الثلاثاء ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

مسرحية "تراجيديا السيف الخشبي" لمحمد مسكين

تمهيــــد:

عرضت مسرحية مغربية رائعة بامتياز في مدينة الناظور بقاعة العروض بنيابة التعليم يوم السبت 3 يونيو 2007م على الساعة السادسة مساء تحت عنوان" تراجيديا السيف الخشبي" للكاتب المسرحي المغربي المرحوم الأستاذ محمد مسكين صاحب مسرح نظرية " مسرح النقد والشهادة"، وهو كذلك من أبناء المنطقة الشرقية وبالضبط من مدينة وجدة العتيدة. والمسرحية من إخراج الفنان يحيى بودلال الذي استطاع أن يحافظ على روح المسرحية كما ألفها الكاتب الراحل، ۥممسرحا إياها في قالب ملحمي بريختي منفتح دلاليا على الأحداث المستجدة في الساحة العربية، والذي ينسجم مع خصوصيات التصور النظري الذي يتبناه الدراماتورجي محمد مسكين الذي يعتبر المسرح دائما تعرية وكشفا وشهادة على الحاضر واستشرافا للمستقبل.

وفي هذه الدراسة المتواضعة سنحاول قراءة هذه المسرحية على المستوى الدلالي والفني والمرجعي.

شيء من الذاكرة و استقراء التاريخ:

عرضت مسرحية" تراجيديا السيف الخشبي " في إطار " جمعية المسرح العمالي" التي تأسست بوجدة في سنة 1957م ، لكن انطلاقتها الفعلية كانت في سنوات السبعين مع محمد مسكين ويحيى بودلال ومحمد حفيان وبنيونس عيساوي ومحمد بنقدور وبورشقيق نصر الدين وگشاطي إبراهيم ومحمد بوحسون ومحمد المعزوز ومحمد بوبقرات وحاميد العفوي وعجرود الحسين وحمداش فتيحة وحبابي فتيحة وويسي سعاد وجمال بتيل وكريمة بنميمون وگروجي عبد الله وآخرين. ومن أهم أعضاء هذه الجمعية المنظر محمد مسكين الذي كتب عدة بيانات ۥتنظّر لمسرح النقد والشهادة، والمخرج الفنان المتميز يحي بودلال الذي استطاع أن يقدم فرجات درامية ممتعة لفظيا وبصريا.

ومن أهم المسرحيات التي مثلتها جمعية المسرح العمالي مسرحية|"عاشور" ومسرحية" اصبر يا أيوب"، ومسرحية" نيرون السفير المتجول"، ومسرحية" تراجيديا السيف الخشبي"، ومسرحية" امرأة قميص وزغاريد"، وكل هذه الأعمال المسرحية من تأليف محمد مسكين وإخراج يحيى بودلال.

وقدمت الجمعية كذلك مسرحيتي" المدينة والدمى" ومسرحية "حكاية الدوار" لمحمد المعزوز وإخراج محمد بوبقرات وذلك ما بين 1987م و1989م.

و ستقدم الجمعية سنة 1995م مسرحية "الهجهوج" التي أخرجها يحيى بودلال بعد تحوير مسرحية النزيف لمحمد مسكين.

مضامين العرض المسرحي وسماته الجمالية:

قدمت جمعية المسرح العمالي بوجدة مسرحية " تراجيديا السيف الخشبي" لأول مرة سنة 1982م في المهرجان الثالث والعشرين لمسرح الهواة بمدينة آسفي ، وحصلت على جائزة أحسن نص. بينما صدرت المسرحية مطبوعة سنة 1983م عن دار الستوكي بالرباط. وقدمت آخر عرضها بمدينة الناظور يوم الأحد 03 يونيو2007م بقاعة العروض التابعة لنيابة التعليم بالناظور.

وتستند هذه المسرحية إلى مجموعة من السفرات أو الجولات عبر فضاءات خيالية متنوعة في الزمان والمكان ، وبذلك تتمرد المسرحية عن التقسيم التقليدي للمسرحية إلى فصول ولوحات ومشاهد التي توحي بالجمود والسكون والثبات وتعوضها بالسفرات والجولات على غرار المسرح الاحتفالي لدى عبد الكريم برشيد الذي يستعمل الأنفاس والاحتفالات في تقسيم المسرحية وعلى غرار مصطلح الحركات الذي نجده عند المبدع مصطفى رمضاني في تقسيمه لمسرحيته الجديدة" بني قردون". ومن هنا، فالسفرات تدل على الحركة والفعل والممارسة. ويعني هذا أن المسرح في تصور محمد مسكين وفي منظور مسرح النقد والشهادة فعل وحركة وتغيير.

هذا، وتستوحي المسرحية تناصيا أجواء رواية " دونكيشوت" للكاتب الإسپاني سيريفانتيس الذي يعمد بطلها إلى تغيير العالم من خلال ما قرأه من كتب وقصص الفروسية في العصور الوسطى محاولا تمثل تلك القيم الأصيلة والنبيلة لزرعها في مجتمع منحط ومهترىء على جميع الأصعدة في عصر كان ينتقل فيه المجتمع الإسپاني من مرحلة مثالية إلى مرحلة مادية إبان القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين. و يستعين دونكيشوت البطل المثالي في مغامراته الملحمية الساخرة بصديقه سانشو الذي كان أكثر منه واقعية واحتكاكا بالمجتمع قصد القيام برحلات بيكارسكية على غرار فرسان العصور الوسطى من أجل القضاء على تناقضات الواقع المتفسخ الذي كان يعيش فيه البطل. ولكن رؤية دونكيشوت كانت مثالية حالمة لا تعي سلبيات الواقع بشكل جيد، ولا يعرف البطل - بالتالي - أن الواقع أكبر من ذاته، وبذلك سيفشل في تغيير واقعه المنحل بسبب مثاليته الساذجة التي ينقصها الإنجاز والفعل، ويعني هذا أن دونكيشوت شخصية مثالية غير منجزة بمفهوم المنظر الروائي ميخائيل باختين.

وۥيتخذ رمح دونكيشوت الخشبي في هذا العرض المسرحي رمزا للخيبة السلبية والمثالية الساذجة واللافعل والفشل في التغيير وسقوط النظرية والشعارات الجوفاء أمام جدية الممارسة والفعل. ومن هنا، يصبح السيف الخشبي هو الممثل الحقيقي في هذا العرض المسرحي، وعليه تدور كل السفرات والمشاهد الدرامية، ولا تعني الشخوص الدرامية شيئا أمام قوة السيف وإحالاته الرمزية والمرجعية في هذا العرض الملحمي البريختي الذي يذكرنا بمسرح السياسة والتسيس لسعد الله ونوس .

وإذا عدنا إلى المسرحية من بدايتها لتحليلها وتقويمها، فلقد استفتحت بمقطع غنائي يحدد "جنريك" العرض المسرحي ، ويطرح حبكتها الدرامية في تواز هرموني منسجم مع إيقاع جر العربة المتعددة الوظائف على المستوى السينوغرافي ؛ لأنها تتحول إلى حانة خمر و وسيلة للنقل ومعبد لبوذا و دكان و بيت ومعرض ....وتتغير حسب المشاهد المسرحية. وتحيل العربة على التجوال والرحلات الدونكيشوتية الحالمة والأسفار عبر العوالم الفانطازية.

وهكذا، يستحضر المشهد الأول عنترة مع صديقه شيبوب مرددا أشعار المرارة والحزن بعد فشله في الاقتران بعبلة بسبب لونه الأسود ، لينتقل عنترة وصديقه عبر السفر الاحتفالي إلى حي هارليم بالولايات المتحدة ثائرا على التمييز العرقي وتفسخ القيم في المجتمع الغربي ، وتصديه الجارح لجاكلين بسبب إفراطها في عرضها وشرفها. ولكن شيبوب الذي يشبه سانشو صديق دونكيشوت كان يسخر من سذاجة صديقه عنترة العبسي الذي استدعاه الكاتب من الماضي ليغير حاضر الغرب بأفكاره المثالية السلبية وسلوكياته الطائشة المتناقضة حاملا سيفه الخشبي ليثور ضد قيم الواقع الأمريكي وهو لايدري أن المجتمع الذي يريد أن يغيره أقوى منه بطشا وتحضرا وتمدنا. وبالتالي، يملك كل عناصر القوة والتقدم، يسيطر على كل الأسلحة الفتاكة والطائرات الأكثر تدميرا في العالم. ويشير المشهد بشكل كاريكاتوري صارخ إلى التفاوت الحضاري الموجود بين الشرق والغرب، و الهوة الفاصلة بين عالمي الأصالة والمعاصرة، و التأشير على المسافة الخارقة بين عالمي التقدم والتخلف. وينتفض عنترةفي الأخير ثائرا كالمجنون الخائب أمام هذه التناقضات الصارخة في العالم العربي مجلجلا صاخبا: كيف يعقل أن يكون للإنسان العربي الذهب الأسود وثروة البترول بينما هو يعاني من الفقر والجوع؟!

ومن جهة أخرى ، ينتقد المخرج ظاهرة الإرهاب ضمن سفرية عنترة التي تصدر مع مشاكل العالم إلى الغرب رغبة في إسقاطه في دوامة مشاكلنا التافهة المصنوعة بأنفسنا.

ويلتجئ المخرج على المستوى الفني والتقني إلى المسرح البريختي في تشغيل المادية الجدلية والمواجهة السياسية المباشرة وتوصيل الرسائل الموحية وتعرية المسرح وكشف لعبه الدرامية أثناء تغيير ديكورات المشاهد أو السفرات المتحركة ( الميتامسرح) ،حيث يظهر المخرج الممثلين وهم يؤثثون الخشبة عن طريق تغيير سينوغرافيا السفرات وتهيئ الديكور الجديد تفكيكا وتركيبا، ليعلن المنسق بعد كل تغيير سينوغرافي بداية سفرة مسرحية جديدة عبر المدن المفرحة والباكية.

وهكذا، ندرج مسرحية" تراجيديا السيف الخشبي" لمحمد مسكين ضمن المسرح البريختي والكوميديا السوداء ومسرح النقد والشهادة؛ لأن كاتب العرض يثبت عبر سطور الفرجة الدرامية أن المسرح فعل وحركة ونقد وشهادة واستشهاد وتغيير للعالم.

وينتقل الممثلون عبر المشهد الثاني إلى السوق العربي وحلقاته المثيرة ليصب الكاتب جام غضبه على التجارة الكاسدة والفقر المدقع الذي حول الإنسان العربي إلى نزيف ضائع ضيع معه الإنسان و الحب والشعر. ومن ثم، ينتقد الكاتب زمن الاستلاب والقهر والهزيمة والخيبة والعار موظفا تقنية المسرح داخل المسرح على غرار مسرح بيرلاندللو ومسرح كوميديا دي لارتي و مسرح الارتجال. وتتحول غجرية العربة الجميلة إلى ليلى وأورفيليا وبلقيس، وبذلك تتعدد أوجه الشخصية وتختلف معها أقنعة العاشقين وإحالاتهم التاريخية ورموزهم التناصية. وهنا يتكئ الكاتب على التراث والتهجين والباروديا لتشكيل عرضه السينوغرافي المؤثث بعبق الأصالة والتراث والانتقال بين الماضي والحاضر.

وتنتقل المسرحية من أحداث وطنية تحيل على فعل المقاومة والتصدي للمستعمر الأجنبي لطرده من البلاد قصد الحصول على الحرية والاستقلال ليجد المقاوم الشهم نفسه بعد ذلك بين أنياب الفقر والجوع والقهر والاستبداد، إلى أحداث قومية مصيرية حيث سيدخل دونكيشوت العربي في صراع مع الديك الأعور الصهيوني حاملا جميع رايات الوطن العربي بسيف مزركش رائع في جاذبيته ورونقه، بيد أن هذا السيف الخشبي سرعان ما ينكسر أمام الضربات الحادة للعدو الشرس. وبذلك تتحقق الهزيمة العربية وتتحول ملاحم الإنسان العربي إلى تراجيديا الانكسار والخيبة والهزيمة والسقوط والانتظار. وتمتد هذه الهزيمة إلى حكايات شهرزاد فتوقفها عن الكلام المباح و ۥتسقط عرش شهريار وتكون سببا في مآسي لبنان والعراق، ليعيد لنا تاريخ الهزائم العربية التراجيدية ما سطره في الحلقات السابقة. و بالتالي، يظل الإنسان العربي متفرجا على عورته المكشوفة يتألم ويتفرج منكسرا فاشلا.

وعليه، يدين الكاتب في الحقيقة الزمن العربي المأساوي، و ينعى الحاضر التراجيدي بنكساته ونكباته ومجازره، زمن الهزيمة والانكسار وانعدام الحركة وهيمنة اللافعل المشلول والمأسور بالشعارات والوعود الزائفة.

وينتقل العرض في سفرته الأخيرة إلى عالم الشرق الزاخر بالشعوذة والخزعبلات والترهات مستحضرا شخصية " بوذا" بطقوسها الكوليغرافية الدالة على الأجواء الروحانية والاستلاب الديني لينتقد الكاتب عبر مؤشرات هذه الطقوس الفانطاستيكية تخلف العالم العربي وإيمانه الأعمى بمعتقدات زائفة تشوه الدين الإسلامي ، حيث ۥيستغل الدين من قبل الطرقيين والمشعوذين للحصول على المكاسب المادية وجني الأرباح الزائلة. وبذلك، يتسبب هؤلاء في تعميق الأزمات داخل المجتمعات العربية والإسلامية ويعملون كذلك على إحداث شروخ فاصلة وشاسعة بين عالم العلم والتقنية وعالم الخرافة والتواكل الأعمى.

استنتاج تركيبي:

ونستشف مما سبق ذكره، أن مسرحية " تراجيديا السيف الخشبي " التي ألفها محمد مسكين وأخرجها يحيى بودلال مسرحية ممتعة رائعة تندرج ضمن مسرح النقد والشهادة وتستلهم تقنيات المسرح البريختي وجماليات الكوميديا السوداء مع الاستفادة من قواعد المسرح الاحتفالي على مستوى التشخيص والإخراج والسينوغرافيا. وتطفح هذه المسرحية كذلك بالعلامات التناصية الثرية والعلامات الدالة الموحية والاستفادة من عدة مدارس مسرحية عالمية في تقديم هذه الفرجة الدرامية وخاصة تكسير الجدار الرابع وتحويل المسرح إلى ارتجال وفرجة احتفالية شعبية واستلهام الحلقة والتراث العربي القديم مع الانفتاح على التراث الإنساني العالمي عبر تشغيل رواية" دونكيشوت" لسيرفانتيس للتأشير على صراع النظرية والممارسة، وجدلية الفكر والواقع، وصراع المثالية والمادية، وتجاذب الفعل واللافعل، و تناقض الشعار والممارسة، وتضاد السكون والحركة.

ولكن يلاحظ أن الممثلين يشتغلون في نطاق مسرحي واحد هو المثلث الدرامي دون تغييره ؛ مما جعل سفراتهم وحركاتهم تمتاز بالرتابة والتكرار. وبالتالي، تتحول أسفارهم إلى هندسيات فضائية معروفة مسبقة بخططها وحركاتها، ومعلومة منذ البداية بأسبابها ونتائجها. كما أن الجدار الرابع لم يكسر بالطريقة البريختية لمعرفة ردود فعل المشاهدين الراصدين للقضية المعروضة أمامهم . ويلاحظ كذلك أن الممثلة التي كانت تمثل دور جاكلين في حي هارليم، والتي مورس عليها فعل الشعوذة لم تشغل جيدا في المسرحية ،بل كان دورها باهتا على الرغم من إمكانياتها الفنية وقدراتها الهائلة في التشخيص بالمقارنة مع الممثلة التي شخصت دور الغجرية.

ولقد أحسن الكاتب والمخرج على حد سواء عندما استحضرا تجربة المتجولين "الترابوداور" و سفرات الغجر ليشركهم في هذا العرض الدرامي الجميل ليعايشوا معنا زمننا العربي الحاضر الغارق في السبات والخمول والهزيمة والتناقضات والتردي . ويذكرنا هذا المسرح المتجول المسافر عبر الزمان والمكان والتاريخ والذاكرة بالمسرح المتنقل المتجول المعروف في فرنسا لدى الكوميدي الكبير موليير ،


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى