الخميس ٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥
بقلم إبراهيم الداقوقي

محاورة الاخر ... ومساءلة الذات

عقد كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة للاديان في جامعة منوبة بتونس ندوته الاولى برعاية مؤسسة اديناور خلال 26 – 27 سبتمبر / ايلول الماضي ، تحت شعار ( محاورة الآخر ومساءلة الذات : الدين والاختلاف والحوار المسيحي الاسلامي ) شارك فيها النخبة الثقافية العربية : محمد اركون ( الاستاذ المتميز بجامعة السوربون ) ورضوان السيد ( رئيس تحرير مجلة الاجتهاد ومدير معهد التنمية العربي سابقا ) ومحمد مصطفى القباج ( المقرر العام للاكاديمية الملكية المغربية ) وابوبكر محمد باقادر ( استاذ علم الاجتماع المتميز بجامعة الملك عبدالعزيز ) واحميدة النيفر( الاستاذ المتميز بجامعة الزيتونة بتونس ) وسميرخليل سمير ( مدير مركز التوثيق والبحوث العربية – المسيحية – لبنان ) ومحمد الحداد ( رئيس كرسي للدراسات المقارنة للاديان في جامعة منوبة ) ومدار قسيس ( مدير جامعة بئر الزيت – فلسطين ) وعبدالجليل التميمي ( الاستاذ المتميز في الجامعة التونسية ورئيس مركز التميمي للابحاث والمعلومات ) وسالم الكواكبي ( حفيد الكواكبي الكبير والاستاذ في المعهد الفرنسي للشرق الادنى بحلب ) وابراهيم الداقوقي ( مدير المركز الاكاديمي للدراسات الاعلامية وتواصل الثقافات – فيينا ) مع مجموعة كبيرة من اساتذة الجامعات التونسية واللبنانية والمغربية . اضافة الى مجموعة متميزة من المستشرقين الغربيين : جوزيف مايلا ( عميد المعهد الكاثوليكي في باريس ) وولفرام رايس ( الاستاذ بجامعة روستوك – المانيا ، وهو يتقن العربية بطلاقة ) وجان فونتان ( مدير معهد الاداب العربية " ايبلا " بتونس ) وديرك انزوغ ( الاستاذ في اكاديمية وولفسبرغ – المانيا ) وهلموت رايفلد ( رئيس وحدة تنمية التعاون الدولي بمؤسسة كونراد اديناور - المانيا ) .

وقد افتتح كل من الكتور اوستري ، مسؤول برنامج مؤسسة اديناور في تونس والجزائر ، و الاستاذ الدكتور محمد الحداد الندوة بكلمة ترحيبية بالمشاركين مؤكدين على اهمية اقامة ندوات الحوار المسيحي - الاسلامي درءا لخطر الاصولية الدينية عليهما معا ، واضاف الدكتور حداد الى ذلك قائلا : من هنا فاننا عندما ندعو للحوار مع الاخر ، يجب ان نحاور انفسنا لمساءلة الذات عن كيفية اجراء حوار الند للند بالالتزام باخلاقياته ،البعيدة عن الافكار القبلية المسبقة ورفض الاخر . واضاف اليهما ، رضوان السيد – في كلمته - بان " الدين الاسلامي يتعرض اليوم الى اخطار كبيرة ، بسبب الاضرار الجسيمة التي الحقها المتشددون والانتحاريون به ، اذ اعطوا صورة عنيفة عن الاسلام ، ما عادت مكافحتها ممكنة ما دامت الاحداث والهجمات والانتحاريات مستمرة " . ومن هنا فقد دعا البروفيسور اركون – في مداخلته - الى ضرورة المواءمة بين اضلاع المثلث الانثروبولوجي الانساني ( الدين – التقدم – الاصلاح ) من خلال تبني ادوات فكرية فعالة لتنفيذ تلك المواءمة وللقضاء على الارهاب والعنف السياسي من خلال مراجعة قواعد واسس الثالوت الديني القائم ( العنف – الفكر المقدس – الاصلاح ) لان الحديث عن الاصلاح والحداثة ، لا يكفيان لمعالجة المشاكل القائمة " .

واذا كان الاستاذ باقادر قد ناقش في ورقته " أنواع المقاربات الشائعة الأستخدام بين المشتغلين يدراسه الإسلام من طرف الغربيين والدراساث والمقاربات التي قام بها مسلمون لمعرفة الحضارة الغربية والعمل على ابراز أهم القضايا المطووحة في هذا ا المجال سواء ما تعلق بالمواجهات الساخنة ( كالإرهاب والجهاد والأختلاف في المفاهيم الحضارية الأساسية ) والمواجهة الفكرية الباردة (حول موضعوعات كالمرأة والقانون والسياسة ونحو ذلك). ونستدل من المراجعات العامة التي قام بها جيرتس وإدوارد سعيد ومنصور المعدل وطلال أسد وتيرنر وهومو بايا واصحاب الخطاب ما بعد الكولونيالى وغيرهم ، كيف ان دراساتهم قد فتحث وئفتح مجالات جديدة مهمة لإعادة صياغة وفهم العلاقة المتأرجحة بين العالم لإسلامي والغربي ومن ثم ضرورة إستبدال الخطابات القائمة بأخرى اكثر توازنا وعدالة من أجل وجود مشترك وايجابي بين حضارتين متجاورتين تار يخيا .

وبحكم انتماء الاستاذ القباج للفكر العريى الأسلامى فإنه قد قدم الاطار الفكري الاسلامي للحوار " كنموذج لما بمكن أن يؤسس أخلاقأ للحوار بالاعتماد على مرجعيات متعددة قديمة وحديثة، معززأ ذلك بأمر فى غاية الأهمية هو أن الفكر العربى الإسلامي من خلال اشهر اعلامه ( ابن حزم- أبو حيان التوحيدى- الجاحظ- ابن رشد...) مثل أمامه الأخر المختلف كحقيقة واقعية، لذلك وجد هذا الفكر نفسه مضطرأ لتناول الشروط الخلقية للحوار مع هذا الأخر المختلف . واهم هذه الشروط هي :

 شرط المعرفة الصحيحة بالآخر .
 تمثل الآخر المختلف وتفهمه بدل إصدار الأحكام المسبقة عليه .
 تجاوز الظرفيات لتاسيس علاقات التعايش .
 التشبّث بمفاهيم نسبية الحقائق المؤسسة لمبادئ التعددية والتكامل
- توظيف ما هو مشترك دون المساس بما هو مختلف فيه .
 تجنب المفاخرات وإقصاء فكرة التراتبيية الحضارية .
 تحييد النزاعات التي لا ترى مصلحة في التفاهم يين الثقافات.

وتحدث المستشرقون عن قضايا الدين والاختلاف ، فتحدث جان فونتان عن فكرة ( تمجيد الاختلاف ) في الاديان المختلفة ، وهو الامر الذي يستدعي ضرورة اجراء الحوار المتوازن والموضوعي من اجل قبول الاخر او الاعتراف به وبحقوقه المشروعة . واستكمل ديرك انزوغ هذا الموضوع بالتاكيد على ان الكنيسة الكاثوليكية قد اعترفت بالاسلام كدين سماوي يشترك مع المسيحية في عبادة الاله الواحد ، من خلال " اعلان المجلس الكنسي الثاني للفاتيكان " . في حين تحدث هلموت رايفلد ، رئيس وحدة تنمية التعاون الدولي في مؤسسة كونراد اديناور بالمانيا ، عن الحوار بين الاديان والمصالح السياسية ودور التبادل في تجديد الفكرالديني وعرج على ضرورة تدريس الدين في اطار التسامح وعدم اقصاء الاخر . في حين انفرد ولفرام رايس بدراسة ( صورة المسيحية في الكتب المدرسية في الوطن العربي ) فاسهب في تحليل الصورة السلبية الواردة في تلك الكتب حول المسيحية ، المتأثرة بدور الاستعمار الغربي في تلك البلدان . غير اننا انتقدنا اسلوب بحثه لانه لم يتبع الاسلوب العلمي في دراسة صورة الاخر لدى الشعوب او الجماعات الاخرى ، لانه لم يضع فرضيات البحث لكي يقوم بتمحيص نتائج البحث وفق تلك الفرضيات . حيث كان يمكنه وضع اربع فرضيات حول دراسته – بعد ان اطلعنا عليها – هي : التسامح والتاثير الخارجي ودور الاستعمار الغربي في تكوين الصورة السلبية للمسيحية والفجوة الثقافية الموجودة بين الفكرين المسيحي والاسلامي .

وقد كان هذا النقد مدخلا لعرض مضمون ورقتنا حول الدين والاختلاف لدى الانماط الاسلامية المتعددة المتداولة اليوم في العالم : الاسلام السني والشيعي والتركي والعلوي والاوروبي والامريكي والاصولي المتشدد والمعتدل وغيرها . فاكدنا بان الاتحاد الاوروبي عندما دعا الى ضرورة اجراء الحوار مع الاسلام المعتدل انه كان لا يعني به الجماعات الاسلامية - التي تصفها الاوساط الغربية بالمتطرفة- وانما الموافقة على بدء حوار مع جماعات ذات توجه إسلامي معتدل في الشرق الأوسط - سواءا اكانت في الحكم ام المعارضة - للتعاون معها ... إذا ... من أين جاءت هذه التسميات غير العلمية والمتناقضة مع الإسلام الواحد: قرآنا وسنة وفقها؟!
نقول : اذا كان تنوع التيارات الإسلامية ومحاولة كل تيار تفسير وتأويل الأحداث والقضايا الفقهية وفق منطلقاته الفكرية مع مراعاة خصوصيات الأقوام المؤمنة بتلك التيارات الإسلامية هو السبب الرئيس لميلاد مثل هذه الاصطلاحات كالإسلام التركي الإصلاحي ، الذي يعد ثورة على الإدارة السياسية البيروقراطية التي مارسها السياسيون الماكيافيليون طيلة الأربعين عاما الماضية من عمر الجمهورية التركية من جهة، والتزام بإجراء الإصلاحات الجذرية في جميع مناحي الحياة من جهة أخرى .

ويمكننا تعريف مفهوم نمط الاسلام التركي ، بانه تيار التجديد الديني الذي يتخذ من العقل منارا وهاديا في قضايا الدين الاسلامي وتنفيذ شرائعه ، بالاعتماد على تجديد مفهوم التفسير وفق منطلقات العصر . وقد شرحته رئاسة الشؤون الدينية في بيانها الصادر عن مجمع المفتين في ختام اجتماعهم بتاريخ 13 يوليو/ تموز 2000 بالقول " انه نظرة جديدة للاسلام في اطار التجديد والحداثة من اجل فهم الاسلام على حقيقته ولتنفيذ شرائعه - اصولا وفروعا- باللغة التي يفهمها المؤمنون بها مع فتح باب الاجتهاد وتفسير القرآن ا لكريم - المصدر الرئيس للدين الاسلامي- وفق مفهوم العصر وفي ضوء متطلبات المجتمعات الاسلامية وفي اطار القيم الاسلامية في احترام حقوق الانسان وحرية العقيدة والوجدان وحماية حقوق المرأة وانقاذ الشباب من العادات والممارسات السيئة ، وحل مشاكل المجتمع بالحوار والتسامح باحترام اسلوب كل فرد في الحياة في اطار الديموقراطية مع الاعتراف بالرأي الآخر، واعادة النظر في كتب الفقه والحديث - كتب السنة ـ وتنقيتها من الشوائب والخرافات التي تتضمنها الاحاديث الموضوعة بوضع معجم فقهي جديد للمصطلحات مع محاولة توحيد دانرة الفتوى للتخلص من التفسيرات المختلفة وتناقضاتها ". ولذلك فقد علق الدكتور محمد نوري ييلماز، رئيس الشؤون الدينية، على البيان المذكور بالقول "لقد قدمنا للعالم نموذجا جديدا للاسلام المستنير القائم على العلم وحماية حقوق الانسان واحترام حقوق المرأة مع اخذ مستجدات العصر بنظر الاعتبار في تفسير القرآن الكريم بخطاب جديد ومقاربة حديثة مع روح العصر كمشروع وخيار حضاري للنهضة، في نموذج جديد نأمل ان يحتذى في العالم الاسلامي " ....

... ومن هنا ، فاننا تناولنا اشكاليات الدين والسياسة او العلاقة المتشابكة والمتداخلة بين السياسة والدين في اطار الاسلام الموصوف بالاعتدال والمقبول فكريا وممارسة وديموقراطية من قبل الغرب الديموقراطي الليبرالي ، في اطار مفهوم التوجه الديني الاسلامي التركي المعتدل ، ضمن الديموقراطية الاجتماعية الاوروبية ، بما يلي :
1 - انه اسلام غير مسيس ، في ايمان صادق يستلهم التصوف العرفاني حول وحدة الاديان الحنيفة ، باعتبار ان ابراهيم الحنيف كان خليل الله واباً للانبياء ، كما ورد في التوراة ( سفر التكوين 13 - 15 ) وانجيل متي ( 1: 1 ) والقران الكريم ( سور العنكبوت والنساء والبقرة وآل عمران) وان هذا التوجه يتناقض مع نظرية هنتنغتون في صراع الحضارات وحتمية نزاع الاديان .

2 - لا يؤمن بالتعصب والطائفية والعنف ، وانما بالتسامح والديموقراطية والحوار ، لان الحوار نقيض الحرب والعدوان ، والطائفية الغاء للوطنية وحقوق المواطنة الانسانية .

3 - يحاول ممارسة اصول الدين الاسلامي وفروعه وفق تعاليم القرآن والسنة النبوية ، البعيدتين عن الاجتهادات المتطرفة .

4 - يحترم طراز حياة واسلوب تفكير الاخر ، بعيدا عن تكفيره او اقصائه او محاولة الهيمنة عليه ، بناءا على قول الامام علي بن ابي طالب " ان القرآن حمالة اوجه " .

5 - يؤمن " بان الصحوة الدينية الحضارية لا تتحقق الا من خلال مزاوجة التقنية الغربية مع القيم الاسلامية ، وان هذه العملية يجب ان تتم من خلال التعليم لاعداد الكوادر الاسلامية المؤهلة التي تستطيع ان تتولى هذه المهمة بشكل تدريجي ومستمر" .

6 - يبرز الدين كعنصر من أهم ركائز الثقافة المعتدلة التي لاغني عنها في بناء المجتمع المتوازن : ‏تقوية علاقة الإنسان بربه‏,‏ وتحسين علاقاته بالاخر - من أتباع الديانات الأخري‏ - في حوار جاد وشفاف لتحسين الصورة والتفاهم واقامة العلاقات الانسانية لخير الجميع .

7 - احترام المرأة ومساواتها بالرجل من خلال منحها كافة حقوقها بحيث استطاعت ان ترقى الى منصب الافتاء العام في تركيا " فقد تم تعيين إمرأتين في منصب مساعد المفتي العام في كل من مدينتي انطاليا وقيصري بتركيا ، مما يزيد من فرصتهما في الترقي لنيل منصب المفتي مستقبلا " (الشرق الاوسط - العدد الصادر في 4/9/2005 ) .

8 - يسعى للتعرف علي ثقافات المجتمعات والشعوب الأخري‏.‏ لمعرفة جوانب الضعف والقصور فيها‏,‏ من اجل المقارنة وصولا لمعرفة مكانة ثقافته الحقيقية لممارسة التثاقف الخلاق بين ثقافات الشعوب في العالم‏.‏ لان الإسلام ثقافة اجتماعية، ذات أشكالات وآليات وأساليب تطوير متعددة ، ومنها " الاعتدال او الوسطية " الذي يسعى لحماية نفسه ضد الهيمنة والاستغلال والاستثمار بالتكوين التعبدي ، ليس من خلال الفكر الانتحاري والتكفيري وانما بالمشاركة في حركة الحياة والبناء بالتعاون والتعاطف مع الاخرين ..... مع ضرورة مقاومة السلطان الجائر بكل الوسائل المتاحة

9 - ياخذ بالجوانب الايجابية من العولمة ويتصدى للعولمة المتوحشة - التي تسعى للهيمنة ونشر الوصاية الفكرية - من خلال دعوته لمقاومة الهيمنة والاستعمار الجديد من خلال الكفاح والنضال ضمن منظمات المجتمع المدني بالمظاهرات واعلان العصيان المدني والاعتصامات وغيرها .

وقد استطاع اردوغان خلال السنتين الماضيتين من عمرحكومته التي تضم معظم اطياف المروحة السياسية التركية – عدا الشيوعيين والقوميين الشوفينيين – وكأنها حكومة وحدة وطنية ، تحقيق معظم برنامجه الاصلاحي في وقت قصير نسبياً منها: إلغاء عقوبة الإعدام، وحماية السجناء من التعذيب، وتعزيز حرية التعبير، والشفافية، ودولة القانون وإلغاء محاكم أمن الدولة والمحاكم الاستثنائية، والاعتراف بأولوية التشريعات الدولية على حساب القوانين الوطنية في مجالات حقوق الإنسان، واعتمادها بمثابة المرجعية بالنسبة للمحاكم التركية. كما عززت حكومة "أردوغان" سلطة البرلمان، وقوانين المساواة، ومراقبة نفقات القوات المسلحة، مثلما قلصت صلاحيات مجلس الأمن القومي. وأدى تقييد سلطات الجيش إلى خفض تأثيره في إدارة العلاقات الخارجية بخاصة مع اليونان حيث تمكنت الدبلوماسية التركية من القيام بدور إيجابي في حل أزمة جزيرة قبرص، ودخول الأخيرة عضوية الاتحاد الأوروبي في شهر مايو الماضي. وساعد رفع حالة الطوارئ في تمكين سكان أقاليم الجنوب الشرقي من ممارسة الحريات الأساسية علاوة على تحسين مستوى حياة الأكراد ، مع رفع سقف الحريات التي يتمتعون بها – لاول مرة – في تركيا . وقد ادى هذا التناغم السياسي وتعاون الاسلاميين – المعتدلين – مع العلمانيين المدنيين والعسكريين المعتدلين ، الذين لا يرفضون ولا يحاولون اقصاء الآخر ، الى ميلاد ( نموذج الاسلام التركي ) الديموقراطي الاصلاحي والحداثي .

وقد ولد نمط الاسلام التركي المعتدل نتيجة تفاعل اربع حقائق اساسية– في الواقع التركي – خلال العقد الاخير من القرن العشرين ، هي :

اولا – الحقيقة التاريخية القائمة على الثورات الكمالية ( 1924 – 1932 ) التي ارست اسس الاصلاح الاجتماعي في تركيا العلمانية وفق التوليفة الكمالية : الاسلام – القوميةالمعتدلة – الحداثة ، ونصب جنرالات الجيش الخمسة - العلمانيون المتعصبون والرافضون للاخر - انفسهم حماة للفكرة الكمالية ، وادى تدخلهم في السياسة بوقف المسيرة الديموقراطية الوليدة في تركيا - مرات عديدة - نتيجة انقلاباتهم العسكرية.

ثانيا – الحقيقة السياسية القائمة – بعد الحرب العالمية الثانية – على التعددية السياسية الورقية ، ثم على التعددية الاجتماعية – السياسية بعد انقلاب 27 مايو / ايار 1960 العسكري واخيرا على التعددية الديموقراطية بعد تولي طورغوت اوزال لرئاسة الجمهورية (1990 – 1993 ) كأول رئيس جمهورية ذي اتجاه اسلامي في تركيا العلمانية ، يؤدي فريضة الحج ويدفع بالجمهورية التركية للانتماء الى منظمة المؤتمر الاسلامي .

ثالثا – ردود فعل منظمات المجتمع المدني التركي الغاضبة والعنيفة ، ضد الانقلاب العسكري الابيض الذي قاده قائد القوات البحرية الجنرال غوان – وهو احد الجنرالات الخمسة الذين كانوا يؤلفون الحكومة الخفية المسيطرة على كل شئ في تركيا – عندما طالب رئيس الوزراء المنتخب نجم الدين اربكان ، في مجلس الامن القومي في اجتماعه المؤرخ 28/2/1997 " بضرورة القضاء على الرجعية التي ذرت بقرنها في البلاد والتي تعمل علنا للقضاء على العلمانية والثورات الكمالية من خلال دعوة شيوخ الجماعات الاسلامية الى طعام الافطار في مجلس الوزراء وغض الحكومة النظر عن النشاط الرجعي - أي النهوض الاسلامي المستنير - في البلاد وسماحها بفتح مدارس الائمة والخطباء ودورات تدريس القران في طول البلاد وعرضها " وإلا فان القوات المسلحة التركية – حامية النظام العلماني والديموقراطية الكمالية – ستتحرك لوضع الامور في نصابها . وكان المدعي العام الجمهوري ( وورال صاواش ) قد اقام - منذ تولي اربكان للحكم - دعوى امام محكمة الدستور لغلق حزب الرفاه بتهمة " الترويج لاقامة الجمهورية الاسلامية على غرار الجمهورية الاسلامية الايرانية ، في تركيا من خلال خطب زعماء الحزب " . وقد اصدرت محكمة الدستور قرارها باغلاق الحزب ، ورئيسه – لا يزال - في الحكم ، فاضطر اربكان – امام جميع هذه الضغوط - الى تقديم استقالة حكومته الى رئيس الجمهورية في حزيران 1997 .

لكن تسييس الاصولية العلمانية العسكرية – التي ترفض الراي الاخر رغم الديموقراطية التعددية المعترف بها دستوريا – للسلطة القضائية ، من اجل ضرب الخصوم ، وانتهاكها لحقوق الانسان التركي - الذي انتخب حزب الرفاه بالاكثرية النسبية بحيث فاز رئيسه ( اربكان ) برئاسة الوزارة - وعدم احترامها لخيارات الآخر ، قد أحدث شرخا في وجدان الراي العام التركي ، ورد فعل غاضب لدى الاغلبية الديموقراطية الليبرالية ، مما دفعهما الى مساندة حزب العدالة والتنمية في انتخابات عام 2002 ليس للفوز بالاكثرية النسبية – مثل الرفاه – فحسب ، وانما للفوز بالاكثرية المطلقة التي حملت رئيسه ( رجب طيب اردوغان ) ذي الاتجاه الاسلامي المعتدل ، الى سدة الحكم ، ودون الحاجة للائتلاف مع الاحزاب الاخرى .

رابعا – ظهورالاسلاموفوبيا الذي يتلظى بنارها الغرب الديموقراطي الليبرالي – لاسيما الولايات المتحدة الاميركية – اليوم ، نتيجة سيطرة حليفتها السابقة ( منظمة القاعدة ) على مقاليد الامور في افغانستان ، واتخاذها قاعدة لتهديد انظمة الحكم العربية والاسلامية باتهامها بالمروق عن الاسلام ... ووصم الدول الغربية الديموقراطية الليبرالية بالكفر والالحاد واعلانها – أي القاعدة - الحرب على الجميع . وقد ادت احداث 11سبتمبر الارهابية – التي ركب ابن لادن موجتها – الى موجة من الهلع والرعب ، نتيجة الخوف من العمليات الارهابية المماثلة بعد اتهام الادارة الاميركية الجديدة بزعامة المحافظين الجدد ( الحكومة الخفية ) المسيطرة على مقاليد الامور في واشنطن ، للعرب والمسلمين برعاية وتمويل الارهاب الاصولي ( منظمة القاعدة ) واعلان الرئيس بوش الابن للحرب الاستباقية ضد افغانستان ثم احتلاله – مع حلفائه – للعراق ومحاولاته في تغيير وجه الشرق الاوسط الكبير الممتد من نواكشوط غربا الى حدود الصين الشعبية شرقا ، بقوة السلاح وباعلان حرب الافكار ضد المناوئين للهيمنة الاميركية ومعاييرها المزدوجة لاذلال الشعوب .

وقد ادى هذا التهديد المزدوج البوشي – الابن لادني ، الى ارخاء القابضين على الحكم في العالمين العربي والاسلامي ... من قبضتهم على اعناق شعوبهم ، فتعالت مطالبات الاصلاح والديموقراطية والشفافية والتصالح الاجتماعي في معظم اقطار العالمين المذكورين من جهة ، كما سرت موجة من التسامح الفكري مع الاخر المعارض او المغرد خارج السرب ، وقويت شكيمة المجتمع المدني – في تلك البلدان – في التعبير الديموقراطي فكان التكيف السياسي – الاجتماعي لتقريب وجهات النظر حول القضايا العامة والمصيرية التي تشغل بال الراي العام في معظم تلك البلدان ، من جهة اخرى .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى