كان يمكن ألا يحدث
هناك شخص ثالث على وجه الأرض يعرف أن اليوم هو موعد الدورة الشهرية لزوجتي..هذا الشخص ليس إلا صاحب الدكان المقابل لبيتي. وفي ظهيرة هذا اليوم ناول الولد كيسا اسود سريا, وحمله سلاما لي.
.. وكان يبدو تلميذا, يجلس بمواجهة الشباك باتجاه لوح ازرق مخطط بأسلاك الكهرباء الذهبية والغيوم الخفيفة الذيلية تصّاعد باتجاه السماء. كان يبدو تلميذا ضعيف النظر صامتا يقتعد أول الصف. لكنه فجأة قرر أن يرفع ساقيه على حافة الشباك الواطئ: السماء أمامه ولم يعد يرى الشارع. ويمكن توقع أن تكون الزوجة على مقربة في أي وقت: إذ تغرس حنكها في خمس أصابعها؛ فإنما ترقبه على مضض وقرصا عينيها يتعلقـان بأعلى الجفنين. لكنها لا تفعل ذلك الآن, وإنما هناك تكز على أسنانها وهي توبخ ولدها؛ لأنه جلب نوعا رديئا من الحفاظات ويكون صوتهما مختلطا مع كلام منزلي ُُُيتداول بين البقية .
لو أنها جدتي لم تهمس لجارتها! هل يأتي يوم يجري فيه ما جرى؟
كان لجدتي خابية قمح لا أحد يقرب كوتها. ربة البيت وحسب تأخذ من القمح تخبز وتطبخ كل يوم بحبور وتكتم دهشتها. كان شتاء طويلا لكنه في النهاية دلف شهر شباط والخابية تدفع من الكوة قمحا وفيرا.. إلى أن همست لجارتها بالأمر بعد صلاة المغرب, وفي الصباح خابت كفا جدتي وهما ترجوان الكوة إعطاءها شيئـا.
أنت لا تستطيع أن تختار وحدتك, وأن تستمتع بالعيش على الهامش, او لا تستمتع, هذا شأنك.. المهم أن تبقى بلا آخرين. الآخرون لا يريدون لك أن تحتفظ بأسرارك وحدك. السر يجب أن يكون بين اثنين لا بين واحد, وإذا قررت انك ستحفظ ما لديك دون آخر فان آخر قرينا ستتهم به.. شبحا بالنسبة لهم.. هاأنت ذا تعيش مع شبح, وهم قد يشفقون عليك ولكنهم لن يحبوك. عليك أن تكون مفضوحا, فلم تعد هناك غابة, أقول غابة؟! لم تعد هناك حديقة منزلية ولا شقوق حجرية عتيقة, لم يعد لك شأنك. وهل من السخف القول انك لا تستطيع شراء بندورة في كيس ورقي! الأكياس كلها نايلون تشف عما تحتها. المضحك في الموضوع حين يتمرجح على جنبك كيس اسود لا يشف. كل الحارة تعرف أن الأكياس السوداء يأتي بها هذا البقال ذو الأسنان الصفراء ليودع فيها على الأخص حفاظات النساء .
لعل جدتي قد آمنت بأن سرها كان على أي حال سيكشف, لا ادري بأي طريقة, لكن يخطرببالي أنها همست لجارتها مدفوعة للخروج من سرها. وستأكل فيما بعد مع الآخرين خبزا من المخابز وستشرب مع الآخرين ماء من الحنفيات. منذ زمن بعيد وهي زاهدة في الكلام, وحينما بالكاد ترى وبالكاد تسمع أمي وهي تقول: كان لكل امرأة عجينها ولكل امرأة خبزها؛ بالكاد أيضا تبتسم .
و "لو أرادت أمي أن يعرف ماذا في الصحن لما غطته" . كان الأستاذ عبد الرزاق يقرأ لنا درس الصحن المغطى, وكان رأسانا( أنا وزميلي ) الصغيران المحلوقان على الصفر بين كفي الأستاذ الضخمتين وفي مقدمة أربعين رأسا تلتمـع؛ حين ضغط بيانه "من تدخل فيما لا يعنيه"، ليرد الجميع "لقي ما لا يرضيه"
وأنا ببساطة لم أكمل غدائي. الآن ليس لدي رغبة مطلقا لا في طعام ولا في شراب, وإذا غيرت رأيي فسأقوم بتسخين الطعام وحدي وقتما أحب. هذه المرأة لا تريدني أن استرخي.. أصلا لا يوجد رجل يستطيع الزعم أنه استرخى جيدا مذ وقع على وثيقة الزواج. الرجل الوحيد الذي تيقنت انه مات مسترخيا هو جدي, وقد مات بعد وقت قصير من حادثة الخابية ولم يعلم بهـا.
الغيوم يغشاها العصر, وما زالت على خفتها لكنها كفت عن الصعود وصارت مفرودة على افقها كأقمشة صيفية بيضاء يخالطها الصفار. تنملت قدماه الراكبتان حافة الشباك. مغط جسده عن آخره؛ فتلاحقت طقطقات عظامه وهو يغمض عينيه على خدر. كان رجل في الشارع يمسح ذرق عصفور من على رأسه, ويطلق بقليل من الجدية شتائمه؛ التي غرقت سريعا فـي الضحك.
"على البحر قال لي صديقي أنت ستموت دون أن تتعلم السباحة... الموضوع في غاية السهولة فقط استرخ" هل ترين مبلغ البساطة, هكذا: حبة ترمس بين إصبعين! كيف يمكن للإنسان أن يسترخي؟ حسنا إذا كان الأمر هكذا بسيطا فان علماء النفس عليهم أن يعفونا من هذا الهراء. وليس بعيدا عن البحر, تعالي لتعرفي لماذا لم أكمل غدائي؛ وهاهي الساعة الرابعة إلا ربعا. "سخافة, تلاحق صغائر الأمور, كان يمكن ألا يحدث ذلك "إياك أن تفكري بهذه الطريقة. أنا فكرت عميقا في الحياة, وسأقول لك شيئا: جريمة جرت بسبب ملاسنة كيف, لماذا؟ أتعلمين: فكرت مرة في الكتابة إلى جريدة "شيحان" وبالفعل كتبت , وسألت سؤالا بسيطا: لماذا نسدل ستارتنا على الشباك, أمن اجل ألا يرانا الناس ونحن نتعشى .. مثلا ؟ من الوارد أن يرتكب الإنسان جريمة لان أحدهم القى نظرة عابرة على امرأة تتعشى, قد لا تكون امرأته بالمناسبة. طيب: إذا ارتكب الجريمة, هل فعلا لأن رجلا القى نظرة على امرأة تتعشى؟!.. وحتى لا تقع المصيبة كان عليه أن يحتاط لكل شيء.. كل شيء.. وبكل أسف إن كلفة عدم وقوع المصيبة اكثر فداحة من وقوعها. كان على جميع الناس ان يعوا قدسية الستارة, ولو كان ذلك؛ اذن فلا شيء سيحدث, وإذا حدث ان شيئا ما لن يحـدث؛ فلن يبقى معنى للحديث عن القدسية. استطيع فهم كل شيء ولكنني لست مضطرا لذلك. لو أنني املك القدرة على العيش في جبل.. في راس جبل بعيدا.. ووحيدا... ياااااه!! .
المائدة سبب رئيسي لخراب سيحيق بهذا البيت الذي أتمنى أحيانا أن يبعث الله زلزالا يمسحه هو وكل الحارة. هذه المرأة تسعى دائما إلى أن ننتهي من مائدتنا في دقائق معدودات, وما رأيك أن بي شغفا لرؤية ساقط الطعام على الجريدة المفرودة والمبقعة هنا وهناك بالادام والماء, أحب أن نسترخي بعد الطعام, نحن لا نقاتل على الجبهة يا أخي. وياااللملاسنة التي تشتعل حين حين استغرق في قراءة شيىء ما بين الطعام. أما هي فتهجم على المكان وبحركتين.. ثلاث تخرفش بين يديها الجرائد وتهرب بهـا إلى كيس القمامة كما لو أنها تمسح عارا. "كسول هو بطبعه وإذا قيل إن إنسانا غير طبعه قولوا عنه .. مات", حسنا, لقد رضيت بهذا التوصيف مباشرة منها ومداورة من الأولاد.. رضيت ليس لأنه حقيقة, بل لأنني بت على يقين بان تغيير قناعات الآخرين فيك ينبغي إلا يستحيل إلى كابوس.. هل فهمت؟ ...وهذه آخر مرة تحدثني في موضوعك الغبي.. الاسترخاء.
.. ولذلك فان هذا الشخص ذا الوجه الأصفر قميء مع أنني لن أقول عنه قميء. وأي إنسان يستطيع أن يعرف الناس جيدا ويحس بهم من اعمق نقطة في عقله وقلبه, ولكنه إذ لا يتكلم فان هذا لا يغير في الأمر شيئا. هذا الكائن الوحيد الذي يتربص بي ويرصدني؛ يحشرني في زاوية مضيئة, ومن حجرة رأسه المعتمة يراني أوضح ما يكون. يستطيع أن يؤكد مزاجي في هذه اللحظة, وهو يرفع سيجارته إلى فمه مقتعدا كرسيه الخاص من كراتين البيض الشاغرة الصفراء الحائلة كوجهه, وأن يحسب متى بدأت زوجتي التعامل مع حفاظاته. وربما سمع صوتنا– صوتي أنا بالأخص- لم لا فحين يفقد الإنسان أعصابه لا يفكر مطلقا في الشبابيك مفتوحة أم لا "إن المرأة حين تكتشف أن الحفاظات اصغر حجما, أو ليست من النوع الذي ينبغي, فإن على الرجل- الذي هو أنا- أن يذهب إلى البقال بكل فخار وسؤدد, وأن يشرح له ما لم يستطع ابنه الحمار أن يشرحه, وأن يقول بكل تهذيب: المدام التي في البيت تريد تغيير النوع, وإذا سألني نوع ماذا يا جار؟ سأتمنى لو أتحول إلى سحلية".
كانت ترقبه منذ وقـت, الزوجة الذابلة ككل موعد شهري, أحس أن دمها كله قد أهرق, يدها على خصرها بارتخاء, رأى انفراجة ناشفة بين شفتيها, قال لها "فلا تظنن أن الليث يبتسـم.. مـا لك الآن !" قالت "لا شيء, فقط ستغيب شمسنا يا رجل وأمي على انتظار". تداول كلاما داخله, ولم يقل شيئا .
كان علي أن افتح الباب والقي بجسدي إلى الشارع. رأيته من أضيق زاوية, هو أيضا رآني. وكان علي أن أنقب في الأرض عن شيء, أن استغرق بعيدا عن عينيه الصفراوين.. أيضا مثل أسنانـه. حياني وأجبته بسرعة لكنه حوطني, وأصر على مصافحتي بيده الصفراء. شد على يدي, الرجل الأكثر اصفرارا في العالم.. يا له إذ يبدو وكأنما يواسيني. المواساة كيفما قلبتها هي إطلالة الآخرين على ذل ما أنت تعيشه.
سألني عن أولادي واحدا واحدا, وأكد لي بعد أن استنفد الجميع أن زوجتي تستحق كل خير..كانت عيناه مطفأتين وهو يقول "على سلامتها.. لديك امرأة من ذهب" .
لم أعرف إن كنت أنا الذي غادرته أم أنه هو تركني وشأني. وقد بدأت أغذ خطاي, كانت المرأة التي تلاصقني يضايقها المشي السريع. استبطأتني وقدرت أن هذا البليد (مع أنني لن أقول انه بليد) على مقربة... لكنني لم أشأ التطلع إلى الوراء. كان وجهي يهوي للأسفل وأحسست بوطأتها وهي تقترب من أذني وتهمس: ها هو بقالك العزيز يزنني بالذهب..(وضحكت بحذر المرأة في الشارع) أرأيت أسنانه؟ تحف أثرية!.. ألا تفكر أنت في تلميع أسنانك؟ .. يا لكسلك .
مشاركة منتدى
27 تشرين الأول (أكتوبر) 2007, 18:35, بقلم أبو حسان العر
محمد هديب .. هذا الاسم ليس غريباً علي لعلي أتذكره ... أو ذهبت الذاكرة كبياض الشعر الذي على رأسي .لأن أي إنسان يتذكر أيام الصبا ، لقد قرأت القصة ولعلي ازداد يقيني وأنت تتذكر الأستاذ عبد الرزاق عندما كنا في الابتدائية المرحلة التأسيسية ...ماذا أقول هل أنت أنت ؟ أم أنت ليس أنت ؟!!
هل كنا معاُ في المرحلة الإعدادية كما أذكر ؟! أم أنت ليس هو الذي في ذاكرة الصبا ؟ ولو فرضنا جدلاً أنت هو ... فهل تتذكرني .... الواقع أظن أو لا أظن ....فإذا لم تكن أنت ! فأنا معجب بقصتك وأشعر بأن لك مستودع من الأفكار ... عميقة ومؤثرة ... فأنا حقيقة لي محاولات غير منشورة وكانت تلك في مرحلة مابعد الثانوية العامة ... فأنا من الذين يحبون القصة التي تتأثر بالواقع ...
أما إذا كنت الذي أتوقع إنه كان في الصف الذي أدرس فيه ... فأنا فخور بك ... وبإبداعك القصصي
وإلى الأمام دوماً .... استميحك عذراً عن هذا الرد المتأخر ... ولكن هذا العالم الواسع يلتقي أثنان بطريق الصدفة ليس إلا .....
4 آذار (مارس) 2011, 03:53, بقلم محمد هديب
اخي ابو حسان.. الدنيا صغيرة. لكننا نضيع فيها. لقد قرأت رسالتك فقط هذا اليوم الرابع من آذار 2011.
اشكرك على لطفك.
ربما تقرأ رسالتي بعد سنوات.
ربما نلتقي غدا
من يدري
4 آذار (مارس) 2011, 03:55, بقلم محمد هديب
اخي ابو حسان.. الدنيا صغيرة. لكننا نضيع فيها. لقد قرأت رسالتك فقط هذا اليوم الرابع من آذار 2011.
اشكرك على لطفك.
ربما تقرأ رسالتي بعد سنوات.
ربما نلتقي غدا
من يدري