مليكة نجيب ضيفة
في المدرسة العليا للأساتذة بمارتيل، فتحت ملكية نجيب ذاكرتها وقلبها لقرائها، مشيدة جسور التواصل معهم، ولأنها امرأة ظلت تكتب طوال ثلاثة عقود نائية بذاتها وأسئلتها الجمالية عن الجو الثقافي العام، ولأنها قررت أن تعيش مغامرة الكتابة وحدها دون أن تفكر في الكتابة باعتبارها قيمة مادية، فإن "سلسلة تجارب إبداعية" سعت إلى احتضانها باعتبارها صوتا إبداعيا له مذاق خاص ومختلف عن السائد، وهي السلسلة التي سعت دائما إلى الانصات عميقا للإبداع بجل تلويناته وتياراته، حيث عكف الباحث والأديب عبد الرحيم جيران رفقة طلابه ولجنته الثقافية إلى توجيه دعوات مفتوحة لأجيال مختلفة مسكونة بأفق الإبداع وأسئلته: شعراء، نقاد، روائيون، قصاصون.. بهدف الرفع من استهلاك الأدب باعتباره لذة، وبهدف دعم المبدع والإنصات إليه.
الحلقة الجديدة من "تجارب إبداعية" أطرها وسيرها الناقد والقاص عماد الورداني، الذي سافر في محكيات مليكة نجيب الأربعة راصدا أبعادها الدلالية والبنائية كاشفا عن أنساقها الجمالية، وذلك عن طريق تحليل دقيق لنصوص مجامعها، حيث توقف عند المجموعة الأولى "الحلم الأخضر" الصادرة سنة 1997، مبينا كيف أن الكاتبة تمكنت من الانسلات عميقا في دروب المجتمع وأسئلته، كاشفا عن نقدها اللاذع للأنساق الثقافية المتحكمة في الذهنية المغربية، دون أن ينسى كشف أبعاد عدسة المبدعة الملتقطة للتفاصيل الدقيقة سواء تلك التفاصيل المباشرة أو التفاصيل المتخفية في النفس البشرية، وهي مجموعة حاول من خلالها الناقد أن يتلمس بعض العناصر المفصلية فيها من قبيل قيامها على التداعي والاسترجاع والوصف وفي الوقت نفسه تلوين الحدث بنفس درامي.
ثم انتقل الباحث إلى المجموعة القصصية الثانية: "لنبدأ الحكاية" الصادرة سنة 2000، حيث حاور الكاتب نصوص هذه المجموعة التي تحتفي بالأنثى، وهي مجموعة نصبت نفسها باعتبارها صوتا مسافرا في خبايا الأنثى، للكشف عن مشاعرها ومواقفها وأحلامها، حيث تلمس الباحث قوة الاشتغال على خبايا النفس البشرية، كما يرى عماد الورداني أن المبدعة في هذه المجموعة بدأت تتخلى عن الأنماط الحكائية التقليدية، لتستوعب تمثلات شكلية مفارقة، فعلى مستوى الزمن: تجاوزت الزمن الخطي التصاعدي، وتعويضه بالزمن الدائري أو الزمن العكسي. وعلى مستوى بنية الحكاية: الاشتغال على نصوص تنطلق من إشكالات سردية مخصوصة "صراع البطل مع السارد". وعلى المستوى التداولي: نهوض النصوص على البعد الرمزي. ومعرفيا وظفت مليكة نجيب الحكاية الشعبية، والمعرفة الفلسفية. أما مجموعة "السماوي" الصادرة سنة 2006، فيرى القاص عماد الورداني أنها مجموعة تنهض على موضوعة رئيسة هي الخوف، والخوف في المجموعة لا يحضر باعتباره إشكالا نفسيا فقط، وإنما باعتباره فعلا يتماهى مع ما هو اجتماعي وثقافي، حيث تعمد الكاتبة إلى رسم ملامح الخوف في علاقته بالشخوص رسما دقيقا يغوص في النفس لترجمة خباياها، والكاتبة لا تقف عند ذلك وإنما تفتح هذه الموضوعة على آفاق خارجية، أي أن الخوف يتحول من إشكال نفسي فردي إلى إشكال جماعي، كما رصد الكاتب خصوصيات هذه المجموعة النصية حيث توقف عند توظيف المحكي الشعبي باعتباره نصا مدمجا أو خلفية معرفية أو إشكالا ثقافيا، والاستنجاد بالعجائبي، وتكثيف اللغة، والتنويع في الأنساق اللغوية: لغة مرجعية، لغة شعرية، لغة تداولية، لغة أمازيغية.
لينهي الناقد مداخلته بتوقفه عند المجموعة الأخيرة "وانفجرت ضاحكة" الصادرة سنة 2008 كاشفا عن المذاق الخاص الذي تقوم عليه المجموعة، وهو مذاق السخرية، فالسخرية باعتبارها فعلا بلاغيا وإبلاغيا يقوم على التضاد الحاصل بين المعنى الواضح والمعنى المضمر، وهذا التقابل بينهما ينتج مفارقة دلالية مفضية إلى فعل السخرية، يقول عماد الورداني. ويضيف أن هذه المجموعة تمثل مرحلة النضج والاكتمال عند الكاتبة مقارنة بأعمالها السابقة، وذلك لأنها سعت إلى تجريب أشكال وأنماط جمالية ومعرفية مفارقة، وهو ما جعل طعم المجموعة يتسم بمذاق خاص. إن المبدعة وهي ترحل كل هذه السنوات، عمدت دائما إلى تجاوز نفسها دائما، وذلك لأنها تتيح لنفسها فرصة التأمل في عوالمها الحكائية ومعاجلتها معالجة تطمح أن تكون مغايرة. إن الذي ميز المداخلة هو استنادها على نقد تطبيقي زاوج بين ما هو دلالي وبنائي وجمالي.. وبعد انتهاء المداخلة النقدية، أعطيت الكلمة للمبدعة مليكة نجيب حيث عبرت عن سعادتها وامتنانها لحضورها وتواجدها بين رحاب الأدب والإبداع، وعبرت عن حظها في استضافتها في عش الحمامة البيضاء المنسوجة بأسباب المحلة والكرم، حيث ثمنت الكاتبة هذا التقليد الجيد الذي يدعو المبدعين والمبدعات بهدف التواصل معهم والانصات لتجاربهم، ثم انتقلت مليكة نجيب لتروي حكايتها مع الكتابة، فذهبت إلى أنها لا تكتب وإنما تنكتب في نصوصها، وتتذكر جيدا أنها يوم التحقت بهذه المغامرة طوحت بها إلى عوالم الجذبة، مريد كنت، يحلم بإجازة الشيخ، وكان شيخي هو الكتابة، تذهب مليكة نجيب، ولم تنزعج الكاتبة بتاتا من غياب الغرفة الخاصة أو الزرافة المشتعلة، فقط آمنت أن الكتابة عملية مخاض تختلي فيها الكاتبة لذاتها منتشلة لحظات زمنية لكي تكتب انتقلت الكاتبة إلى الحديث عن مجامعها الأربعة، ومغامرتها في الكتابة، وتحدثت عن جديدها الإبداعي واعدة قراءها بمجموعة جديدة تحمل نص "عايشة" التي ستصدر في الأيام المقبلة، فالمجامع التي رسمت الكاتبة حدودها، حاولت فيها أن تشكل عوالم جديدة مختلفة، تنتصر للإنسان، فبالكتابة فقط تمتلك الكاتبة سلطة خلق عوالم أكثر مرحا وحرية، فأنا الكاتبة التي تذوب في شخصيات سردية تستأسد وتتحكم في زمام مسارات حيوات عدة.
تذهب الكاتبة أنها يوم قررت أن تنتسب إلى عالم الكتابة، لم تكون تمتلك قواعد جاهزة أو أنظمة مسبقة، فالكتابة مرتع خصب للحكاية التي لا تتصور القصة دونها، القصة جنس أدبي عشقته الكاتبة ومارسته بشغف وحب كبيرين، والكتابة رغم رحلتها الطويلة في تأمل عوالمها، فهي لم تعثر بعد على أسلوب يميزها في الكتابة، فالنص الذي تحلم به مازال هاربا عصيا عن القبض، لكن مليكة نجيب لم تيأس فهي مازالت تتعقب حضرته، وكلما لاح لها بصيص إبداع، تقول هو ذا نصي المؤجل، وعندما يغيب تتيه، لتبقى الكتابة مؤجلة وغائبة.
انتقلت الكاتبة إلى الدفاع عن مواقفها الجمالية، فهي تنفي وجود كتابة نسائية خالصة، لأنها فقط تؤمن بالإبداعي باعتباره عملية سامية عن التصنيف والتجميس والتقسيم، فالكتابة حسب المبدعة امتداد وخلق وتواصل وكشف وتطهر من مضاعفات الصمت والخوف والمواربة وثورة ومواجهة للخنوع والضعف والاستسلام.
لتسدل حلقة تجارب إبداعية ستارها على إيقاع تفاعلي إيجابي عبر عنه المبدعون والطلبة بأسئلتهم وتدخلاتهم التي ظلت لصيقة بمتن مليكة نجيب ومواقفها من القصة والحياة