الخميس ٢٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
قراءة في قصيدة الشاعر العراقي سعد جاسم
بقلم هدلا القصار

لا وقتَ إلاّ لابتكارك

استوقفتني قصيدة الشاعر العراقي سعد جاسم، " لا وقتَ إلاّ لابتكارك" طويلاً لا بل فرضت علي قراءتها لأكثر من مرة . وفي كل مرة اشعر ان القصيدة تبدأ من اشراقة عنوانها، نعم هكذا هي القصائد الجميلة تنتزعنا من واقع الحياة الصاخب والصلب لتأخذنا معها في نزهة مباغتة، لكيما التجربة ونعيش فيها، بل وندخل في روح القصيدة، كما لو أننا نخوض تجربتها مع الشاعر نفسه .

بين الحداثة والسرد، بين الواقعية والسريالية، وبساطة اللغة، يحلق بنا الشاعر سعد جاسم بعيداً في فضاءات عالمه المركب بين الأنثى، أنثاه التي يجسدها في الوطن "العراق" كما المرأة، بحيث لا يمكن الفصل بينهما . وأننا لندهش في هذه التجربة المنفردة حين يستوقفنا بسرده التقني والنوعي في إطار المستوى الواقعي الفلسفي، ولكن الأكثر تعبيرا عن خاصيته الذاتية في خصائصها الرومانسية والشفافة ليضعنا من جديد بإسرار هذا النص وتشكيلات حداثته المتنوعة، الذي يتنقل بنا ما بين الروح والجسد/ والخيال والذاكرة / والحب ورغباته مهرجانات قصيدته .

حيث يطرح علينا السؤال هنا، عن الأدوار التي تلعبها المرأة في إبداعات الشاعر وتأويلاته المتعددة، المتمازجة، التي يمكن ان يتخذه التوظيف الشعري في هذه القصيدة كما في قصائد أخرى .

فكم من مرة تتجسد هذه الأنثى بغربته وسعرات حرارة انفعالات هذا الشاعر؟ وكم من علاقة ربط الوطن بأنثاه التي تدخل في مراحل تأملاته حواسه مرتحلة بعذوبة الروح؟

وكم من مرة في هذه القصيدة، يحولها الشاعر إلى ومضات في محور عالمه الخفي ليضعها بحواراته المتألقة، ليأخذنا إلى رتابته الموسيقية في خمس قطع متناغمة متماسكة مكثفة، وكأنه يضعنا بين خمسة قصائد، ليسرح بنا كالخيل في ميدانه، ثم يعود ليقرأ لنا صهيله وصوت انفعالاته المتأججة كموج البحر الصامت حين يقول :

لاوقتَ عندي إلا لأبتكركِ

حيثُ أُهئُ لكِ طينَ الكينونةِ من ينابيعِ الليلِ

وأستجيرُ بروحِ الصبحِ وعصافيرهِ وملائكتهِ

ليشاركوني كرنفالَ تكوينكِ وتدونيكِ

ثمَّ أُطلقكِ فرساً عاشقةً في براري

التي كلما خببتِ فيها

تشتعلُ بالنورِ

الإنوثةِ

الخضرةِ المستحيلةِ

وكرنفالاتِ الماءِ

والماءُ إلهُ .

فأحلام هذا الشاعر تظهر بين الوعي والخيال في صور خلاقة مبدعة، حيث يجسد الوطن، عراقه، هو المرأة، والمرأة هي الوطن، والكينونة وأصل الخلق ثم الكينونة الشاملة، كما كينونته الخاصة . وينثر لنا تنهدات صيحاته وحزنه وأسراره، فمنذ الكلمات الأولى يعرض ابتكاراته الذي خمرها من أشواق حنينه وانفعالاته، ليهيئ لنا طين الكينونة، وهو يدعوا الصبح والعصافير وملائكة الليل ليشاركوه تدوين قصيدته، في احتفاله بمهرجات قصيدته كما ابتكاره للأنثى الذي يعادل إعادة خلق الوطن، ليشاركوه جميعهم الانطلاق بالقصيدة كالفرس يتجول في براريه، ويفجر ينابيع صورة ليجمعها بين طين الوطن والأنثى على نحو من المزيج الرائع والخلاق .

ثم يبدأ باستدراجنا للأنثى الحقيقية حين يقول تشتعل بالنور/ الأنوثة/ وكرنفالات الماء/ والماء إله . هنا يشبه الشاعر الأنثى بالماء بما أن الماء هو أصل الخلق /الحياة، والحياة هي الأم، وألام هي المرأة والوطن الذي يشكل عند الشاعر الحالة السيكولوجية كما الخيال الواقعي في امتزاج الوطن والأنثى .

لنقرأ كرنفالات هذا الخلق، ثم يعود بنا للغوص في ذاتيته المعمقة بالشوق والحنين ويقول:

لاوقتَ عندي إلا لأتنفسكِ

حيثُ تتفتحُ خلايا روحي

لإنبثاقاتِ نرجسكِ وبنفسجكِ وحبقكِ

الذي يتقطرُ نبيذاً رافدينياً

ويتكوكبُ غيماً يركضُ بخفةِ العاشقِ

الى سماواتي الرهيفةِ

ليمطرني بما تيّسرَ من آياتِ جسدكِ

ونصوصِ توقكِ واشتعالاتكِ بي

أَنا فراتُ روحكِ ...

وعاشقُكِ الموغلُ في أَقاصيك الرؤية واليقين

هنا يدمج الشاعر ما بين القطعة الأولى والقطعة الثانية ويركض بنا بخفة إلى سماواته الرهيفة ليعود ويقطرنا بنبيذ الوطن وهو في الدلالة الشعرية تعني سكرات الحب والنشوة . ولكن عندما يقول "نبيذاً رافدينياً" فانه يجمع هنا بين الأنثى والوطن .

واشتعالهم بالنص، وبالروح/ واليقين / والعشق الموغل فيه/ هو تعبير عن تحلقه الشعري الواقعي ولكن الذي ينطلق به من اللاوعي . ثم يأخذ قسطاً من التنهدات والشهقات الشعرية في :

لاوقتَ عندي الا لأتأملكِ

يالسوراتِ توقكِ ...ومزامير حنينكِ

حيثُ تشتعلينَ وتنفجرينَ عاصفةً

لاحتضانِ أعشابَ طيني

أو خزامى كتفي

وجلنار شفتيَّ اللتين يورقُ في ساحليهما

هذا النشيد ( أُحبكَ ياأنتَ ) حدّّ النشيج

وتتهدجُ اصابعُ الاغنية – التي هيَ أُمنية

( ياريت ... إنت وأنا في البيت

شي بيت ... أبعد بيت)*

وتفتحينَ سواقيَ دمعك نافوراتِ فقدِ

او هواجس غياب

رغم أننا لانعرفُ أيَّ المسافاتِ

والازمنة قد تلاشتْ بيننا

في التوحّدِ والتجاسدِ والماءُ أولنا

والشهقة برقُ الله .

في هذه القطعة يضع الشاعر القارئ أمام قيود الحنين للوطن الذي يشبه بسوارات التوق، وهو يشعر بعاصفة من الاشتياق لأحضان عشب وطين وطنه .

ثم يعود ليعلن عضلات الشوق في حنينه ومحبته للأرض كما محبته لأنثاه حتى يصفها بالجسد/ وجلنار شفتي نشيد الحب/ الحب الموحد حد التشنج، وبحركة خفيفة ينقل هذا الحب إلى أغنية، وهي أغنية الأمنية بـ يا ريت أنت وأنا في البيت، بمعنى الانفراد بكينونته ليشهد نافورات لمناداته الغياب، في دمه وأصوات هواجسه رغم المسافات والأزمنة " التي تلاشت بينهما حين تكوكبت مشاعره لتتجانس بين الماء والحياة من جديد " بمعنى الدماء المصحوب بشهقة البكاء الصامت والحزين المرجو من لله .

ومن ثم ياخذنا من جديد لنقرا معه هذه العبارات :

لاوقتَ عندي الا لقراءتكِ

يالصحائفِ هديلكِ وهديركِ

وصهيلكِ يصعدُ في دمي

ونصوصك البحرُ

نداءاتُ

وصيحاتُ

ومسراتُ

واسرارُ الجسد

حيثُ كوَّنتُهُ في احتفالاتِ المروجِ

والصنوجِ والقرنفل والبخور

النصوص .... لك

هي آياتُ ينابيعي

وأرغفتي

وكاساتُ نبيذي

أتعالى ... أتجلى

في فراديسِ نداها

وصداها ...

النصوص ... ك وتراتيل الجنونْ

أكونُ ........ياهذيان إنوثة الأرضِ....فيكِ.

في قيامتكِ ... أكونْ .

هنا يمكننا أن نرى لعبة شاعرية هذا الشاعر التي عايشنا بين الواقع الورقي والخيال الروحي وتأجج انفعالات الروح التي أصبحت كحالة السكر كما نداء روح الوطن الذي امتزجت بهذه الكلمات حين شبهها بالصحائف، وهديل الحمام، وصوت الماء الصامت/ والصاخب /الدافئ/ الذي يهذي به هذا النص فهي عبارة عن مشاعر السحر الخفي الموجود عند الشاعر الواقع تحت تأثيره كنوع من السحر أو الانجذاب الروحي، والذي لا يشعر به سواه حين دخلت ارتجاجات صوره التي عبر عنها باحتفالات المروج/ والصنوج / وهي الحالة الهستيرية الشعرية اللاوعيية/ والقرنفل/ والبخور/ وهي إثبات لرائحة السحر والغموض الذي تصاعد في خياله كينابيع الآيات /وطعامه/وكاسات نبيذه/ هنا يصبح كالنداهة حين يتجلى في فراديس نداها وصداها وكلماته التي شعر بها في لحظات انتشائه الأخيرة كالروحانية المسترسل بها كالجنون .

ثم يعود بنا من جديد ويجسد الأرض بالأنثى ليهذي ويتوه بينهما حين قال في نهاية شهقاته الأخيرة :

لاوقتَ عندي إلا

لأُحبكِ وأُحبكِ وأُحبكِ

وبكِ ...فيكِ

تولدُ ... تنفجرُ

وتفنى ثُمَّ تحيا ... روحهُ الماءُ الكلام

واللغاتُ والكتابةُ والقراءةُ

هيَ روحي

وأنا روحكِ

وأنتِ الابديةْ .

هنا يذهب الشاعر سعد في نشوته الشعرية الأخيرة وأرجوحة وصرخات صوته بين أوتاره ليدخلنا في تعابيره النرجسية وهو يردد احبك ثلاثة مرات متتالية كانفجار تلاشيه وهو يقول، نفني/ نحيا/ روح الماء/ الكلام/ والقراءة / اللغات/ الكتابة/ هي روحي/ نعم هي روح الشاعر ومشاعره، وحالته الحقيقية، الصادقة لروح الشعر نعم هي العبقرية التي تحيى لتموت، كما هي أصابع شاعرنا العراقي سعد جاسم، ولد هذا النص ليموت عند خروجه من روح الشاعر ليعود من جديد ويحيى بين سطور قصيدة أخرى .

"أما قصيدة (أرميك كبذرة وأهطل عليك)

فهي بخلاف قصيدته الأولى، في كل مرة يفرغ سعد شحنات غربته بطريقة مختلفة، ففي هذه القصيدة لم يمزج بين الغربة وأنثاه وإنما استحضرها ليؤنث ارض الوطن في مكانه ويعزفه كنغمات العود في الخشب،
وبما ان المرأة خصبة كالأرض فهنا كان استحضار الأنثى ليزرع بويضة أنوثتها في أرضه ثم يهطل عليها بمعنى يشبه نفسه بالشتاء، فمن هنا نبدأ مع الشاعر بأسلوب مختلف تماماً وهو الاستغابة الهجومية الملطفة برائحة الطبيعة وصوره الجميلة والمعمقة ، ثم الحنين المتوحش .

يبدأ سعد قصيدته بـ (إنه الغياب) في حين يهدهد هذا الغياب بسورة الماء، ليحلق بأطيافه كالطائر ويرفرف ملتاعاً كما قال:

"ملتاعاً في أفقك المستحيل" وهو في الحقيقة ملتاعاً من المستحيل لذا يحلق ويحلق ولا يصل وكأن الصورة الذي يريدها هي ابعد من عمق نهر الفرات وحورياته المستوحى له .

أما في المقطع الثاني فيعود بحنين شعوره المشحون بالحزن والحيرة حين قال:

لا ادري هل أخاف عليك من الفرات

أم أخاف منك عليه

لأنك نافرة وعاصفة

وشاسعةً وطيبة

كما أمك الأرض ويمكنك ان تعشقيه

نعم هي غيرته على الوطن وحنينه الحارق وغربته القاسية التي جعلته بين هلوساته الشعرية وبين غصة العاشق وهو يعترف :

لا اعرف غير اشتقاقك

ولا اعرف غير أن أحلمك

ولا اعرف غير أن أرميك كبذرة

وأهطل عليك .

إذا سوف يستمر هذا الشوق طالما الغربة مستمرة في ضلوع هذا الشاعر المتيقظ دائما لغربته وإشجانه وحبه للوطن وغصة أرضه التي تصرخ له في أوقات رغبات عشقه للأنثى كي تختلط مشاعره وتتوزع بين الأنثى التي يمتلكها وبين امتلاك أطياف الحنين الذي يتبعثر بأشواكه وغربته الطويلة وأمنياته المتتالية كي نستمتع بتجوالنا معه ونعيش حلمه ونحلق برفرفات جناحيه، وببساطة كلماته وإبداعاته الشعرية المنفردة بمفرداته وطبقات خيالاته الجميلة هذا هو الشاعر سعد جاسم في كل مرة يضيئنا بقصيدته ثم يختفي وراء ظلها .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى