الثلاثاء ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٤
وقفة تأمّليّة في
بقلم إبتسام أبو شرار

«ما تبقّى لكم» لغسّان كنفاني

إنّ أكثر ما يشدّ القارئ حينما يتطوّف بناظريه وتأمّلاته في أدب غسّان كنفاني قدرة الكاتب الهائلة على نقل الأحداث المتسلسلة النّامية عبر الخيال المجنّح في سلسلة من الصّور المماثلة لها في النّمو والتّطوّر؛ حيث يجد القارئ نفسه يتحرّك بحواسه بتأمّل، وشوق، وقلّما نجد هذا الجمال التّصويريّ مع وضوح الفكرة في الأعمال النّثريّة عند بعض الكتّاب البارزين في تلك المرحلة الّتي احتضنت الفكر السّياسيّ، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار.

لعلّ المتدبّر بتخيّلاته لنصوص كنفاني يمتدّ عبر مساحة الخيال الّتي مع عمقها تنقل الواقع بصورة يستطيع القارئ تصوّرها، والتّفاعل معها؛ لما يمتلكه خيال الكاتب من قدرة على التّصوير الهائل الّذي يلامس الحواس، ويضرب بالعمق في معطياتها، وتفاصيلها، فالصّورة عند كنفاني من أكثر أدواته إثارة وتشويقًا، نظرًا لعمقها، وبلوغها درجة من التّراكم، وقدرتها على الإثارة. ففي مستهلّ روايته "ما تبقّى لكم" مثلاً نجد أنفسنا أمام حركة هائلة من الصّور الّتي تستقطب حواسنا؛ حيث يبدع كنفاني في جذب القارئ لحيويّة الصّور الّتي يقدّم عبرها أبعاد الزّمان، والمكان، وباقي العناصر، وتأتي العناصر منقادة في سياق الصّورة، كذلك فإنّ الصّورة تنساب طواعية للمشهد الواقعيّ المتخيّل، بما يقود القارئ برفق إلى ما هو أبعد من مسافة حدود النّصّ المنطقيّة، ثمّ نجد المشهد التّخيّليّ في لحظة ما يتلاشى مع المباشرة الّتي يتقدّم خلالها النّصّ، فيختفي النّمط التّصويريّ المكثّف، بل تسيطر المباشرة على اللّغة؛ ليبدأ الواقع المنهمر في الحدث، حينما يقترب موعد الدّخول في تفاصيل الحدث الرّوائيّ في إطار السّرد المبتعد عن الوصف، والتّخيّل.

"ممّا يقتضي كون الشّيء على الذّكر وثبوت صورته في النّفس، أن يكثر دورانه على العيون، ويدوم تردّده في مواقع الأبصار، وأن تدركه الحواس في كلّ وقت"(1)، فالحركة عند غسّان كنفاني مشبعة بتطوّر الحدث، ونموّه، ملتحمًا في الزّمان، والمكان، والقارئ يتحرّك في نصّه المبدوء بفعل الحركة (صار) حين يقول:"صار بوسعه الآن أن ينظر مباشرة إلى قرص الشّمس معلّقًا على سطح الأفق"(2)، فنجد النّصّ يلامس نظريّات النّقد الّتي أخذت من العراقة ما أخذت؛ إذ يستطيع المتلقّي أن يتأمّل المشهد الّذي يحدّد خطوطه الكاتب بألوان الطّبيعة الحيّة الّتي تجاري الزّمن، فينمو بها، وتنمو به، فتواكب الصّورة الحدث، وتنطلق من منطقة البدء، ويشير قرص الشّمس المعلّق في الأفق إلى أنّ من الممكن لهذا الشّيء المعلّق أن يكون في حركة نحو الأرض، فينتهي أمد تعليقه. هكذا يحوّر غسّان هذه الصّورة المألوفة في انتسابها للمشهد الطّبيعيّ اليوميّ؛ لتصبح دون المألوف ، فالأفق سطح، يشدّ حاسّة الإبصار نحوه، بل يتثبّت البصر مع الصّورة المعلّقة، وتنمو الصّور المركّبة الّتي تجسّد مشهد الشّمس في تحوّلاته؛ إذ إنّ القرص "يذوب كشعلة أرجوانيّة تغطس في الماء"(3)، هكذا تصير الشّمس في حركة لونيّة سريعة جسمًا، يغطس في الماء؛ وحبكات الماء تحرّك الإحساس بالاضمحلال في جماليّة المشهد من ناحية، وقوّته، وأبعاده النّفسيّة من ناحية أخرى؛ إذ تتحرّك الصّورة الحسّيّة البصريّة بألوانها، ومفاجآتها، وعوامل الإثارة فيها في إطار التّشبيه التّمثيليّ؛ ليتعمّق الحسّ، ويمعن الرّاوي في التّأمّل؛ إذ تجاذب المؤلّف طرفا التّشبيه، الصّورتان المفعمتان بالحسّ التّأمليّ، وبينهما تشدّ أنظار المتأمّل، قرص الشّمس الّذي بدأ يتلاشى في الأفق، والشّعلة الأرجوانيّة الّتي تغطس في الماء، فيتّحد اللّون الأرجوانيّ لون الماء، ولون الشّمس في مشهد زمنيّ، ينمو حينما يحرّكه الكاتب؛ إذ "غاصت الشّمس كلّها، وبدأت الخطوط المتوهّجة الّتي خلّفتها معلّقة على حافّة السّماء تتراجع أمام جدار أشهب صعد لامعًا بادئ الأمر، ثمّ تحوّل إلى مجرّد طلاء أبيض"(4). صورة جزئيّة تسكن فيها الحركة الّتي رصدتها عدسة الكاتب من جهة؛ لتنمو من جهة أخرى حين بدأت الخطوط تتراجع، فهناك حركة متضادّة، فأمام التّراجع يصعد الجدار، ثمّ يتحوّل لطلاء أبيض، هنا تعلو درجة الإدراك الحسّيّة بمختلف معطياتها مع تصاعد الصّورة الدّقيقة الوصف، الخارجة عن المألوف في حركة فنّيّة ملتوية، تأخذنا إلى التّلاشي التّدريجيّ الّذي تنتقل الصّورة معه إلى مساحة أخرى، فلعلّ غروب الحقيقة، والاستقرار بهذا النّموّ الزّمانيّ، والنّفسيّ هو الّذي يلوّن خطوط الصّورة في مخيّلة الكاتب، فرحيل الشّمس ينذر برحيل الأمان، والاتّجاه نحو الضّياع، والغوص في المجهول المنبوذ، والكاتب من خلال الصّورة يلقي الحقيقة على واقع القضيّة الفلسطينيّة، وترسّباتها.

إذا كان"المجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعًا في القلوب والأسماع"(5)، فالمجاز عند غسّان كنفاني هو الصّورة المحسوسة في تخيّل محسوس، ينتقل من الطّبيعة إلى النّصّ، ثمّ إلى المتلقّي، بما لا يفقد الأدب الموضوعيّ نسقه القائم على الوضوح في توصيل المعنى، فلم تتنافَ الصّورة المتخيّلة مع الصّورة الحقيقيّة، ولم تحتمل وجوهًا للتّأويل؛ لأنّها الصّورة الطّبيعيّة المحسوسة في إطارها التّمثيليّ، فمجموعة من الصّور الحسّيّة ،الجزئيّة، المركّبة، والتّراكميّة تتداخل؛ لتكتمل اللّوحة الّتي كانت تعتلي المشهد؛ إذ نستطيع أن نتخيّلها صورة كلّيّة في انفصالها عن المشاهد الأخرى المكتملة بمشهد كلّيّ، حدّد تكامله الكاتب، لكنّها تبقى جزئيّة حين تتّحد بملامح تصويريّة، لا تنفصل عن مساحة الكون المرئيّة، حين يقول الكاتب:"وفجأة جاءت الصّحراء"(6)، فالّذي يتحرّك عند الكاتب ليس الشّخصيّة أو الحدث، وإنّما المشهد التّصويريّ، وهنا يكمن الإبداع في التّصوير، فالكاتب يحوّل الحركة للمكان؛ ليحرّك الشّخصيّة عكس المتوقّع، فمجيء الصّحراء فجأة ينمّ عن حركة سريعة فيها عنصر مفاجأة، يثير الدّهشة، وتتراكم أطراف الصّورة المركّبة؛ لتتّسع حدود اللّوحة التّصويريّة، ولا تزال الشّخصيّة الّتي يحرّكها الكاتب مجهولة، تتحرّك ببطء في الصّورة. "رآها الآن لأوّل مرّة مخلوقًا يتنفّس على امتداد البصر"(7)، يشخّص الكاتب الصّورة؛ لتنمو مع الشّخصيّة، وتتقدّم في حركة شاسعة، تسري فيها الحياة، فالصّحراء تتنفّس مخلوقًا "غامضًا ومريعًا وأليفًا في وقت واحد"(8)، هنا هي المفارقة بين المشهد الطّبيعيّ السّاكن في فعله، وتأثيره، وبين المشاعر المتحرّكة الّتي تجعل الكاتب يجسّدها في معالم الطّبيعة الّتي تتحرّك فيها شخصيّة البطل، تدور الحركة الّتي تشدّ الحسّ، وتتصاعد في وتيرة دائريّة عندما يرى الكاتب جسم الصّحراء "يتقلّب في تموّج الضّوء الّذي أخذ يرمدّ منسحبًا خطوة خطوة أمام نزول السّماء السّوداء من فوق"(9)، فالصّورة تنبض بالحركة واللّون، والمشهد الزّمكانيّ الطّبيعيّ عند كنفاني يتقدّم؛ ليتراوح بين الغريب والمألوف، فالمشهد الزّمانيّ يمتدّ للّيل، وتنسحب صورة الأمكنة مع انسحاب أجزاء المشهد الزّمانيّ، فحينما تكتمل اللّوحة الظَّلاميّة تتّحد الأرض مع السّماء في سدولها السّوداء، فينقل الكاتب التّفاصيل في صورة لونيّة حركيّة، تجاوزت الواقع بنزول السّماء السّوداء، وتنمو صورة الصّحراء في خيال المؤلّف"وقد أحسّ بها جسدًا هائلاً، يتنفّس بصوت مسموع"(10)، هنا تخضع غير حاسّة لهذا المشهد، فحاسّة السّمع تنصت للمشهد في تجاوزه للصّمت. "أطبقت السّماء فوقه بلا ضجيج" (11)، يكتمل المشهد الزّمنيّ بلحظة الدّخول في اللّيل، يختفي الأفق، وهبوط الظّلام يتماهى، وكأنّه هبوط السّماء، يستمرّ الكاتب في تحريك المشهد عوضًا عن تحريك الشّخصيّة بتلقائيّتها، تكبر الصّحراء في عينيه كلّما اقترب منها، وتصغر الأمكنة خلفه، فتستحيل مدينته غزّة في حركة واقعيّة تدريجيّة "إلى نقطة سوداء في نهاية الأفق"(12)، تتبدّل معها الأمكنة، ويحلّ مشهدٌ مكانَ آخر في حركة تضادّ التّلاشي والظّهور.
"على مدّ البصر، تنفّس جسد الصّحراء فأحسّ بدنه يعلو، ويهبط فوق صدرها. وفي قلب الجدار الأسود الّذي انتصب وراء الأفق أخذت المصاريع تنفتح واحدًا وراء الآخر، فتنبثق وراءها نجوم ذات لمعان قاس"(13)، يتصلّب الظّلام أمام حاسّة البصر جدارًا، والصّحراء تبقى كائنًا حيًّا بكلّ امتدادها، وفي صورة حركيّة في إيقاع من التّضادّ، يحرّك الكاتب المشهد الّذي يرصد تحرّكات البطل في تفاصيلها الدّقيقة، حركة (علوّ وهبوط) فوق صدر الصّحراء، وكأنّ الصّحراء، هذا الجسد، وبطل الرّواية ينبضان بجسد واحد، أمّا الخروج من الظّلام إلى أنوار اللّيل فهو يأخذ نمطًا تخيّليًّا إبداعيًّا، حين تبدو المساحات المضيئة مصاريع، تنفتح؛ لينبثق لمعان النّجوم، وبمزيد من الصّور المتراكمة عبر الأزمنة، والأمكنة ،الكلّيّ والجزئيّ منها "أخذ يغوّص في اللّيل، مثل كرة من خيوط الصّوف مربوط أوّلها إلى بيته في غزّة، طوال ستّة عشر عاما لفّوا فوقه خيطان الصّوف حتّى تحوّل إلى كرة، وهو الآن يفكّها تاركًا نفسه يتدحرج في اللّيل"(14)، صورة مبدعة مفعمة بالحركة، موصولة بالحسّ، هكذا أراد الكاتب أن يجسّد صورة الشّخصيّة في المكان الّذي ستبقى مشدودة إليه، مهما تباعدت عنه، ومهما طال حبل النّأي المتدحرج الّذي ينمّ عن حركة لاإراديّة، تزداد عمقًا باتّصالها بزمن عميق، هو اللّيل، فلعلّه خروج غير إراديّ، يشدّه إلى نقطة البدء، ثمّ تعود الذّكريات للخلف، ويُسترجع الزّمان، وتجري الأحداث في هذه اللّحظة، فيدفعها الكاتب نحو المباشرة؛ إذ يركّز في الحدث، أكثر من تركيزه في الزّمان والمكان، فالحدث هو الأكثر قدرة على تحريك عناصر القصّة، فيجعل الكاتب المتّلقّي مرتكزًا على الصّورة الحسّيّة السّمعيّة الواقعيّة، فتتردّد الصّورة السّمعيّة بالاسترجاع، والتّداعي بكامل قبحها: "كرّر ورائي: زوّجتك أختي مريم".

هكذا يشعرنا كنفاني أنّ اللّوحة التّصويريّة عنده كانت حركة ممهّدة للخطو في حركة نامية نحو مضمون الرّواية الّذي يبدأ بحركة جريئة من الكاتب، تتقدّم معها حركة الشّخصيّة، وتأخذ الرّواية في النّموّ والتّطوّر، حتّى توصلنا إلى اللّحظة الّتي أرادها؛ إذ يدرك كيف يعطي الخيال مساحته من التّصوير.

الهوامش

1- عبد القاهر الجرجانيّ، أسرار البلاغة، قرأه، وعلّق عليه، محمود محمّد شاكر، دار المدنيّ،جدّة،ط1، 1991م، ص 165.
(2)غسّان كنفاني، ما تبقّى لكم، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، ط5، 2006م، ص13.
(3) نفسه، ص13.
(4) نفسه، ص13.
(5) أبو علي الحسن بن رشيق، العمدة في محاسن الشّعر وآدابه ونقده، تحقيق عبد الحميد هنداويّ، المكتبة العصريّة،
صيدا_ بيروت،ط1، 2001م،ج1/ص232.
(6) غسّان كنفاني، ما تبقّى لكم، ص13.
(7) نفسه، ص13.
(8) نفسه، ص13.
(9) نفسه، ص13.
(10) نفسه، ص13.
(11) نفسه، ص13.
(12) نفسه، ص14.
(13) نفسه، ص14.
(14) نفسه، ص14.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى