يسائلون علاقة الأدب بالفلسفة
احتضنت قاعة المحاضرات عبد الواحد خيري مؤخرا فعاليات النسخة الأولى من الندوة الوطنية «الأدب والفلسفة» التي نظمتها مجموعة البحث في تحليل الخطاب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدار البيضاء (مختبر الأدب واللسانيات والترجمة) بالشراكة مع المدرسة العليا للأساتذة بتطوان بحضور وازن لعدد من القامات الأكاديمية والنقدية، حيث لقيت تفاعلا مهما من قبل عدد من الباحثين المشتغلين في حقلي الأدب والفلسفة. تميزت الجلسة الأولى التي ترأسها د.عبد الرحيم جيران بمداخلات علمية رصينة افتتحت بمداخلة د. أحمد الصادقي الموسومة ب"العلاقة بين الفلسفة والأدب: الحدود والأبعاد" عملت على إحصاء أبعاد وحدود العلاقة الملتبسة بين الفلسفة والأدب، وهي أبعاد -بحسب الباحث- تمتد إلى العلوم الحقة وإلى المنطق والدين والعلوم الإنسانية مثل تاريخ الأديان والأنثربولوجيا الثقافية،وذلك في إطار علاقة متونرة بين هذه الحقول تاريخيا موضحا ذلك من خلال تاريخ الفلسفة وتاريخ الأدب على اعتبار أن الفلسفة تستخدم الأدب للتعبير عن الحقائق الفلسفية،وهذا أمر يتمثل عند أفلاطون ونتشه على سبيل المثال،وعلى اعتبار أن القول الشعري مع أرسطو قول أدنى من القول البرهاني الفلسفي، وحاجة النقد الأدبي إلى الفلسفة.
ومن خلال البحث التاريخي في هذا العلاقة وضح الدكتور أحمد الصادقي أنها علاقة متصلة في فترات معينة ومنفصلة في فترات أخرى بناء على الأبعاد المذكورة. غير أنه مع الجروح الكبرى في تاريخ الفكر الغربي وتقويض الميتافيزيقا وانهيار المركز أصبحت هذه العلاقة علاقة تحويل لا معارضة ودوران لا استثمار حيث تنتقل بعض المصطلحات الأدبية إلى الفلسفة لتصبح مفاهيم لنقد الأدب .ولم تعد هناك قيود تتعلق بالجنس أو النوع أو الماهية إذ أصبحت حركة الفكر حركة للموت، يعني حركة تقوم بتقويض الذاتية وتفكيك الأنساق والعقل والدلالة والتنظيم والعضوية،وكل شكل من أشكال المركزية وهذا مع جذرومية دولوز والإخلاف الديريدي وفكر هايدغر فصارت الفلسفة أدبا يعني كتابة. فلا يتم الحديث إلا عن الكتابة وليس عن الفلسفة أو الأدب باعتبارهما جنسين متمايزين.
في حين قاربت مداخلة د.معزوز عبد العلي "موريس بلانشو و مفهوم الكتابة" حيث توقف، فيها، عند بلانشو بوصفه أهمِّ الكتاب الذين ساءلوا فعْلَ الكتابة، وتناولوها من منظور جدل الحضور والغياب، بلْ وحتى من منظور إمكانها واستحالتها، حياتها وموتها. فعلُ الكتابة لا يتعلَّقُ بالفرد، ولا يتعلَّقُ بالذات، بقدر ما يتعلَّقُ بالآخر. فعلُ الكتابة فعل مبنيٍّ للمجهول لا يعودُ على ضمير المتكلِّم، ولا يقعُ على مسؤولية الكوجيطو، وإنما هو فعل أقربُ إلى سيرورة بلا ذات، فمَنْ يكتُبُ حقا؟ ليس قطعا الكاتب وإنما الكتابة، ليس الأنا ولا أنت، وإنما لا أحد، أو ما يمكنُ تسميتُهُ المحايدl وهذا ما يجعَلُ الكتابة بقدر ما هي فاتنة مرعبة في الآن نفسه. الكتابة اشتغالٌ على اللغة وفيها، الكتابة عند بلانشو من أنْ نتكلَّم عدة لغات في آن واحد، لغةُ اللاشعور، لغةُ الهذيان، لغةُ الجنون، لغةُ الصمت. في الكتابة تتكلَّمُ ضمائر متعددة بلغات مختلفة. لا نعلم مَنْ يتكلم، و مَنْ يكتُبُ، هو ما عنَيْتُهُ بالمبنيِّ للمجهول أو المُحايِدِ. ينْتَهِجُ اللُّبسَ والالتباس، وهو ما يسمح بهذا التعدُّد وهذا الاختلاف. الكتابة تجربة وخبرة، معاناة ومكابدة بحيث يحتاج كل بيت شعري، في نظر ريلكه الشاعر الألماني الكبير، إلى تجربة وجودية يَعْتَصِرُهَا الشاعر من قربه ودنُوِّهِ من فضاء الكتابة. فحسب بول فاليري الشاعر الفرنسي إن غاية الرسَّام هو الوصول إلى ماهية الرسم، وغاية الشاعر بلوغ ماهية الشعر، وغاية الكاتب الوصول إلى ماهية الكتابة، أو ما يصطلحُ عليه موريس بلانشو بفضاء العمل أو الأثر.
أما مداخلة أما مداخلة د. عبد الباقي بلفقيه"أثر الكتابة في الأنثروبولوجيا" انطلق فيها من تساؤل:كيف للأنثروبولوجيا أن تتجنب مجاورة الأدب وأن تنأى عن خطر السقوط في الغريب والنزعة الجمالية؟ يشكل جورج باطاي المحور الفلسفي/الأدبي لبعض مظاهر هذه الأنثروبولوجيامن فكره توظيفه لأعمال، ويرقى عبر هذا الحقل لولوج مجالات الأسطورة والمقدس والحلم واللعب والعجائبي مضاعفا "مقاربات المخيال" لكن ثنائية الأدب والأنثروبولوجيا تطرح أكثر في أعمال M وفمع الأول يظل الأنثروبولوجيين في جزء كبير منه غير خاضع لقوانين العلم الممارس، متأرجحا بين الانكشاف والصدق، بين التردد واليقين. ومع تطرح إشكالية صعوبة القدرة على"إدراك ذواتنا غيراً". وتتوالى الاجتهادات مع ووساطة السرد، ومع في التغيير الذي يلحق أدوات التفكير، في محاولة إقامة قرابة بين البحوث العلمية والبحوث الإستيتيقية واستحالة وصول الموضوعية المطلقة، ومع"السيرة الاجتماعية" و"تاريخ الحياة". واليوم تطرح مسألة الكتابة في الأنثروبولوجيا من جديد، ولكن بلغة محددة تراعي النقد المزدوج لما هو داخلي وخارجي لشكل النص، وأثار المحيط وتأثير الحقول المجاورة، وكذا التغيرات الاستعارية. تلتقي الأنثروبولوجيا والأدب في كونها بحثا مستمرا، يتجدد باستمرار، لما يكوّن التجربة الإنسانية في شموليتها وفي صيرورتها المستمرة، بطرق ووسائل مختلفة، وغير بعيد عن الأدب. ثم تدخل د.آمحمد طواع في موضوع "حكمة الرواية"، وقد عالج ذلك من وجهة نظر الروائي كونديرا الذي يسم الفكر الكامن في الرواية بفكر ساخر: نعرف أن الفلسفة، منذ الفيلسوف لا يبنيتز تفهم وتفسر مختلف مناحي الوجود على أساس الفكر السببي-الحسابي، وهو كما ذهب هيدجر، فكر اختزالي لا يعتبر واقعا سوى الأبعاد التي يمكن أن تفسر بما ينص عليه مبدأ السببية. ومن ثمة فهو ينهض على نوع من الخيانة فيما هو يحد ويحصر المتعدد ولا يعترف سوى ما يمكن للمفهوم.أن يحويه. أما فكر الرواية فهو لم ينحدر عن الفكر النظري المتفلسف، هو فكر منفتح على الوجود الانساني من أجل فضحه لذلك فهو يوظف النقد الساخر من أجل ابراز الفخ أو المتاهة التي يجد الانسان المعاصر نفسه يكابدها في كامل الالتباس.أمام الدوخة الوجودية ماذا عسى الانسان أن يفعل سوى أن يسخر من الواقع فيما هو ينظر اليه لسطون طرف. وكانت آخر مداخلة ل د.محمد القندوسي "عن العلاقة بين الفلسفة والأدب في الولايات المتحدة خلال القرن 19" انطلق فيها من رأي الكاتب في كتابه"الشجار القديم بين الفلسفة والشعر" الذي يبرز فيه، من خلال جرد تاريخ العلاقة بين الفلسفة والشعر في أوربا، أن العلاقة بينهما كانت متقلبة دائما، يطبعها التأثر والتأثير أحيانا، والجفاء والرفض في أحيان أخرى. ليركز بعد ذلك الباحث على العلاقة بين الفلسفة والشعر في أمريكا خلال الفترة التي سبقت الحرب الأهلية 1865، موضحا أنه بسبب تنامي القومية الثقافية في تلك الفترة قل اهتمام الأمريكيين بالفلسفة، وتزايد الاهتمام بالأدب الذي أصبح يحتل المكانة التي كانت تحتلها الفلسفة تقليديا، مما يعطي الانطباع بأن"الشجار بين الفلسفة والشعر" قد حسم أخيرا في أمريكا لصالح الفلسفة. مستشهدا في هذا السياق بكتابات الحركة الترانسنطالية لينتهي في الأخير إلى أن الفوارق بين الأدب والفلسفة في أمريكا خلال فترة دقيقة من القرن 19 لم تكن موجودة بنفس الشكل الذي كانت عليه تاريخيا في أوربا حيث انمحت تماما
أما الجلسة العلمية الثانية التي ترأسها د.ميلود العثماني فقد تميزت، أيضا، بمداخلات رصينة افتتحت بمداخلة
د.موليم العروسي"الفلسفة والأدب" انطلق فيها من استحالة الحديث عن العلاقة بين الفلسفة والأدب من دون تأمل تجربته الشخصية، ذلك أنه جاء إلى الفلسفة من الكتابة. وجاء إلى الكتابة من التأمل الذاتي الذي يحدث لأي شخص عندما يجد نفسه في فترة عمرية بعد المراهقة مباشرة يواجه العالم وأسئلته والذات وحصاراتها المتعددة.-يضيف موليم العروسي-هذا الدوران كان قد دفع بي إلى اكتشاف نيتشه وجبران وغيرهم من الكتاب الذين لا يستطيع الفكر التنميطي أن يجد لهم خانات يسجنهم داخلها. اكتشافي لهؤلاء الكتاب جعل ملكة الكتابة تتفجر لدي. غير أن ما كنت أكتبه كان يستعصي علي فهمه بعد مدد قصيرة من إنجازه. هذه الحالة دفعتني بعد البكالوريا إلى أن أقصد شعبة الفلسفة لدراسة علم النفس. لكن الاتجاه سوف يتغير حيث فهمت على الأقل آنذاك أن ما يثير اهتمامي أكثر هو الفلسفة والمياتافزيقا. وفعلا كان بحثي لنيل الإجازة، التي كانت مدة الحصول عليها في ذلك الوقت أربع سنوات، بعنوان ما القلق؟ وهل له علاقة بالكتابة؟ درست كتابات كيرجارد والنفري. هكذا اتضح لي أن الكتابة بما هي كذلك تفكير، وأن لا فرق بين الفلسفة والأدب كما تدعي ذلك العامة. إذا كانت الكتابة تعني وضع جسدك في موقع ما من العالم، وأن تأخذ موقفا محددا من ما يجري حولك، وفي دواخلك، فأنت كاتب فيلسوف أو كاتب دون زيادة في التدقيق. الكتابة التي لا تتأمل العالم وفي نفس الوقت تتأمل ذاتها نقول عنها أنها سطحية، وسطحيتها تأتيها من كون صاحبها لا يقوم إلا بتكرار خطابات سمعها ولم يدخل معمعان الكتابة التي إذا ما ولجتها فقدت جزءا من سلطك المعرفية والتقنية، وأصبحت في حوار مع اللغة وحينها تكون في حوار مع التاريخ أي مع الأحياء والأموات وأؤلئك الذين لم يولدوا بعد. في حوار مع الطبيعة بما هي فيزيس وفي حوار مع الكوسموس. لا تسيطر على شيء، وإنما تتفاوض على موقع لك داخل هذا التركيب العجيب. هذه هي الكتابة وهي الحكمة وهي الفلسفة، وقدم د.عبد الرحيم جيران مداخلة موسومة ب"الهوية والسرد" تناول فيها موضوع الهوية في السرد، ومهد لها بالحديث عن كونه يرى إلى الهوية من زاوية مغايرة لما هو مقيد بالنظر المجرد في الخطاب الفلسفي، إذ عمل على صياغتها من زاوية التخييل من دون تجاهل تقاطع مقتضياتها التخييلية بما هو فلسفي. وابتدأ، في تحديدها تخييلا، من بسط مسألة الهوية من زاوية المقارنة بينها كما تحدد خارج الخطاب، وهي تتعين داخله. وهذه المقارنة أفضت به إلى معالجتها من زاوية بلاغية خطابية، إذ رأى إليها في هذا المستوى انطلاقا من تجريد التشبيه وملموسية الاستعارة. وبعد ذلك تحدث عن نوعين من الهوية السردية: الهوية التأكيدية، والهوية المجاوزة. وفي غضون ذلك أشار إلى أنه يبني هذين النوعين انطلاقا من شرطين نظريين هما: أولهما الرؤية إلى النوعين في ضوء الزمن، ومن ثمة كان لا بد أن يرى إليهما في تطور الحكي الذي حدده في مرحلتين هما المرحلة العتيقة، والمرحلة الحديثة، وثاني هذين الشرطين يمثل في التجديل بين الماهية والفعل. لكن وهو يفعل ذلك ذكر برؤية بول ريكور، وأشار إلى أن الشخصية لا تعد مجرد تخييل منقطع عما هو ابستيمي، وكذلك الفعل، وهو بذلك يرى أن الهوية التخييلية هي تجسيم متنوع على خلفية معرفية تشرط كل إنتاج جمالي، لكنها تفعل ذلك- وهي تؤسس نفسها على هذا النحو- وفق مستويات نصية. وقارب د. محمد بوعزة من جامعة مولاي اسماعيل في مداخلته "ميتافيزيقا الرواية: من التجريد إلى التشخيص" إشكالية "تفكير" الرواية. كيف تفكر الرواية في الوجود؟، حيث انطلق من التأسيس الابستيمولوجي والفلسفي لمسألة "فكر الرواية"، ليوضح أن العلوم المعرفية والأنثروبولوجية الثقافية أكدت البعد الميتافيزيقي لوظيفة السرد في تفسير العالم وتأويله، وبالتالي إنتاج "معرفة" بالعالم. هذا البعد المعرفي لم يكن غائبا عن مرجعيات الرواية عبر مسار تطورها، الذي يظهر في النقلة الابستيمولوجية التي أحدثتها الرواية من الأزمنة الاسطورية إلى الأزمنة الحديثة، حيث اكتشفت الوضع الأنطولوجي المعقد والمطبوع بالعماء لتجربة الإنسان في العالم الحديث. ويمكن اعتبار" اللا يقين incertainty الإبستيمولوجي المطلق" الذي عبرت عنه الرواية، موازيا لمبدأ "اللا تأكد" الذي تم اكتشافه في فيزياء الميكانيكا على يد "هاينزبرغ". إذ لم يعد بإمكان العالم الميكانيكي التنبؤ بأي نتيجة محددة للمشاهدة، بل فقط بعدد من النتائج المحتملة. هذه الدلالات المرتبطة بالعجز وعدم القدرة على التنبؤ والحسم التي يتضمنها مبدأ اللا تأكد، هي التي يشخصها مفهوم "اللا يقين الروائي"، ويضفي عليها أبعادا أنطولوجية أكثر تعقيدا وتشظيا. وهنا تكمن خصوصية الرواية بالمقارنة مع الفكر الفلسفي التجريدي أو العلمي البرهاني، حيث يتم تشخيص "الإشكال الميتافيزيقي" في صور حكائية دينامية، تنزاح به من مستوى التجريد إلى مستوى التشخيص. أما دة.سعيدة تاقي "الرواية واحتمالات المعنى الفلسفي" فانطلقت فيها من الرواية في واقع الكتابة، تفكِّر وهي تَـكتُب أو هي تُكتَب. ترصف أركان عالمها الخاص لتفكِّر من داخله فيه، أو في الخارج الذي يحتمله. قد تنطلق من المعطيات الحسية، لتصوغ المعنى المجرد. لكنها لا تنطلق في فعل التسريد من محسوس سابقٍ في الوجود، أو لاحق في المحاكاة، بل تبني تسريدها على معنى كامن يبحث لنفسه عن نصٍّ كي يوجَد في حيِّزه اللغوي، وكأن وجود الرواية بالقوة لا يمكن أن يكون وجوداً إبداعياً، دون الوجود بالفعل. فـالرواية وهي بصدد تسريد العالم الذي تحكيه أو تخلُقُه، تحتمل معاني الكينونة والذات والآخر والهوية والماهية والاختلاف والحرية والجمال والحق والخير والعدالة وغير ذلك.. ولأجل ذلك تسعُ كل الأفكار والمفاهيم والتصورات والمعارف والخبرات... فـهل كل تسريد روائي ينطوي على المعنى الفلسفي؟ لا أعتقد أن إجابتي تحسِن الظن بتتبُّع أحداث الرواية؛ لأن الروايات التي تعي الوجود داخل اللغة وخارجها، الروايات التي تفكِّـر وتتأمل عالمها غير مكتفية بحشد أحداثه على جسد النص، هي الرواية. أما ما دون ذلك فحكايات مطوَّلة.
. أما مداخلة د.إسماعيل شكري "الأسس الابستمولوجية للدرس النقدي الحديث:بحث في تشييد المفهوم" فقد انطلق فيها من فرضية مركزية، هي: إن النظريات النقدية الحديثة شيدت بناء على هيمنة سياق فلسفي و ابستمولوجي عام يعد ضربا من الحوار النسقي بين العلوم الحقة من جهة، والفلسفة والأدب والفن من جهة أخرى، ناهيك عن كون هذا الحوار بين الأنساق الفلسفية والعلمية والفنية هو أيضا أجوبة مضمرة أو معلنة عن أسئلة العصر الحديث السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية . هكذا، هيمنت استبدالات فلسفية أساسية على المعرفية الإنسانية الحديثة تتلخص في: استبدال نظرية الانعكاس/ الاستبدال الظاهراتي/ استبدال الإنسان بنية/ استبدال الأنسان علامة/ استبدال التفكيك/ استبدال الإنسان حاسوب، أي الاستبدال التشييدي النسبي. ذلك أن الدرس الأدبي الحديث شهد تحولات عدة وفق سيرورة تلك النماذج المعرفية التي انطلقت من معالجة إشكالية كبرى هي إشكالية العلاقة بين الجسد والفكر. من ثم، أكد الباحث أنه بقدر ما هيمن النسق الفلسفي الأرسطي، بشكل مضمر أو معلن، على الفكر التنويري و على أنساق النظريات الأدبية الاجتماعية و الظاهراتية والبنيوية والسيميائية، بقدر ما برزت الحاجة الملحة معرفيا واجتماعيا لتجاوز هيمنة هذا النسق الممثل لاستعارات القطب الوحيد لكونه انشغل بالبحث في الجواهر والثابث واليقيني، وهو ما تمثل في ثورة النسقين التفكيكي والتشييدي النسبي، حيث اعتمد الأول استراتيجية هدم المركز والجوهر، بينما ركز الثاني على التشييد المعرفي النسبي لأن التفاعل وارد بين كل من الجسد والفكر و العالم ضمن نسق تجريباني. أما مداخلة د.عبد اللطيف محفوظ الموسومة "التمثل في الفلسفة وفي الأدب" والتي انطلق فيها من محور عنونه ب"عن الفلسفة والأدب: أية علاقة؟" قارب مختلف الآراء والمواقف حول علاقة الفلسفة بالأدب، حسب الأزمنة وتصورات المفكرين، متوقفا عند فيليب سابو في كتابه (الفلسفة والأدب) الذي يعد الأدب شبحا يختبئ في دولاب الفلسفة، الشيء الذي يعني أن الأدب ظل، على الدوام، محايثا، بالضرورة، لمراحل التفكر الفلسفي وأشكال تظهيره. فسابو عمل في هذا الكتاب على استقراء التفاعل بين الشكلين في محطات أساس من تطور الفكر الفلسفي، منطلقا من المرحلة السابقة على سقراط، حيث كان التواصل قائما بين الحقلين التجسيديين مع هيراقليط وبارمينيد وأومْبادوقليس وغيرهم، لكن هذا التواصل سيشوش عليه من قبل أفلاطون الذي سيعد الشاعر مجرد صانع للأوهام، بينما سيحتكر الفيلسوف، وحده، صياغة الحقيقة، لكن أفلاطون نفسه سيضطر، وهو يبخس آليات الشعر ويدينه، إلى الالتجاء إليه، ليعمد، مرغما، إلى آليات الشعر من صور واستعارات وأساطير.. -يضيف الباحث محفوظ- أن هذا التمايز الذي رسخته فلسفة أفلاطون سيعرف تعديلا حاسما مع نتشه الذي جسد التفكير الفلسفي بنَفَسٍ وذَوْقٍ فَنِّيَيْنِ، وقد ترك ذلك أثره في أعماله الحافلة بالصور البلاغية. وإلى جانب آثار التجسيد اللغوي عمل على التشكيك في تفوق الحقيقة على الوهم، ورفض الخضوع بشكل لا مشروط لإكراهات الانسجام والحجاج المبجلين من قبل الفلسفة.
إن هذا الصنيع المتمثل في الكتابة الفلسفية، باهتمامات جمالية مع الإعلاء من شأن صانع "الأوهام" الذي هو الفنان ضدا على صانع "الحقيقة" الذي هو الفيلسوف، سيجد صداه وامتداده الفعال في الفكر التفكيكي مع دريدا الذي سيعمل، من جهته، على التشكيك في قيمة التعارض الفلسفي بين الحقيقة والوهم. معتبرا ذلك التعارض من بقايا الميتافيزيقا التي تعمل على إخفائه في نصوصها. وليؤكد أن المفاهيم الفلسفية ذات أصل استعاري، وبذلك يذكر الفلسفة بما تصر على إنكاره وهي تسعى إلى الاستحواذ على مرتبة التخصص المستقل بذاته. وما يكشفها حقا هو أنها متورطة في الألاعيب اللغوية. ويتمظهر ذوبان ذلك التناقض في تصوره للكتابة بعدها تجديلا مخصوصا بين الأدب والفلسفة. إن هذا التصور الجديد سيترسخ أكثر مع الفلسفة المعاصرة والحديثة التي تنحو نحو التعبير عن الأفكار باللجوء إلى الاستعارات والمجاز إلى جانب الاستدلالات والمفاهيم. لينتقل تحت هاجس الحفر المعرفي إلى الحديث عن موضوع الفلسفة والأدب يشتركان في إنتاج المعرفة، ويختلفان من حيث موضوعُهما ولغتُهما وأشكال التمثيل. أما بالنسبة للفلسفة الكلاسيكية بخاصة فقد تحدد موضوعها في قضايا تنوعت بين التأمل في أصل الكون وطبيعة الوجود والمعرفة وماهيات الأخلاق، وتمفصلت موضوعاتها الأساس إلى مباحث كبرى:الوجود، والمعرفة والقيم الإنسانية، وهي موضوعات متضافرة غالبا ما تنسجم داخل نسق موحد عند الفلاسفة الكبار، وتقدم ذاتها في مجوع موصف للحقيقة. أما موضوعها وفق التصور الحديث، والذي يمكن تَبَيُّنُهُ، بشكل أقوى، مع دولوز، فيتجسد بخاصة في وضع المفاهيم، ومن ثمة، فإن الفلسفة تصبح تفكيرا مضاعفا، تفكيرا مضادا لتفكير سابق، أي تفكيرا في التفكير، ويشير مجفوظ إلى أن سابو يدلل على ذلك بتعديد المنجزات التي ابتدعها الفلاسفة الكبار، فقد أبدع أفلاطون المثال، وأبدع أرسطو الجوهر، وديكارت الكوجيطو، واسبينوزا التعبير والمحايثة، ولايبنز الموناد، ونيتشه القيمة والمعنى، وفوكو السلطة، ودولوز الاختلاف.. إن موضوع الفلسفة الحديثة، إذن، إبداع المفاهيم وليس التأمل أو التواصل. أما موضوع الأدب فيتصل بالمؤثر الإدراكي precept والمؤثر الانفعالي affect لأن الفن عموما ينشغل باللامتناهي مدركا من خلال المتناهي، عبر آثار جمالية وإحساسات مركبة.
لينتهي في الأخير إلى أن التمثل الشكلي للموضوعات يمكن تأطير فوارقه انطلاقا من فلسفة بورس حول التمثل، والتي يحددها انطلاقا من المقولات الظاهراتية الثلاث: الممكن والوجود والضرورة. فالفلسفة تمثل موضوعها انطلاقا من نفس البناء النسقي لغةَ وفكراَ، لأنها لا تتجزأ إلى أجناسَ وأنواعَ، ومن ثمة فإنها، تحدد موضوعها عن طريق اللغة، ويؤدي ذلك إلى التجريد، ولا يمكن للتجريد إلا أن يتموقع في مقولة الوجود المرتبطة بالواقع كما يُتَصَوَّرُ من قبل الذات المدركة في رد فعلها تجاه ذاتها واتجاه الواقع. وعن طريق البناء النسقي تسعى التصورات الفلسفية إلى أن ترقى إلى مستوى الضرورة لكي تصبح آلية للانحلال لكي تحل معضلات الوجود. بينما يتميز الأدب بالتعدد التجسيدي ممثلا بتعدد الأجناس والأنواع، ولذلك فإن مسار تشكله مختلف، لأنه يجب أن ينبني في الذهن في شكل فكرة، وهذه الفكرة يجري تطويرها بشكل مراقب من قبل قواعد الأجناس والأنواع، وبذلك تغدو قيود الجنس آلية محولة لمستوى التعامل مع اللغة التي لا تصبح مستعملة وفق شكل وجودها الأولي والطبيعي، بل تغدو مستدعاة في مستوى ثانوي، سواء أتعلق الأمر بالأجناس السردية التي تقتضي تحويل الفكرة إلى حبكة، أم بالشعر الذي يستوجب تحويلها إلى صورة. وفي جميع الأحوال تصبح اللغة وهي تخضع للقيود الأجناسية تشخيصا مضاعفا، الأمر الذي يعني أنها تُنْتَجُ في مستوى الممكنات وحسب. يتبين، إذن، أن الفارق بين الجوهري بين الفلسفة والأدب ليس في تمثل العالم، بل في مستوى تمثله وحسب.