

لغتنا كائن حي
مما يغيظ حقًا أن نرى بعض المتزمتين في اللغة يتشبثون بآرائهم ، وقد نصبوا أنفسهم أوصياء يحللون ويحرمون ، يقفون باللغة وهي المتحركة أبدًا ، وفي حركتها بركة ، بل بركات . ففي إذاعة القاهرة سمعت في برنامج " قل ولا تقل " - قل : حصل على القدح في المباراة ، ولا تقل : حصل على الكأس ، فيجب أن يكون مملوءًا حتى يسمى كأسًا .
بمثل هذه الترّهات يحشون أدمغتهم ، ويريدوننا أن نحفظ ما يرددون حتى " تستقيم ألسنتنا " ، وبالتالي نحفظ " مجد " أمتنا العظيم ، ناسين أن اللغة – كل لغة تتسع للمجاز وسواه .
ولعل سائلا يسأل : إذن ، لماذا أذعتَ قبل سنين برنامجًا ، وجئت اليوم تنهى عن خلق قد أتيت بمثله ؟
فأنا مثلا :
• أريد أن نلفظ الكلمة الصحيحة كما وردت في المعاجم ، فنقول على سبيل المثال : عَرَفَ ، حَيْرة ، عَفاف ، رِيبة ، وَفَيَات ......
• وأريد أن نحافظ على النحو والصرف بقواعد أصولية ، فإن وجدنا مخرجًا وشاهدًا يجيز لنا صورة أخرى فلا جناح علينا لتيسير اللغة وأدائها ، أما المسائل التي لا خلاف عليها فما أحرانا بالتقيـّد بها كأن نقول : الشائن بدلا من المشين ، والمعيش بدلا من المعاش وهكذا ...
• ولا تثريب علينا إن استعملنا ألفاظًا نظنها عامية وهي الأفصح ، كأن نقول : خم الدجاج بدلا من قن ، وبدلة الموظف بدلا من بذلة ... إلخ .
• وأنا من أنصار التضمين بمعنى استعمال حرف جر مكان حرف جر آخر ، وقد وردت أمثلة كثيرة في القرآن والشعر القديم تجيز ذلك ، فلن تهتز الأسباب إذا كتبنا : أرسل له وأرسل إليه ، وبعث له وبعث إليه .
بربكم ألا تفهم الجملة بهذه وبتلك ؟
• وأنا من أنصار استعمال الكلمة الأعجمية إذا لم يكن لها بديل دقيق يؤدي دلالتها وفحواها ، خاصة ونحن في عصر مخترعات يسبقنا كثيرًا ، فلنبق هذه الكلمات ولنعرّبها حتى نملكها كما يقول طه حسين ، فالتلفون والتلفزيون والفيديو والراديو والكاسيت والفيتامين وغيرها كلمات عالمية ، ونحن من المستهلكين لها كما هي ، ولن نتفق على ترجمة واحدة لها بديلة - شئنا أم أبينا .
• وأحبذ صور التوليد الاشتقاق والنحت الجديدة بحيث لا تُشارك بدلالات أخرى .
وأخيرًا :
إن من ينصب نفسه للتوجيه عليه أن يستقي المواد من مصادرها ، لا أن يعتمد كتب محمد العدناني وعباس أبو السعود وزهدي جار الله ومصطفى جواد فقط ، والأنكى من ذلك اعتماد يوسف أسعد داغر في كتابه " تذكرة الكاتب " - وهو كتاب زاخر بالأخطاء وسوء الفهم لدرجة أن كلمة " معلم " عنده غير فصيحة ...
والمصادر التي يجب أن يلتزم بها الباحثون هي معاجم اللغة وخاصة " تاج العروس " و " لسان العرب " و " مقاييس اللغة " ونحوها . ثم يجب أن يكون لكل باحث منهج لغوي ينطلق منه ، ولن تكون رؤية لغوية صحيحة إلا بدراسة اللغات الأخرى .
وعند متابعة تطور اللغات وحركتيها ندرك معنى ما قاله جورجي زيدان في عنوان كتابه المدروس " اللغة العربية كائن حي " ، وسيفوت القطار هؤلاء الذين يجترون عبارة " لغتنا الجميلة " وهم يريدونها مومياء محنطة ، فجمال اللغة في توثبها وخلقها ، في انطلاقها وسبقها ، ولغتنا أهل لذلك ، فهي منا وإلينا ، وهي خلاصة فكرنا ووعاؤه ، وإذا كنا نحن لا نقف فإن لغتنا حتمًا لن تقف .