كيف أصبحنا حميراً؟!
يكرر أبوك على مسامعي حكاياته، يكرر حكايته مع صديقه اليهودي ( صمويل ). وتقول لأبيك كلما كرر الحكاية، وما أكثر ما يكرر حكاياته حتى أنك حفظتها عن ظهر قلب، تقول له أمام إخوتك: سوف أكتب هذه المرة الحكاية. وتلوّح له مراراً بأنك سوف تكتب حكاياته التي تسر وتلك التي لا تسر، فتضحك أمك وتقول: حتى تصبحا، للناس، مسخرة.
يكرر أبوك الحكاية كلما شاهد طائرة ( أباتشي ) من على شاشة التلفاز تقصف سيارة مناضل أو تغتال قائداً بارزاً أو قائداً من الصف الثاني أو الصف الثالث. ويصر أبوك على أن نجاح الإسرائيليين لا يعود إلى ذكائهم، وإنما يعود إلى خياناتنا أو لأننا أصبحنا حميراً.
ويشتم أبوك ( هتلر )، ويشتم الإنجليز أيضاً. ويشتم ( هتلر ) لا لأنه يكرهه، وإنما لأنه تسرع في حروبه وفتح غير جبهة ما كان ينبغي أن يحارب فيها، وأبرزها حربه مع الروس. ويبكي على ( هتلر ) حتى أنه يدفعك إلى أن تكتب مقالة عنوانها " بكائيات أبي على ( هتلر ) "، على الرغم من أن ذلك قد يدفع الإسرائيليين إلى اعتباره نازياً، مع أنه كان صديقاً ليهود وليهوديات ما زال يذكرهم ويذكرهن بالخير لأسباب عديدة، أهمها أنها تذكره بشبابه الأسمر الجميل الفاتن. وأبوك ليس معجباً بـ ( هتلر ) لأن ( هتلر ) نازي، فأبوك لا يعرف معنى النازية. إنه معجب بـ ( هتلر ) لأنه كاد يكسر الإنجليز ويهزمهم، هؤلاء سبب بلواه وحياته بعيداً عن يافا، حياته التي أنفق منها ثلاثين عاماً في المخيم.
يكرر أبوك الحكاية، ويشتم ( هتلر ) ويشتم الإنجليز. يشتم هذين معاً لأنهما جعلانا حميراً، ولا تدري إن كان سيشتم الحمير، في هذه الأيام، لو كان ينتقل بين المدن والقرى في المناطق الفلسطينية، فقد عاد للحمير مجدها، وارتفعت أسعارها وغدت وسائل مواصلات مهمة، وما عادت أصواتها أمام ( الأباتشي ) أنكر الأصوات، فأنكر الأصوات الآن، ولا شك، هو صوت ( الأباتشي )، ولو كانت هذه موجودة زمن الرسول لربما ورد ذكرها في القرآن ذكراً سلبياً. يشتم أبوك ( هتلر ) الذي انهزم، على الرغم من إعجابه به، ويشتم الإنجليز الذين انتصروا، هؤلاء الذين نصف أبناء اليهود منهم، ولا شك أن أباك لم يقرأ رواية توفيق فياض " وادي الحوارث " وفيها يأتي السارد على علاقة الفتاة اليهودية بالضابط الإنجليزي، ولكن أباك كان عمل في معسكر إنجليزي، وربما شاهد علاقات كهذه.
وكلما كرر أبوك حكايته على مسامعك تضحك، وتسأم الحكاية وتمل من سماعها، وتقول له: سأكتب مقالة عنوانها " كيف أصبح أبي .....؟"، ولا تتردد. لا تكترث لكلام أمك. وماذا لو أصبحنا للناس مسخرة. " ماذا لو ضحك منا الناس، فشر البلية ما يضحك. أليس ذلك أقل ضرراً من ضرر ( الأباتشي )؟ ألا نحتاج في هذا الوقت إلى الضحك ". تخاطب نفسك. وتعود إلى رواية إميل حبيبي فتكتشف أن بطلها سعيداً، وهو إميل نفسه، عاش بفضلة حمار، إذ أنه نجا من الموت لأن الرصاصة أصابت الحمار, وتهمس: أليس الحمار إذن رائعاً، فكما أنقذ حياة ابن آدم، يصبح الآن مهما لتسهيل حياة بني آدم وبناته؟
يكرر أبوك الحكاية على مسمعك. يقول لك: كان صديقي اليهودي ( صمويل ) يقول لي، وكان هذا صديقه قبل عام 1948، كان يقول لي: إذا انتصرت بريطانيا في الحرب الثانية وانهزمت ألمانيا فسوف تصبحون حميراً وسوف نركبكم، وإذا انتصرت ألمانيا وانهزمت بريطانيا فسوف نصبح حميراً وسوف تركبوننا. وما زال أبوك يتذكر كلام ( صمويل ). وكلما رأى ( أباتشي ) من على شاشة التلفاز، كلما سمع عن مقتل قائد أسهم الفلسطينيون في قتله يتذكر حكاية ( صمويل ).
***
***
كان عروة بن مرثد قد زار أخواله في البصرة، وذهب هؤلاء إلى ضياعهم، وظل هو مقيماً في المنزل، وبينما هو جالس سمع صوتاً فظن القادم لصاً، وما هو بلص وإنما كان كلباً، فأخذ يخاطبه على أنه لص لعل اللص يبتعد، فلما دخل المنزل – أي لما دخل الكلب – خاطبه عروة قائلاً: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفاني منك حرباً.
***
وورد في متشائل إميل حبيبي:
" هكذا حالي: عشرين عاماً أهر وأموء حتى أصبح هذا الحلول يقيناً في خاطري. فإذا رأيت هرة توسوست: لعلها والدتي، رحمها الله! فأهش لها وأبش. وكنا نتماوأ أحيانا ".
وها نحن واليهود، منذ سبعين عاماً أو يزيد، ها نحن نتماوأ تارة بالرصاص وطوراً بالمدافع وتارة بالأباتشي، وإن أنكر الأصوات لصوت ( الأباتشي ).
الجمعة 7/9/2001