الجمعة ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم جميل حمداوي

مدارس المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف

تمهيــــد:

عرف المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف منذ انطلاقه في السبعينيات من القرن العشرين إلى يومنا هذا مجموعة من المدارس المسرحية والاتجاهات الفنية المختلفة في المضامين والأشكال والمشارب والتطلعات والرؤى للعالم، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى تطور المسرح الأمازيغي الريفي ونموه بشكل إيجابي مثمر. ويعود هذا التعدد في الحركات والاتجاهات المسرحية إلى تأثر المسرح الأمازيغي بنظريات المسرح العربي ومدارس المسرح الغربي. إذا، ما هي أهم الاتجاهات والمدارس الفنية في المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف؟ وماهي القضايا التي تناولها هذا المسرح؟ وماهي خصوصياته الفنية والشكلية والجمالية؟

أ- القضايا الدلالية والموضوعية:

تناول المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف طوال وجوده عدة قضايا دلالية يمكن حصرها في المواضيع التالية: الهوية، والهجرة، والصراع الطبقي، وتاريخ الكينونة الأمازيغية، والمقاومة، والحب الرومانسي، والتشبث بالأرض، والتغني بأمجاد الأبطال الأمازيغيين، وتوظيف الذاكرة والتراث، ونقد الواقع الموبوء أخلاقيا والمهترىء قيميا، وتناول المواضيع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والوطنية والقومية والحضارية والإنسانية، ورصد معاناة الإنسان الأمازيغي وألمه السيزيفي في صراعه مع الذات المنهارة ومحيطه الموضوعي المشيإ، والتنديد ببشاعة الاستغلال، وزيف الانتخابات، وقمع السلطة الحاكمة، وانتقاد البيروقراطية الفاسدة، ومعالجة القضايا الميتافيزيقية المتعلقة بالأسطورة وعبث الإنسان ومصيره الأنطولوجي، وتناول إشكالية المسرح ووظيفته في الحياة ضمن اتجاه الميتامسرح أو ما يسمى بالمسرح داخل المسرح.

ب- المميزات الفنية والجمالية:

يتأرجح المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف بين مواصفات المسرح الأرسطي كما عند فخر الدين العمراني وفؤاد أزروال وفاروق أزنابط في عروضهم المسرحية الكلاسيكية، وآليات المسرح التجريبي كما في عروض شعيب المسعودي، وسعيد المرسي، ومحمد بنعيسى، ومحمد بنسعيد، وعبد الواحد الزوكي.

وقد استعان المسرح الأمازيغي بمجموعة من التقنيات الدرامية كاستعمال الراوي، وتكسير الجدار الرابع، واستعمال البيوميكانيك،وتوظيف المسرح الفقير، واستثمار آليات المسرح الأنتروبولوجي، وتشغيل الكوليغرافيا، وتنويع الأزياء، والانتقال فنيا من سينوغرافيا فارغة وسينوغرافيا واقعية باروكية إلى سينوغرافيا تجريدية رمزية.

وقد اعتمد هذا المسرح على الفرجة الشعبية الاحتفالية من خلال توظيف الأشكال الفرجوية الفطرية، واللجوء إلى الميتامسرح والسينما في تشكيل المشاهد واللوحات الدرامية كما يبدو ذلك جليا في مسرحية " ثاسيرث/ الطاحونة" لسعيد المرسي، والاتكاء على نظريات بريخت وبيسكاتور وبيتر فايس في استعمال الكولاج وتقنية التغريب وتسييس المسرح، وتنويع اللغة الأمازيغية وسجلاتها التواصلية تمزيغا واقتباسا وترجمة، والتوفيق بين المواقف الكوميدية والتراجيدية، والاستعانة بالباروديا وخطاب السخرية والكاريكاتير لتعرية الواقع وانتقاده. كما استغل هذا المسرح تناصيا الذاكرة المسرحية القديمة والحديثة، وشغّل الأغاني الشعبية والمعاصرة والأناشيد بطريقة مباشرة أو عبر التسجيل بالصدى واستعملت في هذا المسرح أيضا تقنية الميم والبانتوميم مع تنويع الإضاءة والماكياج بشكل سيميائي، وتوظيف الأضواء التموجية للتعبير عن الحالات النفسية والصراع الدرامي فوق الركح.

ج- المدارس المسرحية والاتجاهات الفنية:

يتميز المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف بتمثله لعدة مدارس واتجاهات فنية على غرار المسرح المغربي والمسرح العربي على حد سواء متأثرا في ذلك بالمدارس الأوربية تنظيرا وتدريبا وتطبيقا. ومن هذه المدارس والاتجاهات الدرامية التي يتكئ عليها المسرح الأمازيغي الريفي نذكر ما يلي:

1- الاتجاه الفطري:

عرف الإنسان الأمازيغي مجموعة من الأشكال المسرحية الفطرية أو الأشكال الفرجوية الشعبية أو ما يسمى بالظواهر المسرحية قبل ظهور المسرح الأمازيغي بشكله المؤسساتي المقنن كباشيخ، وءورار، وءيمدقان، وثاسريث ءوكشوظ، وقنوفار، وشارح ماجاح، وحناثامزا، وثاسريث، وثيخامين، ,وءاقلوز، ولابويا، وشظيح ذ- ءاركاز، وءاواث ءايانزار، وهلالارو، وءيمذيازان، وسبحاينوخالق،....

وتعد هذه الأشكال المسرحية الاحتفالية مصدرا دراميا غنيا بالإيحاءات الفكلورية والإحالات الأنتروبولوجية بالنسبة للكثير من العروض المسرحية الأمازيغية بمنطقة الريف على مستوى الاستنساخ التناصي وتوظيف الذاكرة الشعبية واستثمار الألعاب والظواهر الموروثة فنيا ومسرحيا.

وتعد مسرحية " ءاقلوز " للويزا بوستطاش من أهم التجارب الإبداعية التي تمثل الاتجاه الفطري الاحتفالي، وقد عرضت المسرحية بقاعة نيابة التعليم بالناظور في شهر مارس 2007م بمناسبة عيد المرأة. واستعرضت لويزا بوستاش في أكثر من ساعتين مختلف أزياء النساء الريفيات في قالب احتفالي درامي ممزوج بالرقص والفلكلور والموروث الغنائي الأمازيغي الشعبي.

2- الاتجاه الفكاهي الشعبي:

من المعلوم أن المسرح الأمازيغي بدأ مسيرته التجنيسية بمنطقة الريف بتوظيف مواقف درامية شعبية ساخرة واسكيتشات فكاهية ضاحكة تنتقد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي تعج بها منطقة الريف.

ومن أهم المخرجين الذين أسسوا المسرح الشعبي الهزلي نذكر فؤاد أزروال الذي ألف وأخرج مجموعة من المسرحيات التي تعتمد على التهجين اللغوي والباروديا والمواقف الساخرة، وتشغيل الفكاهة الشعبية والكوميديا العابثة والاستعانة بالهزليات المؤثرة على الجمهور. وإن كانت هذه المسرحيات الفكاهية طافحة باللوحات المأساوية التراجيدية التي تتسم بجدية الطرح وصدق المعالجة الدرامية.

ومن هذه العروض الكوميدية: " علال ذاك- ليمان/ علال في ألمانيا"، و"بوسحاسح/ الكذاب"، و"ءامزروض ذي ربحار/ الفقير في البحر"، ومسرحية"ءاغيور ءينو ءيعيزان/حماري العزيز" التي اقتبسها المخرج فؤاد أزروال من مسرحية توفيق الحكيم " حماري العزيز" بعد أن أخضعها للتمزيغ والدراماتورجيا الركحية.

ويعالج فؤاد أزروال في هذه المسرحيات كثيرا من القضايا العويصة في الواقع المغربي كقمع السلطة، وتفاقم ظاهرة الهجرة، وانتشار البيروقراطية، وزيف الانتخابات، وتنامي ظاهرة الارتشاء والاستغلال بكل أنواعه.

3- الاتجاه الكلاسيكي:

تستند مسرحية فؤاد أزروال" أورتي أوريلين/ الحديقة الموهومة" إلى توحيد اللهجات الأمازيغية الثلاث (تاريفيت، وتمازيغت، وتاشلحيت)، واستعمال القالب الأرسطي الكلاسيكي من حيث استخدام الفصول والوحدات الدرامية الثلاث: التمهيد، والعقدة، والنهاية، واحترام الوحدات الأرسطية المعروفة كوحدة الحدث، ووحدة المكان، ووحدة الزمان، وتشغيل الكرونولوجيا الحدثية زمنيا ومنطقيا.

وتنصب المسرحية حول الفساد الإداري والعبث بمصالح الدولة واستغلال أموال الشعب. ومن هنا، فالمسرحية تعالج موضوع الحديقة التي كانت مبرمجة لتنفيذها في أرض الواقع، لكن المسؤولين عبثوا بميزانيتها المرصودة. ولما علمت الإدارة المسؤولة عن بناء الحديقة بقدوم لجنة المراقبة، ألصقت التهمة بمواطن بريء لاعلاقة له بالحديقة لا من قرب ولا من بعد.

لكن هذا المواطن الغيور على بلده، سينتفض في الأخير ضد المتلاعبين بمصالح الشعب متمردا عن الإدارة الزائفة وقرارتها الجائرة، صارخا بكل جرأة وشجاعة في وجوه المسؤولين صرخة الحق القائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مرغما إياهم على الاعتراف بجرائمهم التي اقترفوها في حق الشعب والساكنة الأمازيغية.

وتندرج ضمن هذا الاتجاه الفني مجموعة من المسرحيات السياسية والاجتماعية والوطنية والقومية التي كتبها فاروق أزنابط، وفخر الدين العمراني، وفؤاد أزروال، وماجدة بناني...

4- الاتجاه الواقعــي:

يعد فخر الدين العمراني، وفاروق أزنابط، وفؤاد أزروال، وعمرو خلوقي من أهم المخرجين الذين يمثلون الاتجاه الواقعي في المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف؛ لأنهم عكسوا الواقع المحبط والمزري الذي يعيش فيه الريفيون بكل وضوح وأمانة وصدق.

فمسرحية" نشين سا" التي ألفها عبد الخالق كربيلة تدين الهجرة السرية، وتدعو إلى التشبث بالأرض والتمسك بالهوية الأمازيغية الأصيلة، والاهتمام بالعلم والعمل، والتفاني في خدمة منطقة الريف والإخلاص لها أيما إخلاص من أجل تطويرها وترقيتها والقضاء على المهربين المستغلين. والمسرحية كما هو معلوم من إخراج فخر الدين العمراني، وتشخيص كل من: مصطفى بنعلال، ورشيد معطوك، وبوزيان حجوط، وماجدة بناني، وسميرة المصلوحي...

أما مسرحية " تبرات/الرسالة" للمخرج فاروق أزنابط فهي مسرحية واقعية انتقادية تشخص مجموعة من العيوب الاجتماعية والطبقية التي يعرفها المجتمع المغربي كالتفاوت الصارخ بين الفقراء والأغنياء، والمعاناة التي يعيشها الإنسان الأمازيغي في بلده بسبب الفقر والبطالة والاغتراب الذاتي والمكاني والوحدة القاتلة وتفاقم الظلم السياسي والحيف الاجتماعي ناهيك عن سياسية الإقصاء والتهميش.

كما تتغنى المسرحية بالذاكرة التاريخية والإشادة ببطولة المقاومين الأمازيغيين. وفي نفس الوقت، تشخص مشكل الهجرة إلى الخارج وآثارها السلبية على المواطن الأمازيغي. ومن ثم، يحث فاروق أزنابط على التشبث بالأرض والهوية والدفاع عن الكينونة الأمازيغية وكتابة تيفيناغ.

وتندرج مسرحية" ءانان ءيني ن- زمان/قال الأجداد" لعمرو خلوقي ضمن المسرح الواقعي الاجتماعي؛ لكونها تنصب على انتقاد الكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية والطبقية على ضوء رؤية مأساوية قوامها المعاناة والألم.
وقد أشار المخرج عمرو خلوقي إلى زيف الانتخابات، وعدم مشروعية الإرهاب، وانعدام الحريات الخاصة والعامة وغياب حقوق الإنسان واقعيا ووطنيا وقوميا، مع الدعوة إلى حوار الحضارات وتعايش الشعوب، وتغيير الواقع المغربي المأساوي نحو واقع إيجابي أفضل، كما تحضر الهوية الأمازيغية كينونة وكتابة وأصالة في مسرحيته بشكل لافت للانتباه.

5- الاتجاه التاريخــي:

ثمة مجموعة من المسرحيات التي تناولت التاريخ بالاستكشاف والاستقراء والاستنطاق كمسرحية" محاكمة يوغرطة" لمحمد العوفي، ومسرحية " ثندينت ن تارجا/ أحلام المدينة" لفاروق أزنابط، والتي تم عرضها بالناظور سنة 1995م.
وتتناول هذه المسرحية محاكمة يوغرطة من قبل المناضل ماسينيسا بعد أن تم التفريط في الهوية والكتابة الأمازيغية. وبعد فترة البكاء والندم والحزن وخيبة الأمل، تظهر لحظة الإشراق واستشراف المستقبل المعسول بوضع القلم والقرطاس على طاولة الركح إعلانا لانطلاق لحظات التثوير والتغيير الجذري وبداية الاهتمام بالعلم والتنوير.

كما تندرج مسرحية" نحن أحفاد ماسينيسا " للدكتور جميل حمداوي ضمن المسرح التاريخي، فقد كتبها في شكل ملحمة تاريخية في ثلاثة فصول متسلسلة كرونولوجيا عارضة صفحات مجموعة من الأبطال المقاومين طوال الوجود الكينوني للأمازيغيين بشمال أفريقيا كصيفاقس، وماسينيسا، ويوغرطة، وتكفاريناس، وكسيلا، والكاهنة، ومحمد الشريف أمزيان، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي.

6- الاتجاه الرومانسي:

عندما نريد الحديث عن الاتجاه الرومانسي في المسرح الأمازيغي بالريف، فلابد أن نذكر مسرحية" أرياز ن وارغ / رجل من ذهب" من إخراج فخر الدين العمراني وفاروق أزنابط، وهي مسرحية رومانسية تاريخية تتحدث عن المقاومة الأمازيغية بالريف إبان الاحتلال الإسباني، حيث تشخص مقاومة مجاهد وطني غيور على بلده ويسمى عمرو، إذ كان يخفي أسلحة المقاومين في بيته، ويساعدهم على رصد تحركات العدو، ويشمر عن ساعده بكل بسالة وشجاعة لمحارة العدو في ساحة المعركة والكفاح والنضال. وفي نفس الوقت، كانت له علاقة رومانسية متينة مع عشيقته الحبيبة التي ستصبح فيما بعد زوجة مخلصة له. بيد أن بويوزان وأقرقاش وهما من خونة القضية الأمازيغية سيبيعان أخاهما المجاهد عمرو إلى رجال الاحتلال ليعدم شنقا في مسرحية فاروق أزنابط، لكنه سيتزوج بعشيقته في نهاية مسرحية فخر الدين العمراني.
وهذه المسرحية كما هو معروف رومانسية بلوحاتها التاريخية والوجدانية، وتذكرنا بمسرحيات فيكتور هوجو ولاسيما مسرحية هرناني التي كتبها سنة 1830م، وقد جمع فيها الشاعر الفرنسي بين العقدتين: التاريخية والرومانسية.

ومن أهم المسرحيات الرومانسية في المسرح الأمازيغي الريفي" ثازيري ثاميري/ القمر العاشق" التي كتبها المستيري وأخرجها فاروق أزنابط، وهي تتمحور حول الحرب الأهلية الإسبانية التي جندت الكثير من شباب الريف لمساعدة فرانكو في التصدي للجيش الجمهوري اليساري. وكان هدف الريفيين من المشاركة في هذه الحرب الضروس التي لاناقة لهم فيها ولاجمل هو الحصول على لقمة الخبز وتأمين حياتهم المعيشية، وقد أودت هذه الحرب بمعظم طاقات الريف الشابة، وتركت الكثير من الأرامل واليتامى.

ومن ثم، فهذه المسرحية ذات الطابع التاريخي تتخللها لوحات عاطفية وجدانية ومشاهد رومانسية غنائية تذكرنا بالأفلام الغنائية العربية كأفلام أم كلثوم، وأفلام محمد عبد الوهاب، وأفلام فريد الأطرش، وأفلام عبد الحليم حافظ. وقد أدت وفاء مراس دورا رومانسيا رائعا، صفق له الجميع بكل حرارة وإعجاب قل نظيره بأغانيها الشجية الرائعة.

ومن المسرحيات الرومانسية الأخرى مسرحية:" ثرايثماس" التي أخرجها فاروق أزنابط سنة 1994م، وهي امتداد لقصيدة ثرايثماس التي نظمها الشاعر أحمد الزياني، وتصور المسرحية تجربة غرامية عفيفة بين عاشقين أمازيغيين، وفي نفس الوقت، تعالج قضية الحب العذري في البيئة الريفية.

7- الاتجاه الميتامسرحي:

نعني بالاتجاه الميتامسرحي تفكير المسرح في نفسه وتوظيف المسرح داخل المسرح على غرار مسرحيات بيراندللو" هيا نرتجل"، و" ست شخصيات تبحث عن المؤلف".

ومن النماذج الأمازيغية التي تمثل هذا الاتجاه مسرحية" ءيمحباس ءومزكون/ سجناء المسرح" التي ألفها وأخرجها البشير الإدريسي، وعرضها بالقاعة الصغرى بدار الشباب بالناظور. وقد تولت فرقة 27مارس تمثيل هذه المسرحية وتشخيصها. وتحمل هذه المسرحية تساؤلات جوهرية هامة حول الكتابة الإبداعية بصفة عامة والكتابة الدرامية بصفة خاصة. ومن ثم، تندرج المسرحية ضمن الميتامسرح أو ما يسمى بالمسرح داخل المسرح أو المسرح الذي يفكر في نفسه محددا ماهيته وطبيعته ومصيره ووظيفته وأدواته الجمالية وتقنياته التعبيرية.

وتطفح المسرحية بخيبة الممثلين وتصوير إحباطاتهم اليائسة بسبب عدم اعتراف المواطنين بالمسرح ودوره في الحياة ووظيفته النبيلة في التأطير والتنوير والتغيير. لذا، يوقف المخرج عرضه المسرحي دون استكماله حتى النهاية احتجاجا على الوضعية المزرية لما آل إليه المسرح في المجتمع الأمازيغي.

وينطبق هذا أيضا على مسرحية فؤاد أزروال:" ءاغنيج ءيذورار/ أغنية الجبال"، وقد عرضت المسرحية بمناسبة اغتيال الفنان الأمازيغي لوناس معتوب.

ويدور موضوع المسرحية حول فنان يحاول جاهدا مقاومة الواقع المحيط به، والذي يتسم بالفقر والجهل والإرهاب والفساد والتهميش والاحتقار والاستغلال، من أجل إبداع أغنية واحدة قادرة على التعريف بما يحس به.

8- الاتجاه الرمزي:

تتحول بعض المسرحيات أو العروض الدرامية إلى دوال رمزية في كليتها الدلالية كمسرحية " ثاسيرث/الطاحونة" من تأليف محمد بوزكو وإخراج سعيد المرسي، فهذه المسرحية تنصب على الهوية والكينونة الأمازيغية والتشبث بالأرض وتفتيق الذاكرة التاريخية.

