لعب التشبيهات، والأصوات
في ديوانه «كأنها نهاية الأرض» الصادر عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة يكتب رفعت سلام نصا شعريا حواريا، يقوم على التنوع في تكوين الصوت الواحد من جهة، واندماج مستويات الوجود الشخصية، والتمثيلية / الإبداعية، والكونية في حركة لا يمكننا في سياقها التمييز بين صيرورة الكتابة، ونشوء الصوت، ومدلول الحدوث الكوني نفسه.
إنها الكتابة خارج الأطر المعرفية، واستقلال العمل الفني، أوالأدبي؛ إذ تسهم في توسيع دائرة الاحتمالية التصويرية الأصلية فيما تتصل به من تكوينات، وأبنية تتسم بالظهور، والاختفاء المفاجئ، أوالطفرات المجازية، والطبيعية في انحرافها المستمر باتجاه الزيادة التي تميز الحالات المتضادة في النص، أوالتساؤلات المتكررة في كتابة رفعت سلام، والتي تترك الدال طيفا لدنا يقبل الاستبدال، والمحو، والنحت الشبحي في ذاكرة المتلقي في آن.
إن الآخر يذوب في الحوارية الشعرية هنا؛ فالانفصال الواضح بين صوتي المتكلم، والأنثى في الديوان، يتجه إلى التوحد بالقوى الشعرية / الكونية المتناقضة الأسبق من الوجود الذكري، أوالأنثوي، والمتجاوز لحدودهما، وهوما تتجه إليه الأفكار المعاصرة عن النوع بطرق مختلفة.
يعاين التكوين / الصوت تجارب الصراع، والولادة، والخلاص، والعدم، والانقسام، والتفكك، والاحتمالية المجازية للذات بشكل متكرر، دون الإحالة إلى تاريخ، أومرجعية خارج عملية الزيادة الإبداعية المشكلة لتداعيات الصور في الديوان.
إنه يعري الصوت من طبقاته الزائفة حتى يتركه طيفا لانهائية في انتشار الصور، وانحرافها الأصلي عن المركز، ثم يعيد نحته؛ ليكشف عن خاصية التبديل المميزة لبكارة تجارب الشاعر، والصوت النسائي في النص.
في كتابه«الكتابة، والاختلاف»يرى جاك دريدا أن الكتابة تشمل محتويات اللغة الأولي من وعي، ولا وعي، وحركة، وفكر، وتفكير؛ فتتجاوز هويتها التي تعلقت بتسجيل الحروف إلي إنتاج وحدات إبداعية جديدة لها؛ ولهذا التجاوز، فإن الكتابة ستصنع اللغة الأولي باستمرار دون توقف، وتحول الأبنية المنطقية إلى علامات، وحركات لها بكارة الإبداع دون توقف ( راجع / جاك دريدا / الكتابة والاختلاف / ترجمة كاظم جهاد / دار توبقال بالمغرب، مع سوي بباريس 1988 ص 107 ).
إن سمة الخروج عن النصية من داخلها عند دريدا، تبدوفي عملية النقل الواضحة عند رفعت سلام، وأعني بالنقل ذلك التمرد الخفي في مادية الدال، وانفلاته من أية خصوصية مكتملة؛ فصوت المتكلم في الديوان تتناوبه حالات التوحد بالأنثى، وكونه فريسة مع تفكيكه لبنية الصيد، والرغبة في الاختفاء، أوممارسة الانقسام أمام المرآة، والإيحاءات الأنثوية الإنسانية.
أما الأنثى فتتجلى في مجموعة من الأخيلة المتناقضة؛ مثل الوردة، ووهج النار، وإلحاح دال الفراغ بدلالاته الجسدية، وإنذاره المستمر برعب النهايات.
قد تهيمن أخيلة الصيد على الأنثى حتى تصل إلى عدم صاخب، يجمع بين حركية الحياة، والسكون معا.
يقول الصوت :
«نصبت مني شركا، أغمضت نفسي فلا أرى، أيها الصائد الأعمى، لماذا؟ صائدي أم صيدي؟ فريستان نحن لنا، أم للثالث المرفوع بالضم.. منفردان بالكون، رقصة الموت حتى المنتهى... شاخ الزمان دفعة واحدة، بوم، وفئران، وسحالي مبرقشة، أطلال بلا بكاء، أوحنين ».
ثمة تكوين تستبقه التشبيهات التأويلية للأنثى، وإعادة استنباتها في الحركة الكونية الاحتمالية، لا وجود للصوت سوى في تجدد الفراغ؛ فالمتكلم يمثل الوجود، والعدم معا، الإيروس، والرغبة في التفكك الذاتي.
إن الأنثى تجسد الصراع فيما وراء بنيته التي تؤكد الأنا في مواجهة الآخر؛ فهي تكتشف وهج الحياة في رقصة الموت التي تحيل إليه، وتؤجل حدوثه في دوال الشر الفارغة من العواطف الشريرة.
هل هي حكمة الفراغ؟ أم أنه الصخب الإبداعي المضاد للموت، والشر، والبهجة، بوصفها مفاهيم أصيلة؟
ويتسع مدلول الاختفاء، حتى يميز الهوية، ويختلط بآثار العشق، والغياب، وصخب العناصر الحلمية، والطبيعية. الاختفاء ينقل دلالاته إلى ذروة الاحتجاب، ثم الصور المادية الموحشة دون أن يفقد حالته الأولى في صوت المتكلم.
يقول :
«أغلقي علي الأبواب من خارج بالمصاريع، ها هنا مقامي النهائي، وصبوتي، أنا الداخلي المستديم، لا خارج لي، تصعد بي، ما الذي جاء بالهديل، نهر عسل، ولبن... شهوات شاسعة، وجسدي ضيق... وحوش تطارد الفرائس الهاربة، الجوارح تنقض، لا هوادة، لا يأس. صحوة أم إغماءة. من الفريسة ».
الهوية الشعرية تلج الفريسة فيما قبل الصيد، في الظلمة الأنثوية، وبهجة اتحاد العناصر خارج الوعي بالذات، أوإدراك حكمة الهزيمة.
إننا أمام باب يسلب ظهور المتكلم، بينما يمنحه الخصوصية، وتكرار صاخب للفريسة دون اكتمال للموت. إنها الاحتمالية الشعرية المتناقضة؛ ولننظر إلى جملة «لا خارج لي «في النص، حيث دال / خارج يقع بين السلب في / لا، وإثبات الهوية في / لي، وكأن التنازع بين القوى الكونية، والصور يصب في التكوين الإبداعي خارج الأصول، والخطابات الثابتة.
المتكلم يطارد الغايات التمثيلية؛ مثل الهوية، والعشق، والأنثى، وهويرغب في إقصائها بصورة لا نهائية؛ فهويدفع الوصول، والاكتمال خلف اللغة الطيفية؛ ولهذا نجد نشوءه الإبداعي يسخر من غاية أودسيوس، ومن الصوت الأنثوي الذي يلتحم به.
يقول :
«أنا البحار الأبدي، ضعت في الخلجان والأرخبيل، عاريين نمضي، نشعل الحرائق في المسافات، والسكينة، لا رثاء، لا ندم... / صوتها / يزحف في جسدي / بلا دبيب / أقتفي أثره / لا أصل ».
إن رفعت سلام ينقل مركزية الوطن في وعي أودسيوس إلى أصالة البحر / التيه، وكأنه الممثل الحقيقي للهوية، هل ترتبط الأصالة – على نحووثيق – بالضياع؟ هل هوتيه في الذات، أم البحر ذي النزعة الأنثوية الغائبة؟
إن الحرائق التي يشعلها الوعي توغل في البراءة، والحفاظ على سياق ما قبل البدايات؛ حيث تندمج أخيلة اللاوعي بالكتابة، فتشكل الحرية، وتأجيل الحدود.
وتختلط الشهوة، بالتدمير، والاختراق في الوعي الأنثوي، وهيمنة دال الفراغ على أخيلته؛ إذ ينفك في سياقات العبث، والاستحالة، وسطوة الغريزة.
يقول :
«أنا فريستك الدائمةفي دمي شهوة الفتك بيواختراقي من كل الجهاتشهوات معتقة في السرمحبوسة في ظلمة الجسدترعى حلمها بالطوفان ».
تتعلم الأنثى لا معقولية الكينونة وتؤول اختراق الذات بالظلمة التي ينتجها السياق الشعري لغريزة التدمير الفرويدية، وكذلك صورة الفراغ التي تشبه الذات في قابليتها للاستلاب، والتعبير عن الامتلاء في الجنس، وكذلك الدائرية الأنثوية في الخيال المبدع.
وتختلط الأنساق الثقافية للنهايات في المقطع السابق بين استشرافها في الغرائز، والبنية المادية للجسد من جهة، واستعادة الطوفان بوصفه خلاصا، ومحوا، ونشوءا متجددا في آن.
ويبدوالتكرار الشعري للسلب في الديوان ممثلا لما بعد البدايات الطيفية التي تناهض ثوابت المادة، والتأويل الوجودي للذات معا، أوتمزجه بالمحوكفعل إيجابي لبراءة البداية؛ فالمفاهيم النسبية حول الإدراك، والاختيار الذاتي باتت موضع تساؤل، واستبدال من قوى التجدد الأصيلة في الكتابة.
يقول :
«لا مسيرة أومخيرة، من يحمل عني صليب الاختيار الصعب، لا تدخلني في تجربة، أريد لا أريد، فمن يقول لي؟ بين الأبيض والأسود لا أريم، لا أميل... وجهه أعرفه لا أعرفه، ينبهني إلى الخواء، ثم يمضي إلى الضفة المقابلة ».
التجسد يولد الصلب، ومن ثم الألم. أما التكوين الملتبس؛ فهويسير ضد بنيته، ضد العدم، إنه يقاوم الكينونة؛ كي يطهرها من شرك التجربة؛ فتبدوكقصيدة، أوكالصوت الآخر / الغائب الذي يؤول الأنثى، وينفصل عنها في المساحة الحرة للعب التشبيهات، والأصوات في الديوان.
ومن خلال دال الصوت المجرد يقرأ المتكلم حركة اللامعقول الخفية في الصراع، والصيد، والآلام الداخلية الأكثر ارتباطا بالأنا الأعلى؛ فالصوت أثر متكرر لعمليتي الصراع، والولادة دون نهاية.
يقول :
«صرخة تؤاخي الطيور الليلية / ترف برهة غامضة / وتطعن الزوايا المنفرجة / تقضمينني / ألتهمك / هل أنت ندمي الغيبي / لا بأس / ما الذي يطرق الأبواب، والنوافذ / ما؟ ».
القصيدة تستنزف الجسد في الصوت؛ سواء أكان ممثلا لبهجة القصيدة، أم دالا على رعب الصرخات الكونية التي تمارس صراعا لعبيا دون مركز فيما بعد النهايات.
وقد جاء الحرف ما لتغييب أي حدود ممكنة للصوت، إنه طيف، أوفراغ، ولكنه يحفر أثرا كونيا، ويؤول وجود المتكلم، وأخيلته.
وقد تتفاعل مستويات الخصوبة، والتدمير، والكتابة، وولوج الذات لتداعيات الصورة، وكأن التكوين بحد ذاته زيادة مجازية.
يقول :
«كلما ابتللت ازدهرت، نمت لي غصون أنبتت فواكه الفصول المجهولة، كلما خطوت احترقت ذاكرتي، واشتعل هشيمي / لا تطفئوني، لست حديقة، لست بستانا، أنا الموءودة قال كوني كنت، أنا الصرخة الشاردة ».
إن كتابة رفعت سلام هنا تقوم على الانقسامات، والحالات التشبيهية، لا النهايات؛ ولهذا سنجد الضمائر تلج نظائرها، وكذلك الأخيلة الاستعارية؛ كي تمنح الصوت حرية الكتابة.