السبت ٦ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم سوسن البرغوثي

لغة أخرى...

 
يدور الصمت في دوامة احتراق إنسان أصبح خبراً أو رقماً في عالم التحضر والتمدن، لا يلبث أن يُقلب الحدث إلى صفحة آخرى، فيرتد صدى الحزن، ويعود صاحبه خائباً وحيداً رغم صخب الحياة وضوضائها، بإيقاع رتيب مخدر يصارع الحياة باختلاط خيوط الموت الباهتة مع ضجيج اللهو والعبث بكينونته، لا يجني سوى الحسرة أو تعميد الشراسة كمبدأ لصراع البقاء.

 عالم ألغى وجرّد الإنسان من مشاعر الايثار والتسامح والحب، وتراجع ألف ميل عن التطور الإنساني، ليعود من جديد إنساناً عصرياً بجوهر غرائزي بحت.يدور حول فراغ في دائرة مغلقة اسمها الآنا، ومن بعدي الطوفان!،ثم يصول ويجول في معركته مع ذاته، ولا يجد سوى حبه وشغفه بملكة النحل ولغة الجسد والنرجسية مناصاً من غرقه نحو الأسفل المهلك.

هشاشة صورة الانسان باتت في زمن يحرق أنفاسه، فتتملىء رئتاه بدخان أسود، وتستقر الظلمة في أعماقه، تخدش نصاعة الحب، ويحترق بنشوة الآنا بلا ملامح.

يبحث الإنسان بلهفة عن أمل أخضر بين صخور خرساء صفراء، ووجوه ذابلة لا تعرف أن للحياة لونا ومعنى، ملتحفة بخيلائها الكاذب، تتخفى وراء أبخرة مسمومة، أو حلم يعيدها حياة تليق بالبشر، فيختلط الأمل بالألم، والحب بالحزن..وتتصاعد الأبخرة فوق بنيان من حجر،ثم تهبط إلى درك الاختناق...

تتراكم المعاناة وتتحول إلى طبقات كلسية تحول الرؤيا إلى ضباب مشحون بذكريات..تذوي وتتلاشى بحلوها ومرها، ليعاود رحلته اليومية وحيداً، يتعقب أثره خلفه متوجساً قلقاً، يتوه في الزحام.

تكوينات لا نفهم لصورها ومصدرها أي سبب، سوى أنها ترجعنا للفكر البدائي القائم على فتك قابيل بهابيل..لا لشيء، إلا من أجل القتل فقط، قتل روح أو مشاعر.. لا فرق!.

وحيداً تلتف أجنحة حول جسده، وهالة الشرنقة تحميه من خطر يداهم روحه المتسلقة..العالقة بين الأرض والسماء.هل تُروى من دعوات وصلوات، لتحيه من جديد لأجل سحر الحياة، نفنى ويدوم، أم تنتعش تلك الأجنحة متحديةً الموت بخلود الأثر؟.

انسلت الحياة البرزخية عند المساء البارد الغريب، تتردد معها أرجوحة الإرادة بين ملهاة شغف البقاء وحمى الغدر. هذيان يتكرر مع كل رقم يعيش الحالة ذاتها، وفعل الحماقة يرتكب، محاولين إثراء المعاني التي تاهت من البشر، يزرعون السم في نبات الصبار ويأملون الشفاء، يعنون بالداء أكثر من رعايتهم لدوائر تنسج زفرات محمومة مع المسافات، وتضيع بلحظة أمام ذلك العالم المطعون في إنسانيته، لترتد المعاني العاقر حيّة رقطاء تصب جنونها بعاصفة هوجاء لا ترحم البعيد حتى يرجع يوماً إلى عشه ويرتحل بسلام.

كل لحم ودم أصبح مجازياً، مزخرفاً بوسائل ندركها ولا نستوعبها، رغم أنها تشكل واقعنا وحياتنا.عبثاً نحاول تفكيك رموزها بمكنونات معرفية تسبقنا إلى الخبر..الحدث، لنصبح رقماً تائهاً بين النماذج الأخرى، كظل وليس كصورة..كمثل وليس كمثال ركيزته الاختباء وراء يوم أضاع فيه وجهه الحقيقي، ليستبدل بقناع يطبق لحظات احتراق، ونعيش الوحدة في كل لحظة آلالاف المرات، دون أن نتمرد على التشويه الذي طال العمق. زيف لكل قيمة جمالية، باتت مصطنعة بعالم الزخارف المصنّعة، المفرغة من الروح والأشبه بدمى تتحرك آلياً إلى المجهول، تحكمها غرائز قاتلة!.

 أحاسيس مضرمة بالخوف من الآتي، والتحرر من الماضي البائس، يعوق المستقبل، لماذا؟!..فقط لأن الانسان صار رقماً أو خبراً لا أكثر!.مفاهيم تجسد تأويلات انعتاق الانسان من جوهره، والفكر من ممارسته، لنعيش الضياع أو الاحتراق...

نتوقف لنقول أن الانسان كرمه الله، وأذله البشر.. ثم نترك النص ويبقى المتألم الحزين وحيداً يعد خطواته نحو محطة أخرى يجهلها، ونعرف أن ما اقترفناه هو الجريمة الكبرى بحق بريء،وبغض النظر عن أداة القتل..يريد الحياة كما أرادها الآخر، بفارق واحد أن الأول لم يفكر يوماً أن القتل وسيلته لغاية حياة ساقطة، والثاني يضلل ويرى في السقوط وجوده!. 

عندئذ يصبح الصمت لغتنا، والاحتجاج بالصمت أقوى من الصوت ومن الحزن، فلا لهو ولا وهم يغفو بمقل الحلم، وما لكل رقم أو خبر، إلا لغة الصمت... والصمت أحيانا أبلغ من الكلام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى