مجموعة صدى النسيان
في المقدمة التي وضعها الروائي محمد جبريل لمجموعة نجيب محفوظ القصصية «صدى النسيان» كثير من البياضات التي لا بد أن تثير انتباه القارئ العام قبل القارئ الناقد. هي مقدمة تتحدث بإسهاب عن علاقة محمد جبريل بنجيب محفوظ، وتكشف عن عديد من مظاهر عبقريته، وأسلوبه في السرد، وتعرض أمثلة من حياته الشخصية لكنها تسكت عن الحديث عن قصص هذه المجموعة: ما تواريخ نشرها كل على حدة؟. وهل سبق لنجيب أن نشرها بالفعل أم هي تنشر الآن لأول مرة؟. ولماذا يبدو كثير منها ناقص الصياغة مقارنة بقصص قصيرة سابقة لنجيب محفوظ؟. ثم ما طبيعة الأصول المخطوطة للقصص؛ هل كانت مرقونة أم بخط اليد؟.
لقد اكتفى محمد جبريل بالإشارة إلى مسألتين لهما صلة بهذه المجموعة؛ أولاهما اختياره اسم واحدة من القصص عنوانا لها، ولقد «وافق نجيب محفوظ على الاختيار». وثانيهما اعترافه بأن كلماته التصديرية « لا تستهدف التقديم، ولا النقد، ولا حتى الإشارة إلى ما تضمنته المجموعة من قصص»، بل التعبير عن حبه لأستاذه.
بيد أننا نحن القراء البعيدين عن دائرة العلاقة الشخصية بنجيب محفوظ كان من حقنا أن نتعرّف معلومات توثيقية وتاريخية، وليس نقدية تخص قصص المجموعة حتى يتسنى لنا بعد ذلك أن نـزداد اقترابا من عوالم تلك القصص ومن عوالم نجيب محفوظ نفسه. فبعد حصولنا على النصوص الإبداعية لن تعوزنا بعون الله القدرة على القراءة والنقد والتأويل. لكن قبل ذلك كم كانت رغبتنا قوية في امتلاك معلومات التوثيق التي لا تقل هي الأخرى طرافة وأهمية عن الإبداع ذاته. والغريب في الأمر أن محمد جـبريل نفسه سيكتـب لاحقـا (2001) مقدمة لمجموعة نجيب محفوظ القصصية «فتوة العطوف» سيشير فيها إلى أن الأمر يتعلق بالقصص الأولى لعبقري الرواية العربية لم يسبق أن ظهرت في أية مجموعة مطبوعة، وإن كانت قد نشرت في الصحف والمجلات. وما من شك في أن من شأن هذه الحقيقة أن تغني قراءة تلك المجموعة وتوجه قراءها وتتيح للقارئ المهتم إمكانات إضافية من
أجل المقارنة والتـأويل والتــساؤل النقــدي.
صدرت مجموعة «صدى النسيان» عن مكتبة مصر بالقاهرة في سنة 1999، وهي تضم إحدى وعشرين قصة، بعضها قصير جدا لا يتجاوز الصفحة الواحدة. الأجواء الموضوعية للمجموعة لا تكاد تخرج عن الأجواء المحفوظية المعهودة؛ كالفتونة، ومشاكل الحارة، والفقر، والزواج، والسكن، والعشق، والصراع الطويل الأمد، والتصوف، وأثرياء الماضي، والمستغلين الجدد، والقتل، وفساد الأخلاق، وتناقضات المجتمع، والرغبة في الانتقام. وعلى الرغم من تعدد الموضوعات وتباينها تتكرر في المجموعة شخصيات بعينها من قبيل الفتوة، وشيخ الحارة، وإمام الزاوية. بيد أن ما يثير الاهتمام في المجموعة ليس تكرار بعض الموضوعات أو الشخصيات وإنما طرائق التصوير القصصي التي ندرك على التو انتسابها إلى نجيب محفوظ.
من الواضح أن قصص هذا الكتاب ليست أفضل ما كتبه نجيب محفوظ في مجال القصة القصيرة. وحتى إذا عقدنا مقارنة بين هذه المجموعة ومجموعة «القرار الأخير» الصادرة في سنة 1996 ألفينا تفاوتا نوعيا في صيغ التصوير وأساليبه. وفي «صدى النسيان» نفسها تفاوت جمالي بين طرف من الكتاب وطرف ثان جُمعت فيه القصص القصيرة جدا. لكن الكتاب في عمومه يضم نصوصا يبدو أن نجيب محفوظ لم يوفها حقها من التحبيك والصياغة. إنها أفكار قصص قصيرة مصاغة في هياكل سردية جامعة، لكنها لا تزال في حاجة ماسة إلى مزيد من الصنعة المحفوظية. ولقد سبق أن أشرنا إلى تكرار ألقاب بعض الشخصيات في المجموعة، في حين تكاد تنعدم أسماء الأماكن على الرغم من معرفتنا المسبقة بالتأثير الساحر الذي تلعبه تلك الأسماء في أعمال نجيب محفوظ وقدرتها على الجذب. في قصة «زغرودة» ( ص149) يحب الصديقان زهران ومهران ياسمين منذ الطفولة. وبينما راح مهران يدّخر الفائض جنح زهران إلى اللهو واقتناء دواوين العشاق. وندم زهران بعد ذلك وهو يرى صديقه يفوز بياسمين دونه. والملاحظ أن حدث القصة صُور بتشذيب كبير وباحتفاء باهت جدا بعدد من مكونات السرد من بينها المكان. كأن الراوي يود أن يختصر أو أن يصوغ الفكرة في هيكل سردي أوليّ فيه ثغرات على أساس أن يتم تحبيك سردها لاحقا. بيد أن هذا الوقت اللاحق لا يتحقق وتظل القصة تبعا لذلك في صورتها الهيكلية الأولى. قد يقال إن الأمر يتعلق بما يسمى بقصة الفكرة؛ فنقول إن ذلك ممكن. لكننا نمضي خطوة أبعد فنشير إلى ذلك التأثير الإضافي الذي كان من المنتظر أن تحققه «قصة الفكرة» إن هي اسْـتَـثْمرت في بنائها المكون المكاني، خاصة إذا أدركنا مدى الأهمية التي يحظى بها في إبداع نجيب محفوظ. فالتفصيل اليتيم الذي يتحدث في خاتمة القصة عن الخطبة التي تمت «بين القبو والميدان» لا يكاد يقنع، وإنما يكشف عن رغبة الراوي في هروبه من تعب تحبيك الصورة. والحكم نفسه يمكن أن ينطبق حتى على المكون الزمني . فالراوي منذ بداية قصة «زغرودة» يتعمد أسلوب التجريد الذي يصل إلى حد اختصار الكلام عن التفاصيل الزمنية. إن الجملة الأولى في القصة تقول:
«دقت طبول الزفاف وطارت زغرودة إلى السماء».ثم هناك جملة زمنية ثانية تشير إلى وقت حدث قديم:«بدأنا العمل في يوم واحد بوكالة القللي».وثالثة تؤكد الأحداث القديمة ذاتها:«أحببنا ياسمين حب الجار للجارة في عام وحد».وأخيرا تُقفل الإشارات الزمنية بتفصيل مفتوح موغل في التعميم:«حتى انتبهت ذات يوم على خبر...»
والحق أن نجيب محفوظ كان قد علمنا في السابق التقنيات الجمالية التي تطرد احتمال «عدم اقتناع القارئ بـما يروى لـه»، فإذا بنا الآن نعاين الثغرات التصويرية التي تُرجع من جديد شبح ذلك الاحتمال السلبي.
في قصة «ليلة الزفاف»(ص131) قرئت كف طلعت الأردوازي فقيل لـه:
«من يد واحدة يسيل العسل والسم».
وتحقق بالفعل ذلك التناقض في حياة طلعت. فبعد موجة الفرح العارمة جاءت نظرة الكراهية وأقبلت الحيرة. بيد أن القارئ سيستشعر لا محالة ثغرة بين حدث الفقرة الأولى من القصة وهي تقدم الزمن والشخصية الرئيسة وسماتهما المميزة، وبين الفقرة الثانية التي تتحدث عن قراءة الطالع... ومثل هذه الثغرة الحدثية تؤكد ما سبق أن قلنا عن رغبة الراوي في «الاختصار». أقول «الاختصار» بدل التجريد الذي قد يتحقق في العمل الفني من دون أن يضرب عرض الحائط بالتفاصيل الواقعية أو التشخيصية مثلما الشأن في لوحات صالفا دور دالي التجريدية.
وهكذا يمكن أن نمضي بعيدا في تعداد مظاهر «الاختصار» ونماذج الثغرات التصويرية والرغبة في تجاوز التفاصيل إلى أن ننتهي بتشبيه المجموعة بما يعرف في فن التصوير «بالكروكيه» أو الرسم الأولي الذي لا يكاد يتجاوز الخطوط الأولى للعمل الفني وهو في حالة انتظار الخطوة الجمالية الثانية. وما من شك في وجود موانع صرفت نجيب محفوظ عن القيام بتلك الخطوة الثانية لعلها تقدم العمر والأسقام الكثيرة وعدم القدرة على الإمساك بالقلم وخفوت الطاقة اللازمة من أجل إتمام الصياغة. ولذلك كم تمنيت لو أن المبدع محمد جبريل قدم لنا معلومات توثيقية لنستنير بها في سبيل البحث عن التعليلات.
غيرأن عدم إتمام الصياغة والتصوير لا يجعل مجموعة «صدى النسيان» تخلو من تلك المسحات الجمالية التي تذكرنا بأجواء نجيب محفوظ الساحرة ورغبته القوية في «مغازلة» الجوهر قبل الاحتفاء بالأعراض. ففي عمق المجموعة فلسفة تصبو إلى أن تزيدنا إحساسا بـحالات الخير والشر الإنسانيين. فثمة ظلم، وعجز بشري عن صد الأذى، ورغبة دفينة في ممارسة الخير. لكن ثمة دائما عوائق تعرقل تلك الممارسة. بيد أن راوي نجيب محفوظ لا يتشاءم دوما مهما أمعن في تصوير العوائق. في قصة «حديقة الورد» تسود رغبة جماعية في السكوت عن جريمة قتل من أجل مصلحة معنوية عامة. وفي قصة «الهتاف» يرفض الأعمى الفقير المال الحرام الذي قدمه له الفتوة ثم يلعنه في وجهه. وفي قصة «الصعود إلى القمر» يتمسك رجل بالصورة القديمة لبيته على الرغم من تغير الزمن، وبعد أن يفلح المهندس في إعادة البيت إلى وضعه تنبعث الذكريات الماضية التي تحيي في أعماق الرجل نشوة الأمل. ثمة إذن أمل في المجموعة على الرغم من زواج الشيخ بالبنت الصغيرة، وعلى الرغم من إلحاح المومس في أن تظل مومسا، وعلى الرغم من تهديد الفتوة وابتزاز الانتهازي.
لكن نجيب محفوظ يدرك جيدا الصيغة السردية التي يجب أن تصور بها فكرة الأمل في الإبداع القصصي. وأخمّن أن النموذج العملي لتلك الصيغة ورد في خاتمة قصة «الصعود إلى القمر» نفسها بعد أن ظفر الرجل باسترجاع الوضع القديم للبيت، لكنه افتقد فيه أشياء وسمات يستحيل أن تعود كما هي، ومع ذلك لم يفقد أبدا الأمل في تلك العودة:
«وصحت فيمن يرافقني: «انظر» وأشرت إلى لون المساء الهابط على الحي من خلف القباب والمآذن. وطلع البدر في خيلاء من وراء البيوت العتيقة فتطلعت إليه بشغف. عند ذاك رفعت فوق الكتف وهمس لي الصوت الحنون: «خذه إن قدرت»، فمددت يدي بمنتهى الحب والأمل إلى البدر الساطع» (ص69).
تلك هي المسحة التصويرية التي تلخص إلى حد بعيد جانبا من العوالم المحفوظية التي تنطوي عليها هذه المجموعة. ولذلك تمنيت لو كان هذا الكتاب قد عنون بعنوان قصة «الصعود إلى القمر». غير أن الناس أذواق , و من الأدب احترام كل الأذواق.