الأحد ٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم ربيع مفتاح

لورانس... الكاتب العاشق

رغم مرور أكثر من نصف قرن على وفاة الكاتب والروائى الإنجليزى «دى اتش لورانس» إلا أنه مازال يثير الجدل فى كافة الأوساط الأدبية والفنية بإعتباره مفكرا جريئا وروائيا قد سبق عصره فكرا وفنا وحطم الكثير من التقاليد البالية، لقد هز لورانس وقار البرجوازية الإنجليزية بكتاباته الرائعة عن الجسد.

لقد أحس لورانس بغموض الجنس ورهبته وقوته وبأنه الحافز الأول الذى يدفع الحياة؛ إنه المشكلة التى درسها وأحسها ولمسها فى بيئته، وهو الداء الذى راّه يمثل الظاهرة الخطيرة فى المجتمع الإنجليزى والذى يحدث كثيرا من الإنحرافات والتصرفات المرضية، وإذا لم يكن الكاتب مراّة صادقة لعصره ومجتمعه وتجاربه الذاتية فلا قيمة لإبداعه الفنى الذى يكتبه، إن الوجود الإنسانى فى كثير من الأحيان يكون عنيفا وصارخا بل ومدمرا وواجب الكاتب ألا يهمله أو يتغاضى عنه، بل يجب أن يتعرض له ويعبر عن أجوائه
إن الجنس فى أدب لورانس جزء من حياة العصر الحديث الملئ بمختلف أنواع ألأحداث لكنه لم يكن هدفا فى حد ذاته .

إنما هو وسيلة للتعرف على أسرار الحقيقة التى تحرك النوازع والتصرفات وأنواع السلوك الإنسانى
إن لورانس لم يكن كاتبا حنسيا بل إتخذ الجنس أسلوبا لإكتشاف وتفهم روح الإنسان؛ إنه قناة العبور للولوج داخل هذا الكيان الإنسانى المتشابك، إنه فرصة للتعمق داخل النفس البشرية بل تعميق الحياة الإجتماعية وتعريتها، فلا الجنس ولا الكتابة عن الجنس موضع إعتراض من أحد كى يتحدث عنهما من الناحية الأدبية والأخلاقية، إنما الاعتراض على إبتذال الجنس والإتجار به فى سوق الملذات والشهوات واتخاذه وسيلة للترويج باستثارة الغرائز وتحريض النزعات البهيمية التى يتساوى فيها الإنسان والحيوان ولكن السؤال لماذا يكتب الكاتب عن هذه المسائل ؟ والإجابة: يكتب بهدف التعرف على الحقائق الإنسانية وتمثيل العيوب والنقائص ومواطن الضعف فى الطبيعة البشرية.

أبناء وعشاق

إن العقدة النفسية التى تولدت فى لورانس كانت بسبب تعلقه الزائد بأمه وكان هذا التعلق انعكاسا لحبها، حتى لقد طردت من حياته العاطفية كل عاطفة نحو امرأة أخرى وكان شبحها يقف بينه وبين كل فتاة يجذبه حسنها، فإذا هو يعجز عن الإحساس نحوها بغير الحب الجنسى أما الحب القلبى الصافى كان وقفا على أمه دون سواها، وفى رواية أبناء وغشاق، يصور الكاتب الصراع النفسى الموجع الذى عاش فريسة له، بين عاطفته القوية لأمه وعواطفه الجنسية الحادة نحو غيرها من النساء ويزيد فى ترجيح هذا الظن أن لورانس كتب هذ الرواية عام 1913 بعد وفاة أمه بفترة وجيزة، إن بول بطل الرواية يغترف ماشاء من نهر المتعة مع عشيقته كلارا لكنه بعد فترة يحاول أن يتجنبها ويتهرب منها ــ فى تلك الاثناء تسقط أمه فريسة لمرض السرطان، فتنتقل من المستشفى إلى بيتها تنتظر الموت البطئ المحتوم وتسوء حالة أمه وتستبد بها الألام فيضعف بول عن احتمال عذابها وينهى ألامها بحرعة مورفين مضاعفة تقضى عليها ثم يقف جاثيا إلى جوار فراشها ويقبّل جسدها المسجّى وهويهمس لها بما لم يهمس به لامرأة أو عشيقة، إن حبه لها قد استأثر بقلبه وخنق فيه كل عاطفة نحو غيرها من النساء ـــ لكن شبابه يستيقظ فيه وينقذه من الاستسلام لحزنه فيكظم أساه ورغبته فى الموت للحاق بأمه ـــ ويمضى مسرعا نحو أنوار المدينة .

لورانس والحداثة

فى عام 1913 أعلن لورانس الحرب على أعمال جالزورثى وشو وكان يطلق عليها جماعة المسطرة والقياس الرياضى، وحين انتهى من كتابة روايته أبناء وعشاق بما فيها من تعقيدات أدبية، بدأ يرصد هواجسه المستحوذة عليها بعبارات جديدة تماما وليتوارى العقل الواعى وليقدم العون ألى اللاشعور ليسود بكامل طاقته وقد كان ذلك من قبيل التجديد والتحديث الذى لم يسبقه إليه أحد من قبل، لقد كانت طاقة الحياة فى أدب لورانس شيئا صوفيا وسحريا وأسطوريا كل ذلك فى غموض مقصود، فالغيبوبات والنشوات ونوبات الجنون السعيدة ومنابت الورود والرقصات بحضور القطعان وابتهال الثمار المستمر والمحاصيل والحقول والتماثيل الصغيرة، كل ذلك يستثير مشاعر أبطاله .

إن روايات لورانس من أمثال القديس مارو، والقنفذ، والشيطان المزين بالريش، تثير بما فيه الكفاية مسألة الهناءات الأرضية، وفى الرواية الأخيرة يظهر كيف أن الاسطورة يمكن أن تعيد الماضى إلينا ؟ وهذه فكرة حديثة وثرية .

فانتازيا اللاشعور

إن فانتازيا اللاشعور أحد كتابين فى التحليل النفسى أبدعهما الروائى البريطانى لورانس، إنه كتاب ضرورى للفهم الأصح والأكمل لتلك الأعمال الروائية، يقول لورانس فى هذا الكتاب:
«إن وجود هدف عظيم فى حياة الإنسان يسعى لتحقيقه ليس من الجنس فى شئ ويجب الا يختلط به، إنه فعل قوى فى الاتجاه الأّخر، إن أعظم مايسعى إليه الإنسان هو تحقيق هذا الهدف، أما حين يفقد الإيمان به فإنه يشعر بالخسارة والتعاسة ويصل إلى مرحلة اليأس إذا ما وضع الإشباع الجنسئ بديلا لذلك الهدف وجين يتوارى الجنس من أجل الهدف العظيم يتحقق الكمال ولكن من جهة أخرى لايمكن لهذا الهدف أن يستمر طويلا دون إشباع جنسى حقيقى.»

محاكمة لورانس

بعد ثلاثين سنة من وفاة لورانس عاد البحث من جديد فى رواية عشيق الليدى تشاترلى على نطاق أوسع مما كان فى حياة صاحبها، لأن الأمر بدأ فى حياته وانتهى يومئذ بتحريم طبعها فى البلاد الإنجليزية والولايات المتحدة وتم تهريبها للطبع سرا فى المطابع الفرنسية والألمانية أما الاّن اختلف الأمر، لقد جازفت إحدى دور النشر بطبع أربعين ألف نسخة من الرواية وإعداد مائتى ألف نسخة ثم إصدارها، وقد تمت محاكمة الرواية بعد ان قامت الشركة الناشرة باستدعاء الخبراء والشهود فاستدعت خمسة وثلاثين خبيرا من مؤلفين واساتذة جامعات والنقاد والقراء والمثقفين وقد شهدوا بأنه لايوجد فى الرواية ما يمنع تداولها، وما جاء من مواقف جنسية لم يأت من أجل إثارة الشهوات ولم يتجر الكاتب بعرض المناظر المحرضة للغرائز الجنسية ولكن كان هدفه الأول والأخير هو إبراز العيوب فى الحياة الزوجية والعلاقات الاجتماعية من أجل علاجها وتدارك أسبابها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى