة !

نظرت حولي كان أناس كثيرون، لم أرى منهم أحداً في تلك اللحظة، كالأشباح يلتفون بالحطات السوداء، بنظرات تائهة/ الوجوه مختلفة / المتاجر مغلقة / والمحلات فارغة !

وجوه اغتسلت بالتساؤلات!

أطلقت صرخات البنادق!

علمت أن قلب القائد قد توقف كنبض محبيني في الشريان، ولم يعد يتكلم سوى حزن الرصاص

زحفت جموع البشر كالنمل تلتف حول مقر الرئيس الذي ما زالت جثته في باريس، امتلأت الشاحنات تقوصت البنادق سافرت عيناي للبعيد لعام 1982، كان هناك وداع أبو عمار حيث أهالي بيروت يودعون الرئيس بالزغاريد ورش الأرز والرشق بالورود، على أمل اللقاء به يوما ما .

أما اليوم فالرصاص يطلق من اجل الوداع الأخير .

اليوم اغتيل ما رسمت قلبي /

اغتيل ما تبقى من فرحي كموت القائد/

كان بكائي كاختناق الخنجر في الجسد/

اليوم لحق أبو عمار بموت والدي الأول كفراق كل أحبتي الذين فارقوني، وكأنهم اتفقوا جميعاً ومعاً على تركي وحدي أتعارك بقية عمري .

شعرت وكأن كل شيء قد انتهى وان السياسة التي يريدها هذا الرجل لن تأتي لذا انتابني شعوراً بالخوف من المجهول .

إن القائد اليوم يمضي إلى أعماق الأرض لنسمع أنين روحه، فكيف يمكنني اليوم أن التحق بذيل كوفيته .

هل يمكن للإنسان أن يعلم ماذا سيحدث بعد اليوم؟

جلست اتامل أدوات القتل التي يستعملها العدو واسأل:

من سينجح من بين هذين الشعبين؟

ومن سيلحق بالآخر؟

هل سيتحقق الحلم أم يموت ؟

هل سيصلون لأهدافهم؟

والى متى ستظل هيمنة الغرب على الشعوب العربية؟

أنها مسائل معقدة أحاول نسجها بين الواقع والخيال .

ولكن ها هي المدينة اليوم تنتقل لمضاجعة السياسة من جديد/

المدينة التي كادت ان تنسى الاحتلال في عهد هذا الرجل/

تكاد ان تعيش ملذات الحياة /

يكاد ان يزدهر فيها الاقتصاد/

اليوم دخلت معارك السيطرة التنظيمية لتتعلق بعنقود العبودية، وأصبحت المدينة كإغراء بدون ذكرى ترقص بأثواب متعددة تقف في مواجهة السيف الذي يغلق أبوابه .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى