محمود الغيطاني يستفز تناقضات "كائن العزلة" ليروي الصخب والحب وسحر الأمكنة في سوداوية الغربة
ما زالت الرواية العربية الحديثة تدور في فلك الواقع المتأزم الذي يعيشه الإنسان العربي، بدءا من الشعور بالهزيمة والمعاناة من القمع الاجتماعي والسياسي ومرورا بالتأزم الاقتصادي وغربة المثقف وانهيار القيم والجمالية في مجتمعات تتشرذم هوياتها ما بين عولمة الأفكار والأنماط وما بين رد الفعل العكسي من رجوع سلفي إلى الدين ونشوء تيارات أصولية تمارس القمع ذاته على نفسها وعلى مجتمعاتها. فمن غادة السمان إلى صنع الله ابراهيم وعبد الرحمن منيف وغيرهم من الروائيين العرب، نتلمس تلك الغربة الموحشة التي تعيشها شخوص رواياتهم في مجتمعاتها، حتى شكل هذا نمطا للرواية العربية المغرقة في ذوات شخصياتها المرهقة بتدهور واقعها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي.
هل هي الهزيمة مستفحلة إلى تلك الدرجة حتى لا تجد الرواية العربية غير انعكاس الواقع على إنسانها نمطا لها من الكتابة؟ أم هي غربة المثقف العربي ذاتها التي تسيطر على إنتاجه الأدبي والابداعي؟ أليس بمقدور الأدب عامة والرواية خاصة الخروج عن الدوائر التي تطوقها وتقوم بحصار هذا الواقع في مدارات أوسع منه وتحلق به صوب التغيير، محققة في ذلك فعلا ما نسميه بالعلاقة التبادلية ما بين الواقع والفن؟
تلك مقدمة رأيتها مناسبة للدخول في مضامين رواية "كائن العزلة" والتي صدرت حديثا للروائي والقاص والناقد المصري الشاب محمود الغيطاني. الغيطاني في روايته الأولى يقدم نموذجا لشخصية ليست غريبة علينا في الرواية العربية، شخصية رافضة لواقعها بكل تجلياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، تختار العزلة وتستعيض عن علاقاتها بمجتمعها علائق مع ذاتها مما يغرقها في الأوهام ويوصلها إلى حافة الانهيار والجنون.
إذا ما الجديد الذي تقدمه رواية "كائن العزلة" للقارئ العربي ما دامت شخصيتها الأساس، متجليا ذلك في عنوان الرواية "كائن العزلة"، هي الشخصية النمطية التي اعتدنا عليها في الرواية العربية؟ وهل نجح الغيطاني كروائي من الجيل الجديد في الإضافة إلى التراكم الذي خلفه الجيل الروائي السابق في هذا النمط في الرواية العربية؟
لعل أكثر ما يلفت النظر في رواية "كائن العزلة" كثافة الخيوط التي تقدمها للقارئ ليتلمس صخب عوالمها، فإذا قلنا أن كائن العزلة هو بطل الرواية والشخصية المسيطرة فيها، تظهر "لينا" كنموذج أكثر سيطرة وأكثر تفجرا من كائن العزلة ذاته، بل هي المسيطر على كائن العزلة نفسه وعلى العمل الروائي من أوله إلى آخره. محور ثالث يتجلى خيطا آخر مهما في الرواية، وهو المكان بأبعاد ثلاثة: بشاعة حاضره وجمال ماضيه والسفر فيه بين الزمنين، كتعبير عن الرفض لبشاعة الحضر والتوق إلى الجمال الذي كان. أما الواقع المهزوم فيسيطر على الرواية ليهزمها وأبطالها في كل فصولها. وأخيرا لعل قارئ الرواية يخيل له أن "كائن العزلة" رواية متفجرة بالجنس، وأن جنسانيتها تطغى على عوالمها الأخرى، غير أن النجاة من هذا الفخ تتحقق في تأمل أبعاد الجنس في الرواية، وأنه في النهاية يفسر سوداوية شخصيتها المغرقة في العزلة والمتعلقة بخيط بقاء ومعنى للوجود في ذات الوقت.
رغم أن عرضا سريعا لأي رواية يلحق بها ظلما كبيرا، واشد ما تنطبق الحالة على رواية "كائن العزلة" باعتبارها رواية تمارس إغوائها من خلال تأملاتها أكثر من أحداثها، إلا أني أرى أن هذا العرض يبقى ضروريا إذا ما أردنا قراءة هذا العمل الروائي، حيث سأقدم عرضا ليس بريئا من الاستناد الذي افترضه في تنوع خيوط وعوالم رواية "كائن العزلة" التي تقدم للقارئ اكثر من سطح يغوص فيه ليكتشف أبعاد وعمق العلائق بين عوالمها.
قسمت الرواية إلى ستة أقسام اختار لها كاتبها عناوين فرعية عوضا عن الترقيم أو الفصول، في الجزء الأول من الرواية المعنون بـ "غسق التأودات" يبدأ الراوي بضمير المتكلم وهو في نفس الوقت الشخصية الأساسية في الرواية بإدخال القارئ الى عالم تلك الشخصية المنعزلة في فراغ، ذاكرتها بيضاء عاجزة عن تذكر أي شيء من ماضيها، يظهر صوت أنثوي حاد ليستفز في كائن العزلة التذكر والحياة، فيقوم بالاتصال بصديقته لينا ويطلب منها الحضور لحاجته إليها. في الجزء الثاني "لينا" يذهب الراوي إلى استرجاع قصة تعرفه بلينا، الفتاة المثقفة والجميلة والتي أسرته بجمالها وثقافتها وجرأتها، وهنا يظهر "البعلي" الصديق القديم والوحيد لكائن العزلة، والذي يحاول دوما تحذيره من عزلته التي ستؤدي به إلى مزيد من الانهيار وهو السبب بتعرفه بلينا. في "شطحات لحظية" يعود زمن الرواية الحاضر فتأتي لينا كما طلب منها كائنها ويتخلل لقاؤهما كالعادة الكثير من النقاشات والجدل حول الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في مصر والبلدان العربية. في الجزء الرابع من الرواية "توق" يتحقق توق كائن العزلة في الانسلاخ عن عالمه فيسافر في الزمن الى القاهرة القديمة ليبهره جمالها العمراني والإنساني بصحبة عجوز يشبهه ويعيش في كل الأزمان ويعرف تقلباتها. "اكسلسيور" وهو اسم لمقهى مشهور في القاهرة حيث يلتقي كائن العزلة بلينا في حالة ذهول وتساؤل عن كل الأشياء، في "الهزيع الأخير" من الرواية تتكشف لكائن العزلة حقيقة أن لينا لم تكن موجودة في حياته.
إذاً هي رواية تقدم للقارئ اكثر من مدخول ليتلمس موسيقاها المغرقة في العزلة والصخب الحياتي في آن، فإذا خرج كائن العزلة ليمسك بيد قارئه العربي فبالتأكيد سينساق هذا القارئ بدءا من السطور الأولى، طوعا وراء عوالمه المتناقضة والمتدرجة ألوانها ما بين سوداوية تخيم على مدرات تلك الشخصية فلم تعد ترى غيرها لونا او حسا بالحياة، الى حمرة متوهجة في الرغبة الجنسية والعشق والانبهار بامرأة مختلفة تسيطر على الرواية من أولها إلى آخرها، هذا النقيض والتواتر في نفس الوقت بين قتامة الأسود ووهج الأحمر في رواية الغيطاني يسمعنا عزفا مألوفا وحزينا وموغلا في أعماق الذات البشرية الباحثة أبدا عن معنى لوجودها، كافرة بكل الأشياء وحتى فاقدة الإيمان بذاتها المضطربة.
ولا نستطيع الغوص اكثر في أعماق كائن العزلة دون لينا، فلينا هي يقين الرواية الوحيد، هي إيمان كائن العزلة وملجأه الدافئ حيث يتوحد مع امرأة هي الأم والحبيبة والرفيقة في الوحدة، بالفعل لقد توحد كائن العزلة مع ليناه لدرجة أصبحت فيها لينا هي الشخصية المسيطرة على الرواية حتى تكاد تشعر أن الرواية أحرى أن تسمى "لينا"، فهي شبيهة كائن العزلة ونقيضه في آن، وهي البديل الذي يقدمه عن ذاته السلبية والرافضة لكل شيء والتي اختارت الانقطاع عن عالمها والتوحد مع ذاتها. ومن خلال نموذج لينا يقدم لنا كائن العزلة نموذجا للمرأة التي يريدها، ولنكون اكثر دقة نموذجا للمرأة التي آن لها أن تكون، هي الساحرة بجمالها الصاخب بثقافة جادة وانثوية تفرض حضورها بأخذ مكانها في مجتمعها الذي يطوقها، ترفضه وتتعاطى معه في آن، تحاول رسم صورتها وأخذ مكانها في الاعراب المجتمعي رغم ما تطوق به من حصار خانق كامرأة.
ثغرة ربما نلحظها في شخصية لينا، فهي الجريئة والمترجمة والمبدعة والمبادرة في ممارسة العشق دوما مع كائنها الا أنها تفاجئنا في منتصف الرواية تقريبا، وعندما يسألها كائن العزلة عن الطريقة التي فضت بها عذريتها، تفاجئنا لينا بأنها لم تقم علاقة جنسية من قبل، وان اول علاقة من هذا النوع تقيمها مع كائن العزلة ذاته، وتلك ثغرة نراها إذا ما قمنا باستقراء لشخصية لينا، فهي امرأة صقلتها تجارب الحياة المتنوعة، فهل من الممكن أن تكون امرأة على هذا المستوى من الخبرة الثقافية والحياتية والجنسية لم تقم علاقات من قبل، قد نقول أن للمرء طاقتها المدفونة وخبرته الدفينة في أعماقها والتي ربما يمارسها في خياله أو يقتنص الفرصة ليفجرها، وهكذا كانت لينا بالفعل، شخصية متفجرة بكل ما فيها بجمالها وثقافتها وممارستها العشق مع كائنها، وحتى في ردود أفعالها فهي امرأة لا تقبل الإهانة أو الحلول الوسط وتستطيع بسهولة تجاوز عشقها فيما لو جُرحت أنوثتها أو كبرياؤها أو حتى عندما لا تتضح الرؤيا في علاقتها. وهذا ما حدث بالضبط مع كائن العزلة الذي اختفت من حياته لينا في نهاية الرواية بعد أن يصارحها بأنه لا يدري إن كان يحبها أو يحتاجها فقط. سأعود لتلك النقطة، أي رد فعل لينا، لكن بعد استكمال رسم تلك الشخصية في الرواية، حيث ان مرد الثغرة التي أراها في الشخصية ليس سببه الشخصية ذاتها، فهي شخصية متوهمة منطقيا، أي أنها شخصية ليست من صنع الروائي بل من صنع الراوي "كائن العزلة"، يتكشف لنا هذا بعد أن نعرف أن البطل ـ كائن العزلة هو شخصية انتهت بها عزلتها إلى رسم عوالم وشخوص وهمية في حياتها، تقيم معها علاقات تؤثر وتتأثر بها. كائن العزلة المضطرب والمتناقض رسم شخصية للمرأة التي يريدها، هذا صحيح، ولكنه وفي خضم تأزمه مع ذاته لم يفلح في الخروج عن ذكوريته والتي تعد جزءا ما يرفضه في مجتمعه، فأراد للينا ان تكون امرأه لم يمسها من قبله أحد قط. وهو يعترف صراحة لذاته حين يقول : " أطرح على نفسي السؤال مندهشا، بالفعل ما أهمية ذلك بالنسبة لي؟ هل سيحدث تغييرا ما؟ وما الذي جاء بهذا التفكير اللعين إلى رأسي؟ أهي فعلا طريقتها ذات الدربة الخاصة في الممارسة هي التي دفعتني إلى مثل هذا التساؤل أم أنها رغبتي الدائمة في معرفة البدايات؟ أرد متحيرا:
– بالتأكيد أنت تعرفين جيدا أني لا أفكر كهؤلاء المحيطين بنا، ولكني في ذات الوقت لست أدري سببا لمثل هذا التساؤل الذي ورد على ذهني فجأة فسألته."
واستنادا لهذا التناقض الذي يعتمل في ذات كائن العزلة، الذي لا يدري سببا لتساؤله عن دافعه في طرح السؤال، نستطيع أن نفسر هذا التشويه الذي تعمده الراوي في شخصية لينا، لتكون امرأة متجاوزة للكثير من المراحل ولكنها عذراء، بمعنى لم تمارس الجنس من قبل، في نفس الوقت، ولكنها تبدأ بممارسته مع كائن العزلة ذاته. ونستطيع أيضا أن نذهب إلى ما هو أبعد من هذا ومتعلق بتلك الذات الرافضة لكل شيء، لتتكشف لنا حقيقة ان كائن العزلة هو شخصية رافضة بالأساس لذاتها، وما رفضها للواقع إلا لأنه يضع نصب عينيها تلك الحقيقة، حقيقة أنها جزء منه وتحمل في أعماقها تراكمات من أوساخ تخلفها بشاعة الواقع.
ومن شخصيتي كائن العزلة ولينا ننتقل إلى خيط آخر مهم في الرواية بالضرورة ليس منفصلا عن كلتا الشخصيتين، وهو طبيعة العلاقة التي صورها الكاتب في الرواية، حيث إلى جانب الجدل الذي يدور بينهما حول واقعهما المهزوم وما يحمله من قضايا كالقضية الفلسطينية والعراق وغيرهما، يظهر الجنس بمشاهد حميمة ومتفجرة وكأنه اللون الأكثر توهجا في الرواية، وهو كذلك لكن ليس من منظور سطحي، إذ جاءت تلك المشاهد بتفاصيلها المغرقة في الصخب والعزلة في آن، كمكمل مهم للبعد الذاتي الجواني لشخصية كائن العزلة، الشخصية التي أعيد إليها جزء من ذاكرتها وتفاصيل حياتها حال سماعها صوت أنثوي لامرأة مجهولة في السطور الأولى من الرواية، هذا الصوت هو الذي يحثها على تذكر لينا والاتصال بها ومن ثم تبدأ أحداث الرواية.
إذا لم يحاول الغيطاني تقديم رواية جريئة جنسيا أو استخدام "الجنس" كعنصر تشويق أو كلون متوهج في الرواية، لا يبدو هذا هو الهدف إذا ما تأملنا كائن العزلة كإنسان مقهور على كافة مستويات حياته التي تظهر فيها المرأة ولو بصوت لتعيد إليه الحياة، ولتعطيه معنى للوجود.
غير أن الأمر لا يتوقف عند مجرد امرأة، سواء حقيقة أم متخيلة ظهرت في حياة كائن العزلة البائسة، يمارس معها الحياة من خلال ممارستهما العشق، وفي هذا يقول كائن العزلة في الصفحة 58 "أذكر أن أحدهم قال إنه في حالات الانكسار القومي والحروب الطويلة يلجأ الإنسان إلى التغلب على تلك الحالة بالانغماس في ممارسة الجنس، والإحصائيات التي تجري في مثل هذا الأوقات تدل على أن أعداد المواليد تتزايد بأشكال كبيرة في هذا المراحل البغيضة من عمر الإنسان". لكن اضطراب كائن العزلة لا يقف حد ذلك البعد الإنساني، بل إن الأسئلة الكبيرة التي تخلفها الهزائم حفرت عميقا في تلك الذات الإنسانية، إلى حد جعلها ترفض كل الأشياء من حولها، حتى لينا التي يرى فيها "وجه الله" فإنه في مكان آخر من الرواية سيرى فيها شيطانا يصر على النبش في الماضي وتقليب الأوجاع، إذا فمشكلة كائن العزلة ليست امرأة تعيد إليه الحياة، لأن ألم الواقع أكبر بكثير من مجرد الانغماس في حب أو ممارسة جنس، وفي هذا فإن كائن العزلة وفي أكثر من موقع في الرواية يظهر لنا حيرته في علاقته مع لينا التي تصر دوما على قول "أحبك" بالرغم من انه لم يقلها لها يوما، فهو لا يدري ما هي طبيعة علاقته مع لينا أهي حب أم مجرد احتياج تصوره له ذاته المنعزلة والمغرقة في الغربة. وحيرة كائن العزلة تنقل إلينا كقراء العدوى لنحتار في علاقته مع لينا، فهو يظهر كمن يقدسها تارة، وتارة يظهر كشخص حاصرته عزلته التي اختارها فلجأ لامرأة تؤنس غربته، ولكن حقيقة أن لينا لم تكن موجودة، تفسر لنا أن كائن العزلة شخص عارف لذاته جيدا، وهي ذات إنسانية عجزت عن حب لينا ليس لأمر في لينا، بل ببساطة لأنها عاجزة عن الحياة، وليست مستعدة للحب أصلا، أو بالأحرى هي عاجزة عنه.
يتجلى استمرار الشعور بعدم الأمان والرفض لدى كائن العزلة حينما تنقطع العلاقة مع لينا والحاضر في فصل "توق" ليذهب في رحلة عبر الزمن إلى القاهرة بصحبة عجوز ظهر فجأة، لتسافر بنا الرواية في الجمال القاهري الذي كان، يمر بنفس أمكنة اليوم ولكن يراها كما كانت بالأمس بشوارعها ومقاهيها وعظمائها وحتى بأسمائها القديمة.
إن سحر الأمكنة القديمة التي يسافر فيها كائن العزلة تظهر كانعكاس توق إنسان اليوم إلى الجمال الذي شوهته أنماط العولمة وثقافة الاستهلاك، حيث تظهر الصورة النقيض لسحر أمكنة الأمس في صورة الحاضر البشع بأمكنته وأناسه ومثقفيه المشوهين. غير أن الحلم لا بد من أن ينتهي، ليعود الواقع فجأة ليصطدم ببشاعته كائن العزلة مرة أخرى، يصارح لينا أخيرا بعد معرفته لكنه علاقته بها، فتتركه بلا رجعة.
مرة أخرى لا يبقى حد الأثر التي تركته الهزيمة في البعد النفسي لدى كائن العزلة عند هذا الحد، بل تتخطاها إلى حد اكتشاف تلك الذات لحقائق أخرى تصدمها اهمها أن لينا شخص ليس له وجود، حتى البعلي "الصديق الوحيد لكائن العزلة ينكر أنه عرفه بامرأة اسمها لينا، وما بين الشعور بمؤامرة عامة واضطراب المشاعر وانعدام الرؤيا ينهي كائن العزلة روايته بخطى يصوبها نحو "اللاجهة".
إن كلمة الراوي الأخيرة "اللاجهة" تأسرنا في عالم كائن العزلة الفاقد بوصلته في كل فصول روايته، هو يرفض الواقع وينقد المجتمع ورجال السياسة والمثقفين المهزومين، لدرجة جعلته هو نفسه فاقد الاتجاه كواقعه ومجتمعه، كيف لا وهو جزء من هذا الواقع وفرد من هذا المجتمع وواحد من مثقفيه المهزومين، وهو نفسه يدرك ذاته المريضة بعزلتها واوهامها، إلا أن نقطة من نور تبقى في سوداوية كائن العزلة الذي يصر ان لينا حقيقية وستظهر مرة أخرى، أي ما زال هناك شعاع من نور يصر على الحياة فيعطي معنى للبقاء.
أخيرا، لقد نجح الغيطاني فعلا في تنويع عوالم متضاربة وتقديم خيوط تنشأ جماليتها من تناقضاتها مع الإبقاء على تماسك العمل الروائي، مما يعد بحد ذاته عمقا لا ينتهي البحث فيه في تلك الرواية، التي يبدو للوهلة الأولى أنها رواية سهلة ومألوفة، إلا أن اقنعتها الهشة تلك تسقط من خلال التأمل الهادئ والعميق في عوالمها.
تم نشر هذا المقال في الحياة الثقافية ـ الحياة الجديدة في 5 كانون الثاني (يناير) 2006