هذا، وتبتدئ المسرحية بعودة أرياز من الزمن الماضي لتفقد أحفاده في الزمن الحاضر من خلال مشهد سينمائي مؤثر يلتقط أرياز وهو يعبر مجموعة من الجبال والوديان والطرق والمسالك حتى يصل إلى مكان أولاده وأحفاده الأمازيغيين. لكن كم ستكون خيبته كبيرة عندما يجد أحفاده قد فرطوا في كل شيء، وتغربوا وانسلخوا عن مقومات هويتهم الشخصية وانبهروا بحضارة الغرب، وتفرقوا شذر مذر، وتقاعسوا عن خدمة بلدهم ووطنهم، وفرطوا في العلم والواجب والقيم الأخلاقية والمثل العليا، وانحرفوا عن الصواب الجاد والاستقامة والاعتدال !

وعليه، يطالب أرياز أحفاده بالاهتمام بالطاحونة الأمازيغية الموروثة باعتبارها سر الوجود وإكسير الحياة؛ لأنها هي التي تضمن لهم العيش الكريم وتؤمن لهم الخبز. بيد أن الأحفاد سينهرون جدهم الأكبر أرياز مستهزئين من أفكاره الرجعية وتوجهاته الأصيلة المحافظة. فيبيعون الطاحونة بثمن بخس من أجل قضاء حوائجهم التافهة. ومن هنا، يثور أرياز على أحفاده الأشقياء، ويطالبهم بكل إلحاح أن يسترجعوا الطاحونة المفقودة، فيخرج اثنان من أحفاده لاسترجاعها برا وبحرا، الواحد جعلها مطية للهروب إلى الضفة الأخرى، والثاني ضحى بنفسه من أجل استرجاعها ولكن بدون جدوى. وبهذا المشهد الدرامي الجنائزي الحزين، ستبلغ المسرحية ذروتها الدرامية، ومبلغها العنيف من المأساة التراجيدية، وشأوا كبيرا من التطهير النفسي الأرسطي.

وتتمثل رمزية المسرحية في اتخاذ الطاحونة دالا رمزيا للتعبير عن الهوية الأمازيغية والإحالة على الكينونة الأصيلة للإنسان الريفي، والدعوة إلى التشبث بالأرض والقيم النبيلة والمثل العليا التي ناضل من أجلها الإنسان الأمازيغي طوال تاريخه، دون الانبهار بحضارة الآخر والانسلاخ عن مقومات الأصالة التي تشكل الخصوصية المحلية للأمازيغيين في بلاد تامازغا.

وتتجلى هذه الرمزية بكل وضوح في عرضي " تيوجيرت/ اليتيمة" لمحمد بنسعيد، ومسرحية:" ثشومعات/ الشمعة" للمخرج عبد الواحد الزوكي بسب كثرة الدوال الإحالية والعلامات السيميائية والمؤشرات الأيقونية التي تصب في محوري الهوية واليتم بمفاهيمهما الواسعة.

9- الاتجاه التجريدي:

نعني بالاتجاه التجريدي كل ما يتخطى الواقع ويتجاوزه وينسف العقل والمنطق ليعوضهما باللاعقل والغرابة والشذوذ وتكسير المواضعات الواقعية والتمرد عن القالب الأرسطي. وبالتالي، فمسرح هذا الاتجاه يشغل تقنيات درامية تجريبية جديدة تصب كلها في خدمة الغموض الدلالي، واللبس السيميائي، وتجريد المعاني، ونسف البناء الكلاسيكي، واستبداله بأبنية درامية تتسم بالخلل والهشاشة والتفكك والتداعي، وانعدام التواصل بين المشاهد الركحية ومتلقي الصالة. ويستفيد هذا المسرح من تصورات مسرح اللامعقول ومسرح العبث كما عند يونيسكو، وأداموف، وأرابال، وصمويل بيكيت، وألفرد جاري.

ومن أهم النماذج الدرامية لهذا النوع من المسرح عروض شعيب المسعودي ( أرباع ءاوجانا ياوضاد، وتامورغي..."، ومسرحية سعيد المرسي" ثسيث/ المرآة"، ومسرحية" ثاوارث ءيمظران/باب القبور" من إخراج محمد بنسعيد وأحمد جويني، ومسرحية " نخراقد حوما وانتمسفهيم/ خلقنا لكي لانتفاهم" لنعمان أوراغ.

تتسم مسرحية " تمورغي/ الجراد" على الرغم من طابعها الرمزي بتشتت البناء، واستخدام جدارية تشكيلية عابثة مليئة بالنفايات تنم عن فوضى العالم وخلل العقل وشذوذ الواقع. وتنماز مشاهد المسرحية أيضا بتفكك اللوحات الركحية،

وغموض في الفهم والدلالة كمسرحيته الأولى "أربع أجونا يوضاذ/ ربع السماء أوشك على السقوط" يعبر فيها المخرج عن رؤيته التجريدية تجاه زلزال الحسيمة. كما تتحول المسرحية لدى شعيب المسعودي إلى عالم أسود غامر بدلالات سيميائية عويصة الاستيعاب والتمثل والتأويل بسبب انعدام التسلسل الكرونولوجي والمنطقي. وتتفكك اللغة المسرحية لتتحول إلى أصوات متقطعة وكلمات مبهمة وملفوظات مهلهلة كأننا مع تدريبات صوتية أو جسدية؛ لأن المسرحية مليئة بالإيقاعات الكوليغرافية والغنائية وتشغيل الموروث الأمازيغي بشكل تناصي ووظيفي.

أما مسرحية " ثسيث/ المرآة" فقد أخرجها سعيد المرسي للتعبير عن ضآلة الإنسان المعاصر وانهياره وجوديا وأخلاقيا وميتافيزيقيا، واستلهم في عرضه الدرامي مسرحية " الكراسي " ليونيسكو للتعبير عن العبث والفوضى والانتظار المميت وسوداوية الكون.

وهذا التفكك التركيبي ينطبق أيضا على مسرحية" ثواث ءيمظران/ باب القبور" التي تجمع بين النفس التراجيدي والمشاهد الكوميدية في قالب تجريدي غامض بسبب تفكك اللغة وغموض المشاهد واللوحات السينوغرافية المتراكبة في دلالاتها.

10- الاتجاه الشاعري:

نعني بالاتجاه الشاعري العروض المسرحية التي تتخذ الشعر أو الأجواء الشعرية مطية لها في التعبير الركحي والتشكيل الدرامي.

ومن أهم المسرحيات الشاعرية مسرحية محمد العوفي:" محاكمة يوغرطة"، ومسرحية:" ثسنيفست/ أحلام من رماد" لمحمد بنعيسى، وهما من العروض المسرحية الشيقة الطافحة بالرموز الانزياحية والعلامات الموحية والدوال التجريدية والرؤى الشاعرية، حيث ينتقل المتلقي في هذين العملين المسرحيين من مشاهد شعرية إلى مشاهد شاعرية صيغت بطريقة تجريدية مليئة بالصور الشعرية واللوحات التشكيلية المجردة التي تعبر عن عالم التناقضات الخارقة، وتنسج بطريقة تراجيدية درامية عوالم تخييلية ترصد ما يعانيه الإنسان الأمازيغي طوال تاريخه المديد من تهميش وإقصاء ولامبالاة ومعاناة، وتصور آلامه المريرة في واقعه الموبوء الغامر بالصراع الطبقي والتفاوت الاجتماعي. وتتخذ السينوغرافيا أبعادا شاعرية مبأرة بالإضاءة المؤثرة، والإيقاع التنغيمي الشاعري، وترداد القوافي الموحدة أو المتنوعة المعبرة، وتناوب الشخصيات في إلقاء المقاطع الشعرية وتنغيمها بشكل سيمفوني يتجاوب مع أحداث المسرحية وصراعها الدرامي.

11- مسرح وان مان شاو:

يعد طارق الشامي وربيع الماحي من أهم الفعاليات المسرحية التي أثرت المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف بمواقفهما الفكاهية الهزلية ولوحاتهما الدرامية الجادة بطريقة فردية يستعرض فيها الممثلان جميع قدراتهما التمثيلية وطاقاتهما التشخيصية في محاورة الجمهور بشكل مباشر ومؤثر ومشوق حسب مقتضيات مسرح وان مان شاو.
وتتعرض منودراميات هذين الممثلين لأهم المشاكل التي يتخبط فيها المجتمع المغربي بصفة عامة والمجتمع الأمازيغي بصفة خاصة كالفقر والبطالة والتهريب والصراع الطبقي والتفاوت الاجتماعي وزيف الانتخابات والهجرة السرية وزواج المصلحة.

ومن ثم، تتأرجح هذه المسرحيات المعروضة بشكل فردي بين الكوميديا الفكاهية والتراجيديا الجادة ذات الطابع الواقعي الانتقادي، كما تستعمل الباروديا والتهجين اللغوي، وتمزيغ اللغات واللهجات والنصوص التناصية، والاستعانة بالحركات الجسدية والكوليغرافيا الوظيفية، واستعمال الديكور في بعض الأحيان، واستثمار الإكسسوارات لأداء بعض المشاهد المسرحية وإنجاز بعض اللوحات الركحية لإثارة الجمهور والتأثير عليه سلبا أو إيجابا.

12- المسرح الفردي:

تندرج مسرحية " تمرد امرأة" التي أخرجتها ماجدة بناني سنة2007 م وعرضتها بقاعة نيابة التعليم بالناظور ضمن المسرح الفردي على مستوى التمثيل والتشخيص، وإن كانت في حقيقتها مسرحية اجتماعية من حيث الموضوع، ومسرحية كلاسيكية من حيث القالب المعماري والتشكيل الفني.

وتندد المسرحية بما يمارس ضد المرأة الأمازيغية من تصرفات ذكورية سلطوية قمعية شائنة ومستهجنة كممارسة العنف، وتهميش الأنثى، وإقصائها بشكل عنصري، وحرمانها من التعليم، ومنعها من حقوقها المشروعة، ناهيك عن تصوير المسرحية لموضوع اغتصاب الفتيات القاصرات بدون وجه حق.

ومن أشهر الممثلين الذين اختاروا تجربة المسرح الفردي قالبا لتجاربهم الدرامية إلى جانب ماجدة بناني نذكر: فؤاد أزروال، وفاروق أزنابط،وأحمد زاهد.

13- المسرح الطفولي:

يعتبر الطيب المعاش من أهم المخرجين الذين اهتموا بمسرح الطفل بمسرحيته " طوشا" التي حصدت عدة جوائز محلية ووطنية، إلى جانب المخرج الحسيمي أحمد سمار بمسرحيتيه الأمازيغيتين:" إذير أمكسا/ إيدير الراعي"، و" موشاشي أزواغ/ القبعة الحمراء" اللتين شارك بهما المخرج في مهرجانات الطفولة الشعبية بالناظور.

خاتمــــة:

هذه نظرة موجزة ومقتضبة عن المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف من خلال قضاياه الدلالية وظواهره الموضوعية وسماته الفنية والجمالية، وتلكم كذلك أهم المدارس الدرامية والاتجاهات الفنية التي عرفها المسرح الأمازيغي منذ انبثاقه مؤسساتيا منذ سبعينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا. ويعبر هذا التعدد الملموس في المدارس والاتجاهات عن مدى نضج المسرح الأمازيغي بالريف، واستواء بنائه الفني والجمالي، واكتمال عطائه ومنتوجه، وتطور عروضه المسرحية طوال أربعة عقود من الزمن.


مشاركة منتدى

  • عمل جيد و قراءة جميلة في المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف.
    لكن ونظرا لقلة او اقول وان صح ذلك لانعدام النقد المسرحي الأمازيغي بالمغرب بل بكل مناطق تامازغا أرجوا من الأستاذ ان يهتم ايضا و ينفتح على جميع التجارب المسرحية خاصة بمنطقة سوس من اجل دراسة عروض المسرح الأمازيغي بالمنطقة و التي تعتبر عروضا قيمة و حديثة ما دامت تدخل في مدرسة التجريب بالمسرح الأمازيغي و اذكر على سبيل المثال تجربة فرقة تاكفاريناس للمسرح الأمازيغي بالدشيرة تجربة تامانينوت فرع انزكان تراست تجربة أسمامان بمنطقة تكاديرت نعبادو ....
    و لكم جزيل الشكر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى